العلاقات الروسية ـ السورية: يد إلى موسكو والقلب إلى واشنطن
صبحي حديدي
لسنا نعرف هوية المستشار الذي نصح الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف باختيار صحيفة ‘الوطن’ السورية الخاصة، وليس أية صحيفة أخرى حكومية مثل ‘البعث’ أو ‘الثورة’ أو ‘تشرين’، لتوجيه رسالة إلى الشعب السوري في مناسبة زيارته إلى دمشق قبل أيام (هي، للتذكير، أوّل زيارة رسمية يقوم بها رئيس روسي إلى سورية، في عهد الإتحاد الروسي بالطبع، وليس في زمان الإتحاد السوفييتي).
لكننا نرجّح، اعتماداً على المنطق البسيط، أن لا يكون ذلك المستشار جاهلاً بشؤون سورية المعاصرة، ويعرف أنّ ‘الوطن’ صحيفة أطلقها ويملكها رامي مخلوف، ابن خال الرئاسة وأشدّ رجال الأعمال السوريين نفوذاً وهيمنة وسطوة وسيطرة على ميادين المال والإستثمار والتجارة والتصنيع المحلي. وإذا كان يعرف، فإنّ نصحه لرئيسه بأن يستقرّ على هذه المطبوعة بالذات لم يكن عشوائياً ولا بريئاً، وكان إرسال إشارات ذات مضامين سياسية واقتصادية هو القصد؛ لا يغيب عنها المغزى الإيديولوجي ربما، في تفضيل القطاع الخاصّ على الحكومي.
أمر آخر هو الحكم على أخلاقية هذه الخطوة، من حيث احترام مشاعر الشعب السوري الذي ـ وأنْ تساوت لديه ‘الوطن’ مع أية مطبوعة حكومية أخرى، من حيث المصداقية المهنية على الأقل ـ لا نخاله رأى فيها أقلّ من دغدغة، وبعض الغزل، لبعض أسوأ ما في الحياة الاقتصادية السورية الراهنة من أعراف رثّة. قبل ميدفيديف كان السفير الفرنسي الجديد في دمشق، إريك شوفالييه، قد استهلّ أنشطته الإعلامية بزيارة الصحيفة ذاتها، وكأنه أراد تثبيت سلسلة الرسائل التي سبق لرئيسه نيكولا ساركوزي أن بعث بها إلى الشعب السوري، وانطوت على منح النظام شهادة تبرئة في ملفات حقوق الإنسان والحرّيات العامة.
وفي كلّ حال، ليس للمرء أن يستغرب خطوات كهذه، روسية أو فرنسية أو بريطانية أو ألمانية… إلا حين تأخذه السذاجة مأخذ مَنْ يصدّق خطاب الغرب الرسمي حول فلسفة حقوق الإنسان، وإعلاء شأنها فوق اعتبارات التجارة والمنفعة والمصالح الصغيرة.
بمعزل عن هذا التفصيل، إذاً، ثمة في رسالة ميدفيديف إفصاح عن طبيعة الملفات التي كان ينوي بحثها مع بشار الأسد، وهذا ما جرى بالفعل، كما يفهم المرء من شذرات المؤتمر الصحافي عند انتهاء الزيارة؛ وثمة ملفات أخرى تقصّد التكتّم عليها، وهي من طبيعة حساسة لا تقرّ الأعراف الدبلوماسية الخوض فيها علانية، لكنها بُحثت أغلب الظنّ بسبب من أهميتها، وبدليل الاجتماعات المغلقة المطوّلة بين ميدفيديف والأسد في اليوم الثاني للزيارة. ولعلّ هذه الطائفة الأخيرة من الملفات هي الأرفع قيمة في تحديد أفق العلاقات القادمة، ونسبة اقتسام فوائد تسخين هذه العلاقات أو تجميدها عند مستواها الراهن، فضلاً عن انعكاس مفاعيلها على مصالح الطرفين مباشرة في المدى المنظور، إقليمياً ودولياً.
ميدفيديف ـ ونقتبسه، هنا، في نصّ صحيفة ‘الوطن’ السورية ـ استذكر علاقات التعاون التاريخية بين البلدين، وعدّ ‘عشرات المشاريع الصناعية ومشاريع البنية التحتية’، وخصّ بالذكر ‘مجموعة المحطات الكهربائية على نهر الفرات، وآلاف كيلومترات من سكك الحديد، ومن خطوط الكهرباء، وكذلك منشآت الري والمياه، ومشاريع استخراج النفط، وخط الغاز حمص ـ حلب، ومصنع الأسمدة’. ثمّ انتقل مباشرة إلى ما يهمّ موسكو بصفة أولى في ميزان العلاقات الدولية، أي نظام تعدد الأقطاب، وقال: ‘قبل كل شيء يجب تفعيل الحوار السياسي المتعدد الأبعاد، وتجمعنا فكرة إقامة نظام عالمي عادل يقوم على سيادة القانون الدولي، ومساواة كل الدول أكانت كبرى أم صغرى ـ والتعامل بينها من أجل حلّ القضايا العالمية، بما فيها التحديات والمخاطر الجديدة التي نواجهها في القرن الحادي والعشرين’.
