الباشاوات الجدد
بدرالدين حسن قربي
نقل لنا التاريخ الحديث أن رجلاً اسمه أحمد جمال باشا حكم بلاد الشام، فكمم الأفواه، ومارس ظلماً وبطشـاً على عباد الله بشـتى طوائفهم. في عهده فاض كيل الناس مظالم ونكبات، وزادوا فقراً ومرضاً، وعاشوا غرباء في أوطانهم كما ارتكبت في عهده مآسٍ إنسـانية ومجـازر فظيعة. فقد تمّ في عهده إعدام أحد عشر رجلاً من رجالات الفكر وأصحاب الرأي في آب/أغسطس 1915، ولحقهم واحد وعشرون أمثالهم في 6 أيار/ مايو 1916 بعد محاكمة صورية في عاليه/لبنان، سبعة منهم علقوا في ساحة المرجة الدمشقية، وبقيتهم في ساحة البرج البيروتية، فكان جمعهم 32 رجلاً.
ومنذ ذلك اليوم تم تغيير اسم الساحتين ليصبح اسم كل منهما «ساحة الشهداء» تكريماً لهؤلاء الرجال الذين قضوا من أجل حريتهم وسيادتهم، واعتمد فيما بعد تاريخ 6 أيار من كل عام ليكون ذكرى لهؤلاء الرجال وأمثالهم في(شام ستان)من فرسان الرأي والكلمة في وجه الظلم والفساد، وللذين استشهدوا دفاعاً عن وطنهم وحريته وسيادته واستقلاله، كما تمّ إطلاق لقب السـفّاح على هذا الوالي الظالم والمستبد ليصبح اسمه ولقبه الدائم من بعدها ( جمال باشـا السفاح).
قيل وقتها بأن الوالي قَدِم من طرف الباب العالي ومعه ملفات تهمٍ لهم، بتوهين نفسية الأمة وإضعاف الدولة بدعوتهم للانشقاق عنها والخروج على السلطة، جاهزة ومحضّرة، وكان ينقصه المحكمة العرفية الاستثنائية فأمر بتشكيلها لهذا الغرض الطاريء لمجرد وصوله في عاليه. ومن ثم صدرت أحكامها عليهم بالإعدام للاعتبارات السابقة. وعليه، فقد تجددت الجدلية بين جماهير مقموعة بالاستبداد ومضطهدة بلقمة عيشها تقول بأنهم ضحايا فكر ورأي ومطالبة بالحرية والحقوق المدنية، وباشا زعم خروجهم على القانون والسلطة والنظام العام، فأصابهم ماأصابهم من عدالة ولايته وقانونية مشانقه.
ومن ثمّ فمابين ماضي الاحتلال وحاضر الاستقلال فيما عنه يقال، مازالت الأفواه مكممة منذ عشـرات السـنين والحريات معدومة، والأحكام العرفية وقوانين الطواريء سيف قائم على رقاب العباد، والظلم والبطش شـغّال عمّال على بطّال، وأما الفسـاد والفقر والنهب فأمره تطاول وطال، أما المآسي والمجازر فقد كثرت وتعددت وساء الحال.
قتل الباشا من معارضيه 32 رجلاً فحاز على لقب السفّاح، ومن ثمّ فأي لقب يحوز من قَتل الآلاف من مواطنيه شباباً وشيوخاً وعلماء ومفكرين فضلاً عن عشرات الآلاف من عامة الناس وجماهيرهم وفيهم النسـاء والأطفال والعجّز والمعوقين، وبماذا يمكن وصف من يقتل في أقل من ساعة من ليلٍ أو نهار المئات من شعبه من طلقاء الناس ومساجينهم…؟
ولئن جعل الوالي السفاح من ساحتين في عاصمتين كبيرتين مسرحاً لتصفية رجال الرأي والكلمة الحرة بحجج واهية من الخروج على القانون والسلطة فإن الحاضرين من الباشاوات أيضاً مع حفظ الألقاب والمقامات أرادوا للوطن من شرقه لغربه ومن شماله إلى جنوبه أن يكون ساحتهم فأقاموا في كل مدينة معالم للذكرى وأقبيةً للتصفية والتعذيب إذلالاً وإخضاعاً في كلٍ منها (باشا)، ومن ثمّ أصبحنا بباشاوات وجَمَالات لاحصر لها وحجتهم مكرورة ومعادة، هي هي حجة النبّاش الأول جمال باشا.
ولئن كان السادس من أيار يوماً أسود في تاريخ الوالي الباشا، فلقد بات عندنا سـوادس وسـواديس كثيرة في الحاضر من تاريخنا لكثرة المجازر والقتل والتصفيات والحرق والإعدامات بمحاكماتٍ وغيرها، جعلت الكثير الكثير من ناسنا يترحمون على النبّاش الأول من الباشاوات لهول مايرون وماهو كائن، ونسوا حتى أسماء شهدائهم، فأصبحت ذكراهم مطوية، وبات الحديث عنهم شيئاً من الماضي وإحساساً على أن مافعله أحمد جمال باشا السفّاح رغم فحش جرائمه لم يعد شيئاً مذكوراً أمام هذه الأهوال والمشاهد، وأنه ليس إلا صعلوكاً في مدرسة الباشاوات الجدد باعتبار أن من عادة الناس أن ينسوا عظيم الهول يوم يرون الأعظم.
الرحمة والرضوان لمن قدّموا ويقدمون أرواحهم من أجل كلمة حرةٍ وموقف شجاع رفضاً للذل أوالخنوع لقيم القمع والاستبداد والفساد عند السفّاكين المتاجرين بأرواح الناس وسرّاق لقمة عيشهم من الباشاوات الجدد. والويل والعار لكل أعداء الإنسان وقيمه الإنسانية وحقوقه المدنية من سلالة جمال باشا وجنسه، ولمن طمس ذكرى مشانق 6 أيار بأهوال ماارتكب من مجازر، وبآلاف مااقترف من قتلٍ من الباشاوات الجدد.
خاص – صفحات سورية –