وفي فقرة لاحقة، سوف يكون ميدفيديف أكثر وضوحاً ومباشرة: ‘تتصدر في جدول أعمال المجتمع الدولي اليوم مهمّة إقامة نظام عالمي جديد، عادل ومستقر، وتفرض تعدّدية الأقطاب واقعها أكثر فأكثر على جميع المستويات في السياسة والاقتصاد والشؤون المالية، وتتقدّم إلى مكان الصدارة ضرورة البحث الجماعي عن أساليب مواجهة التحدّيات والمخاطر الشاملة’. وبعد استعراض مشكلات التقلّبات المالية والاقتصادية، والنزاعات الإقليمية والمحلية، والإرهاب والجريمة العابرة للحدود، والتحدّيات الغذائية والمناخية التي تشكل تهديداً للتنمية العالمية؛ اعتبر الرئيس الروسي أنّ هذه جميعها تملي جدول الأعمال التوحيدي، وضرورة انسجام العلاقات الدولية على أساس التقارب والتأثيرات المتبادلة بين الاقتصاديات والثقافات المختلفة’.
وعن ‘المواضيع الملحّة للأمن الإقليمي’، التي رأى أنها سوف ‘تحتلّ مكانة خاصة في المباحثات’، اعتبر ميدفيديف أنّ العالم بأجمعه كان قد قدّر ‘القرار البعيد النظر’ الذي اتخذه حافظ الأسد في ‘خياره الاستراتيجي لمصلحة التسوية السلمية في الشرق الأوسط’، منوّهاً بأنّ الأسد الابن إنما ‘يتابع مسيرة والده، فيما يتعلق بالتقدّم نحو هذا الهدف’. ولم يفوّت فرصة التأكيد على دور روسيا، بصفتها العضو الدائم في مجلس الأمن الدولي وعضو ‘الرباعية’ الشرق الأوسطية، في بذل ‘جهودها الجادّة من أجل المساعدة على إعادة إطلاق الحوار العربي ـ الإسرائيلي’، والثقة بأن ‘الأطراف سوف تبدي مسؤوليتها التاريخية عن مستقبل شعوبها وتتخذ خطوات جديدة باتجاه بعضها’.
وللوهلة الأولى لا تبدو هذه النقاط مدعاة إشكال في العلاقات بين البلدين، وأنها أقرب إلى تحصيل حاصل متفق عليه ويحظى بإجماع طبيعي، لولا أنّ ما وراء الأكمة فيها يُظهر منطقاً آخر مختلفاً، لعلّه يطيح بقسط كبير من روحية الاتفاق. ذلك لأنّ النظام السوري يمدّ يد الصداقة إلى موسكو، ولكنّ القلب يخفق لهفة على تحسين العلاقات مع واشنطن، قبلئذ وبعدئذ وفي الغضون، فهذه لا تكتسب الأولوية على المستوى العملي التكتيكي فحسب، وإنما قد تكون الغاية القصوى والعليا على المستوى الاستراتيجي كذلك. وموسكو لا تجهل هذا، كما للمرء أن يتخيّل بيسر، بل كانت تقيم التوازن مع نظام بشار الأسد على هذا المعيار طيلة عهد الرئيس السوري السابق فلاديمير بوتين، وحتى سنة 2005 عندما قرّر الأسد اتخاذ خطوة نوعية تجاه موسكو حين ضاقت به سبل ترطيب الأجواء مع واشنطن.
ذلك، في مضمار آخر، جعل العلاقات الروسية ـ الإسرائيلية أفضل حالاً من العلاقات الروسية ـ السورية، لا سيما في عهد رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون، الذي خالف الولايات المتحدة ومعظم الدول الغربية في رفض إدانة سياسة الحديد والنار التي اعتمدتها موسكو في بلاد الشيشان، بل لجأ إلى النقيض فباركها وامتدحها. ولعلّ واقعة قيام بوتين بزيارة إسرائيل ومصر، ولكن ليس سورية، في نيسان (أبريل) 2005، أي بعد أقلّ من ثلاثة أشهر على زيارة الأسد إلى موسكو (حين لاح أنّ العلاقات عادت متينة، بدليل استعداد موسكو لتزويد سورية بصواريخ ارض ـ جوّ متطورة)، كانت بمثابة تذكرة صارخة بأنّ المياه لم تعد تماماً إلى مجاريها، وأنّ خيار الأسد في اللعب على حبال روسية لشدّ انتباه المتفرّج الأمريكي ليست خافية على موسكو.
وفي مضمار ثالث، جيو ـ سياسي إقليمي ودولي، كانت موسكو تضع العلاقات مع سورية في إطار الفلسفة ذاتها التي أخذت تقود نهجها على امتداد المنطقة، والتي تقوم على ركيزة أولى بسيطة: نحن أصدقاء مع الجميع، أنظمة ‘الإعتدال’ مثل أنظمة ‘الممانعة’، وإسرائيل مثل طهران، و’حماس’ و’حزب الله’ مثل السلطة الوطنية وجماعة 14 آذار في لبنان… والفيصل في هذا كلّه مصالحنا الاقتصادية العليا، وهي وفيرة ويمكن أن تكون مجزية تماماً، من جهة أولى؛ واكتساب سكوت الشارع العريض المسلم، السنّي بصفة خاصة، عمّا ارتكبته وترتكبه موسكو من مجازر وأعمال قمع في بلاد الشيشان.
وأخيراً، في مضمار اقتصادي واستثماري صرف هذه المرّة، كانت موسكو وتظلّ متلهفة على استرداد سوقَيْن وفيرَيْ المردود في الشرق الأوسط، السلاح والتكنولوجيا النووية، ومن الحماقة المطلقة أن لا تبذل موسكو كلّ جهد ممكن لاستغلال هذين السوقين على أقصى نحو متاح. لقد اتضح هذا في الإشارات العابرة إلى مستقبل التعاون التكنولوجي النووي بين موسكو ودمشق، ثمّ في الاتفاقيات المعلنة والصريحة مع تركيا أثناء زيارة ميدفيديف التي أعقبت زيارته إلى دمشق. ولم يكن بغير مغزى خاص، يغمز من قناة النظام في دمشق، أنّ رسالة ميدفيديف إلى صحيفة ‘الوطن’ السورية انطوت على تذكير بأنّ حجم التبادل التجاري بين البلدين بلغ مليارَي دولار في عام 2008، لكنه هبط إلى 1.136 مليار دولار في عام 2009. ولعلّ اللباقة الدبلوماسية هي التي منعت ميدفيديف من اقتباس الأرقام النظيرة، الأعلى والمتصاعدة باضطراد، لواقع الميزان التجاري بين الإتحاد الروسي وإسرائيل.
وأمّا الملفات التي تكتّم ميدفيديف على الإشارة إليها، فإنها متعددة الجوانب بدورها، وقد تبدأ من تطوير القاعدة البحرية الروسية في طرطوس، وتمرّ بالإعراب عن تحفظ موسكو على تصدير السلاح الصاروخي الروسي إلى ‘حزب الله’، ولا تنتهي عند حضّ قيادة ‘حماس’ على تسهيل صفقة إطلاق الجندي الإسرائيلي الأسير جلعاد شاليط. في هذا كله تحرص موسكو على الظهور بمظهر القوّة العظمى الحاضرة في الشرق الأوسط على نحو ‘مسؤول’ و’متعقّل’ يسعى إلى التهدئة والسلام، وليس إلى التسخين والحرب، الأمر الذي يشكّل في ذاته مصلحة روسية عليا ضمن منظورات النظام الدولي الراهن والعلاقات الجيو ـ سياسية والاقتصادية والأمنية مع الولايات المتحدة، والحلف الأطلسي، والغرب عموماً.
والمرء، بالطبع يتمنى أن تلعب موسكو أي دور حيوي يكسر نظام القطب الأمريكي الواحد، لولا أنّ التعويل على روسيا الراهنة هو ضرب من الاتكاء على قوّة عالقة في شباك مآزقها المحلية والوطنية ذاتها، قبل مآزق الكون. وليس جديداً التذكير بأنّ روسيا تعاني من انحدار متواصل في مستوى المعيشة، وتآكل ثابت في القدرة الشرائية، وفشل متواصل في الخطط الاقتصادية، وتضخّم وعجز وبطالة وعصابات مافيا. وروسيا العقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين ترتدّ إلى ما يذكّر بروسيا أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وكأنّ مشاهد البلاد اليومية قفزت مباشرة من أفلام سيرغي ميخائيلوفيتش أيزنشتاين. الدولار هو العملة الوطنية في الأسواق والمصارف والشوارع، والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي هما السيف المسلط على عنق السيادة الوطنية، تماماً كما هي الحال في أكثر أنظمة العالم الثالث عجزاً وضعفاً واستسلاماً.
وإذ ترتدّ هذه الأيام إلى ما يشبه المربّع الأول في حسابات القوّة الدولية، فذلك لأنها تعود من بوّابة واحدة وحيدة هي كاريكاتور التحديث الليبرالي، الذي يتجلّى في صورته الأكثر بشاعة وإثارة للرعب: مخلوق ديناصوري نووي اغترب عن هويته وعن أطرافه الجغرافية والسكانية (25 مليون مواطن روسي يقيمون في بلدان الجوار غير الروسية)، لا يستطيع التقدم خطوة إلى الأمام إلا إذا توقّف في المكان بمعدل زمني يساوي خطوتين إلى الوراء.
فأيّ غرابة، إذاً، في أن لا يتورّع هذا الديناصور عن مغازلة ذئاب النهب في سورية؟
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –