صفحات ثقافية

إيتل عدنان المترحّلة العاشقة

null
طفلة في الخامسة والثمانين تقف على حدة فوق خريطة الإبداع العربي، جامعةً بين الرسم والشعر والمسرح والرواية، بين باريس وسان فرانسيسكو و… بيروت التي تحبّها كعشيقة عتيقة
سناء الخوري
يكفي أن تسألها عن الحبّ، إذ تضيع منك الأسئلة في حضرة هذه المرأة الاستثنائيّة التي تسحرك بعفويّتها القاطعة، وبساطتها الآسرة. مرّةً، قرأنا لها أنّ الحبّ «موجة قوّة مطلقة، تخلق إحساساً بالغرق، وحاجة يائسة لتجميد الحبيب في الزمان والمكان. إنّه مسألة مطلق».
في الخامسة والثمانين، يبدو أنّ الحبّ صار حكمة إيتل عدنان الوحيدة. «أن نخرج من ذاتنا، ونخلق مع الآخر لحظات خارقة»، تبادرك. «الحب هو السبب الحقيقي للوجود». تضيء كلماتها كلّ الزوايا في أعماقك، بعد ساعتين من الحكي في المدن والشعر والسياسة والحروب والرسم. تودِّعك الكاتبة والشاعرة والرسامة اللبنانية شرط أن تعدها بقراءة كتابها «عن المدن والنساء». يبقى أن تعطيك نسخة موقّعة من قصيدة «جنين» التي خطّها الجزائري الشهير رشيد قريشي لتضيء السيّدة نهارك. حين تخرج من بيتها لملاقاة بيروت، تشعر بحسرة لأنّك لم تعرف المدينة كما عرفتها إيتل عدنان. عرفت صاحبة «سفر القيامة العربي» بيروت قبل أن تصبح عاصمة لبنان المستقل. عرفتها أيضاً بعد الاستقلال وغادرتها إلى باريس ثم كاليفورنيا، وعادت إليها في السبعينيّات الذهبيّة، لتشهد انحدارها التدريجي نحو جنون الحرب الأهليّة. عرفتها خلال الحرب وبعدها، وتعرفها اليوم. علاقة صاحبة «الست ماري روز» ببيروت أشبه بعلاقة عشيقتين شاختا معاً، وما زالت الواحدة منهما قادرة على النظر، بامتلاء، في وجه الأخرى الذي دمغته السنون والمنافي.
ارتبط شعرها بثورات وحروب كثيرة، من الفيتنام والجزائر إلى لبنان وفلسطين والعراق
تسألها عن احتفاء بيروت بها ضمن برنامج «مسرح المدينة» الذي ينطلق اليوم ويستمرّ حتّى الأحد: «أن يتأخر تكريمنا أمر جيّد. في هذه الحالة، لا نبدو مُدَّعين». هكذا تتكلّم من راكمت تجربة غنية ومتشعّبة، بين ثلاث قارات، في الشعر والتشكيل والرواية والمسرح، فضلاً عن الصحافة وفن المراسلة والنضال السياسي. منشغلة هي الآن بكتابة قصيدة عن الضباب، أو «الغطيطة» كما تقول بالعاميّة اللبنانيّة. كتاب الضباب هو الجزء الثالث من مشروع شعري حمل جزؤه الأوّل عنوان «الفصول»، فيما حمل الثاني عنوان «البحر»، وقد أهدته لصديقتها ورفيقة دربها سيمون فتّال.
عن البحر أيضاً، كتبت أولى قصائدها حين كانت في العشرين. يومها، اهتدت إلى الشعر بالفطرة. «أحببته، ولا يمكن أن نفسّر لماذا يحبّ الناس». الشعر والكتابة بالنسبة إليها «نقطة لقاء بين الفكر والعالم»، مشغل للأفكار المجرّدة، تماماً كالرسم الذي اكتشفته لاحقاً. تركت بيروت لتدرس الفلسفة في «السوربون» مطلع الأربعينيات. في باريس، التقت بأوائل الطلاب الأميركيين في فرنسا، وقرّرت أن تعبر معهم الأطلسي. هناك في كاليفورنيا واصلت دراساتها وعلّمت الفلسفة وتاريخ الفنّ، واهتدت عبر التدريس إلى رغبة دفينة بخلق شيء من الألوان. لوحاتها كشِعرها: فطرة وجهد وسحر.
حين اندلعت الحرب في لبنان، كانت تعمل في الصحافة الثقافيّة في مجلّة «الصفى» ثمّ «لوريان». كانت قد عادت حينذاك من الولايات المتحدة بعد سنوات في تدريس الفلسفة. قبل تلك العودة التي كانت تعتقدها نهائيّة، كانت تزور لبنان من أجل مهرجان بعلبك. لكن، «للأسف، خلف هذا العيد، كانت هناك احتفالات دامية تتحضّر». تستعيد ذلك المنعطف القاسي اليوم: «كنت أرى الناس من كلّ الأطراف، وفهمت أننا ذاهبون إلى الكارثة». كتَبت قصيدة قبل الحرب، عن مدينة تتجه نحو الجحيم على متن القطار السريع. «شعرت لاحقاً أنّها كانت نبوءة للمجزرة التي بدأت عام 1975 وكان عنوانها L’express Beyrouth —->Enfer. وتستدرك: «لكنّ الشعر يفيد ولا يفيد أحياناً».
القصيدة لم تتمكّن من إيقاف الحرب، لكنّ الحروب الأخرى تركت بصماتها على قصيدتها. «الحرب الأصعب ليست تلك التي نخوضها مع إسرائيل، بل إنها الحرب على الجبهة الداخليّة المهددة بسبب الانقسامات. بلد ضعيف من الداخل لا يمكن أبداً أن يفوز بأي حرب». تتحدّث الشابة الثمانينيّة بصفاء نادر، بروح طفلة ولسان أسطورة. «ليست إسرائيل وحدها من يجتاح لبنان، هذا البلد الصغير تجتاحه أيضاً ثقافة السطحيّة والابتذال».
كان قدر عدنان التي تجمع روافد عدّة شاميّة وتركيّة ويونانيّة ولبنانيّة، أن يرتبط شعرها بحروب وثورات كثيرة. فلسطين ولبنان والعراق. حرب الفيتنام التي كتبت ضدّها قصيدة شهرتها في الولايات المتحدة. حرب التحرير الجزائريّة التي جعلتها تنقطع عن الكتابة بالفرنسيّة. علاقتها بالفرنسية إشكاليّة… ابنة روز ليليا (اليونانيّة) وأصاف قدري (السوري) تحمل من طفولتها تجربة مريرة مع مدارس الراهبات. «ما زلت أكرههن لأنّهن حرمنني تعلّم العربيّة. لاحقاً، حين صرت صديقة أدونيس ومحمود درويش، كنت أحزن لعجزي عن مشاركتهما الحديث بالعربيّة».
الحلّ لمعضلة اللغة وجدته حين بدأت «ترسم بالعربيّة» كما كتبت مرّةً. لكنّها لم تصفح بعد عن الراهبات لسبب آخر. «كنّ يظهرن اشمئزاراً من ديانة والدي: إيتل المسكينة والدها مسلم». لكنّ الدين لم يكن هاجساً أساسيّاً في حياتها. «سارتر أحببته كثيراً في صباي لأنّه علّمنا أن الإنسان يمكن أن يكون أخلاقياً من دون دين». رأت أبا الوجوديّة مرّة في باريس، كان جالساً مع سيمون دو بوفوار في أحد مقاهي الحي اللاتيني… «لكنني لم أجرؤ على إلقاء التحيّة عليه».
شهدت بيروت ولادتها الأدبية الأولى… وفي الولايات المتحدة كُرّست بين كبار الكتاب الأميركيين
وتغرف من معين الذكريات واقعة مهمّة. ذات مرّة كتبت قصيدة «خمس حواس لموت واحد»، عن انتحار صديقة لها: «كان ذلك قاسياً. موت الأشخاص الذين نتعلّق بهم، يطفئ شيئاً ما في حياتنا». ترجمها يوسف الخال لنشرها في «شعر»، لكنّ الشاعر اللبناني تردد في ترجمة القصيدة التي تخاطب المؤنّث، قبل أن يرضخ لإصرارها على عدم تغيير الحبيب المخاطب إلى صيغة المذكّر! إيتل عدنان نصيرة دائمة للأنوثة، ونسويّة بمعنى «إعطاء في حياتها أيضاً. غاندي وعبد الناصر وكمال جنبلاط، ثلاث صور تسكن خيالها. تتحدّث عن الأخير بكثير من الإعجاب، فقد «كان فيلسوفاً على طريقته»، لكنّ بطلها المطلق يبقى بدر شاكر السياب. اليوم، تعيش عدنان بين باريس وكاليفورنيا وبيروت. أيّ مِن هذه المدن موطنها؟ في الولايات المتحدة، عاشت نصف قرن، كتبت أشعارها وكُرّست بين كبار الشعراء الأميركيين. باريس فسحتها على أوروبا. أما بيروت التي شهدت ولادتها الشعريّة الأولى، وورثت أوهامها… فتربطها بها علاقة تستعصي على الوصف. لنقل إنّها تحبّها كما نحبّ عشيقة عتيقة يرافقنا طيفها على دروب الحياة. الشاعرة المتمسّكة بهويّتها، والملتزمة عضوياً بالقضايا العربيّة، تتقاسمها لغات أخرى، لكنّها تحمل الوطن… الوهم على ظهرها أينما حلّت.
7:00 مساء اليوم: الافتتاح بمعرض لإيتل عدنان، وموسيقى زاد ملتقى، وكلمات وزير الثقافة سليم وردة ونضال الأشقر وفواز طرابلسي وإيتل عدنان، أغنية لجاهدة وهبي، فيلم المخرجة اليونانية فوفولا سكولا، مسرحيّة «في قلب قلب جسد آخر» لناجي صوراتي. الجمعة والسبت والأحد: ندوات وقراءات بمشاركة: عباس بيضون، سمير الصايغ، رافع الناصري، حنان قصاب حسن، أمل ديبو، مي مظفر، نزيه خاطر، إسكندر حبش، مهى سلطان، زاهي وهبي، محمد علي شمس الدين، عيسى مخلوف، عبده وازن، عقل العويط، أنطوان الدويهي، جمانة حداد، حمزة عبود، وآخرين. للإستعلام: 01/753010

من مؤلّفاتها المتوافرة في المكتبات: «27 تشرين الأول 2003» و«يوم في نيويورك»، عن الفرنسيّة خالد النجّار (شعر/ «دار التوباد»، تونس ــ 2004 و2006) * «هناك ــ في ضياء وظلمة النفس والآخر»، عن الإنكليزيّة سركون بولص (شعر/ «دار الجمل»، كولونيا ــ 2000) * «قصائد الزيزفون» عن الإنكليزية فايز ملص (شعر/ «دار النهار»، بيروت ــ 2001) * «رحلة إلى جبل تملباييس» (نصّ/ Amers، بيروت ــ 2007)* «في قلب قلب وطن آخر» / شعر، و«الست ماري روز»/ رواية (بالفرنسيّة، Tamiras، بيروت ــ 2010)
«الست ماري روز» قتلت ذبابة في القصيدة
نوال العلي
وضعت إيتل عدنان سكيناً في حزام «الست ماري روز»، روايتها الوحيدة التي كتبتها بالفرنسية بعد اندلاع الحرب اللبنانية بثلاث سنوات، وعرّبها جيروم شاهين («المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر»، 1979)، وتعيد إصدارها «دار تاميراس» أخيراً بلغتها الأصلية. تتحرك الرواية في زمن الخوف. تنتقل المَشاهد من جنازة غسان كنفاني مرة إلى محاكمة ماري روز إلى أحد الملاجئ إلى مخيّم صبرا فشارع الحمرا.
الخوف هو المحرك الرئيس للعنف والحدث والشخوص. هي لا تتردّد في أن تكتب عن سكان هذا البلد المعتادين الخوف. الخوف من ألا يستحقوا حب أمهاتهم، الخوف من أن يمارسوا الجنس أقل مما يفعل رجال آخرون في العمل. الخوف من أن يكونوا أقل تجذّراً في التاريخ من السوريين أو أقل تطرفاً في دق الأعناق من «الفلسطينيين الإرهابيين»!
بهذه القسوة تكتب عدنان. التحرر من الجذور والاغترابات المتعددة والمبكرة سبب أساسي لهذه الكتابة بلا حسابات. لكن هذا الانشقاق النبيل عن المكان، يوازيه بجدارة الانتماء إليه، الأمر الذي يعد محركاً أساسياً للإقدام على شجاعة الكتابة بتطرف عدائي عما نحب ومَن نحب. حين نتحدث عن إيتل عدنان، فلنلقِ كل ما قيل عن كتابة المرأة في سلة المهملات. هذه كاتبة مسترجلة في النص واللغة والمضمون. لغة إيتل ليست روائية بطبيعة الحال، هي شاعرة بكل ما أوتيت من بلاغة ولغات متعددة، وتمكنت في هذه الرواية من الاستقواء على السرد شعرياً. حتى إن شاعرية اللغة لن تتنقص هنا من قيمة النثر بل ستضيف أجواءً درامية طقوسية على بنية الرواية المستندة إلى حادثة واقعية عن ماري صديقة طفولتها التي تقتل أثناء الحرب.
شخصية ماري روز هي المرأة اللبنانية الناشطة اجتماعياً والمناصرة للقضية الفلسطينية. لكن بوقوع الحرب الأهلية، يكون تاريخها الشخصي سبباً في إدانتها من قبل أحد الأطراف الذين يخضعونها لمحاكمة تنتهي بقتلها. لكن مسار الخطاب ولغة المحاكمة تجعلان القتلة متّهمين. قدّمت عدنان قراءة مستفزّة للحرب إلى درجة منعت الرواية في الثمانينيات في الجانب الشرقي من بيروت. وبالعودة إلى لغة إيتل، فهي ليست من كاتبات المدرسة الاعترافية ولا هي صاحبة ترف وجداني وليست مهراقة أيضاً. إنها الشاعرة التي تقتل ذبابة في القصيدة. ولو كانت دولة، لحطّمت عالماً بأكمله. لكنها في «الست ماري روز» حطمت بالفعل عالماً مغلقاً، وكانت من أوائل من خاضوا في سقوط الأخلاق وانكشاف العنف الطائفي اللبناني، خصوصاً خوضها في موقف بعض المسيحيين من الفلسطينيين إبّان الحرب.
قصيدة تفضّل الموج على البحر
حسين بن حمزة
نكاد لا نجد تجربة شعرية شبيهة بتجربة إيتل عدنان في شعرنا الحديث. لا نعرف أصلاً إن كان مجدياً البحث عن موضع ومكانة محدّدين لشاعرة لم تكتب بلغتنا، ولم تكترث لتصنيفاتنا الشعرية والنقدية. لم تنتمِ هذه الشاعرة المتفرِّدة لجيلٍ أو تيارٍ أو حساسية شعرية مشتركة. اختارت الفرنسية في البداية، ولكن من دون أن يُخضعها ذلك لتمزُّقات ملفَّقة وغير مثمرة على صعيد الهوية الشخصية والشعرية. بطريقة ما، خلَّصتها الكتابة بالفرنسية من الماضي غير المرن للجملة العربية. لم تعد محتاجة إلى نبرة ذاتية ومزاجٍ عربي خاص، لكنها ـــــ في الوقت نفسه ـــــ لم تصبح شاعرة فرنكوفونية.
حين انتقلت إلى الكتابة بالإنكليزية، بدا أنها تحررت نهائياً من أثقالٍ عديدة وصار في استطاعتها أن تحلِّق، خفيفة وطازجة، بأجنحة مبتكرة من التجربة والعيش وجريان الزمن وأسئلة الحياة والكون. تحرُّرُ تجربة إيتل عدنان أبعدها عن سجالاتنا الشعرية المحلية. نحسُّ أن إقامتها في الخارج وتنقّلها الدائم بين باريس وسان فرانسيسكو وبيروت منحاها هوية هجينة ومواطَنة كونية. هذا لا يعني أن إيتل عدنان لم تشاركنا مآسينا وآلامنا وأسئلتنا الحارقة. القصد أن المحلي والعربي ذابا في منطق أوسع وأكثر إنسانية.
نتذكر أنها كانت موجودة وبعيدة في آن واحد. صحيح أن اللغة صنعت مسافة إضافية بيننا وبينها، إلّا أننا قرأنا لها قصائد ونصوصاً مترجمة في «مواقف» و«الكرمل» و«ملحق النهار». وعرفنا أن ثمة نصاً ذا مذاقٍ غريبٍ يُكتب خارج أجنداتنا الشعرية الدارجة. مع مرور الوقت، صدرت معظم أعمالها بالعربية، ولكن طريقة إصغائنا إلى أعمالها لم تتغير في الجوهر. صار في إمكاننا أن نكوِّن وجهة نظر صائبة وشاملة عن منجزها، ولكن مع إبقاء هذا المنجز على حدة. الواقع أن خصوصية هذا المنجز متأتية من عوالمه وعناصره الداخلية أيضاً، لا من معاملتنا له فقط. نقرأ صاحبة «تجليات السفر»، فنحس أننا مطالبون بلجْمِ أي مقارنة بينها وبين ما اعتدناه من تجارب عربية أخرى.
منذ البداية، مالت إيتل عدنان إلى كتابة مفتوحة على فضاءات ومناخات متعددة. في الـ 19 من عمرها، أنجزت قصيدة طويلة بعنوان «كتاب البحر»، متخلصةً من الأقفاص الضيقة للبوح الذاتي التقليدي الذي يقع فيه معظم المبتدئين.
بحسب تلك القصيدة المبكرة، كان «البحر أنثى فوق ركبتي الفجر». البداية المتفلتة من تعسُّف الذات منحتها نَفَسَاً شعرياً طويلاً، وقدرةً على إدخال عناصر ومكونات متنافرة إلى قصيدتها. هكذا صار في استطاعتها أن تكتب: «الذكرياتُ أكاليل لا جدوى منها/ لم تبعث أبداً/ ميتاً من القبر»، أو أن تعود إلى مشاغل الذات، ولكن بالنبرة الناضجة والشاسعة نفسها: «أمضيتُ عمري وأنا أصنع لنفسي أقنعةً/ وأنسجُ لنفسي دروعاً من الأسلاك الشائكة/ لكنني كما العقرب/ لسعتُ من أحبُّهم».
ثمة نكهة كونية في شعر إيتل عدنان. كأن الكتابة تمتزج هنا مع تأملات فلسفية وخلاصاتٍ شخصية متحصِّلة من حياةٍ معيشة في أمكنة ومناخاتٍ مختلفة. السفر هنا هو إحدى المنصَّات التي تسمح بكتابة رحبة وغير خاضعة لبنية خيطية بسيطة. العالم المعاصر حاضر بقوة لدى صاحبة «رحلة إلى جبل تملباييس». الروح النثرية لقصيدتها قادرة على تطويع موضوعات وقضايا كبيرة ومباشرة من دون أن يسيء ذلك إلى السويّة الشعرية. لنقرأ: «يتحدثون عن الحرية/ يربّون قططهم طعاماً للكلاب/ ويقتلون الحيتان/ ليطعموا القطط/ يبكون على الصينيين/ لأن الهنود الحمر/ قد انقرضوا هنا».
في المقابل، تحضر بيروت وفلسطين وبغداد: «كنت أستطيع الذهاب إلى المقهى المجاور/ أتأمل البرد وهو ينسلّ إلى الخارج/ بينما أنعم بالدفء، أو حتى بممارسة الحب/ بيد أنّ القنابل كانت تنهمر على بغداد». يُعيدنا المقطعان السابقان إلى فكرة النبرة غير المحكومة بشروط مسبقة، التي تسمح لنا بالعثور على ممتلكات شعرية متنوعة في تجربة إيتل عدنان المفتوحة على تأثيرات مختلفة.
الشاعرة ليست مستقيلة من تراجيديا الكوكب الذي تعيش فيه، ولكنها لا تسمح للأسئلة الكونية بإفساد رهافة شعرها. هكذا، نقرأ صوراً مشعة ومضغوطة في سطرٍ واحد، كأن تقول: «كل امرأةٍ عذراءُ إلى الأبد»، أو «أفضِّل الموجَ على البحر»، وصوراً مصنوعة من مكوناتٍ أكثر تعقيداً: «مثل فتاةٍ تعرّضت للضرب/ كانت أوراق الزيزفونة ترتعش/ وأغصانها تجفلُ كحصان».

الأخبار
في تكريم إتيل عدنان
فواز طرابلسي
سمعت أول مرة بإتيل عدنان وأنا لا أزال على مقاعد الدراسة عندما فازت في مسابقة للقصة نظمتها مجلة افريكازي. لم أعد أذكر شيئا من قصة اتيل. لكن، منذ ذلك الحين، وأنا مدمن على أدب اتيل وفن اتيل وصداقة اتيل. صداقة اتيل وصداقة رفيقتها الناشرة والفنانة سيمون فتال.
كلما أعجبني نص لاتيل، أترجمه. كثيرا ما تشبّه الترجمة بالخيانة. مارست ترجمة اتيل بما هي فعل حب ورغبة في الاستحواذ. فكل مترجم يحمل شهوة مكبوتة ومراوغة: ان يكون هو مؤلف النص لأنه ألّفه في لغته.
كيف الحديث عن اتيل في ثلاث دقائق؟ وهي سيدة الضغط والتكثيف في القول؟ يتحدث ماياكوفسكي عن الشاعر يصنّع آلاف الأطنان من الكلمات لانتاج مفردة شعرية واحدة: ويضيف «لكن، قارن قدح شرار تلك الكلمة بالاحتراق البطيء للكلام الخام». تقطّر اتيل الكلام في عملية طبيعية بل جسدية من غير جهد منجمي او صناعي. هذا هو قدح شرار كلامها: اسمعها تلخص ساحر الجاز الاميركي ديوك الينغتون بعبارة من خمس كلمات: «انه يحول الضجيج إلى مُخمل».
وهي تمارس عملية التقطير ذاتها في الرسم والتصوير. انظر إلى لوحاتها الصغيرة الحجم. ليست منمنمات تضيق رقعة الصورة لتتسع الرؤيا، مع الاعتذار من النفّري.
من كان يتصور ان هذا الوجه الطفلي يحمل كل هذا القدر من الدهاء والفطنة والعمق والمثابرة والشجاعة؟
كاتبة ومناضلة نسوية. نسويتها غير المدعية هي رهافة وقوة معا. لا تتغرغر بأن الانثى هي الاصل. ولا تغريها أصوليات نسوية متفاحلة ومعادية للذكور. تلعب بالأسطورة لعبا: المرأة هي ما فقده الرجل منذ آدم. والأنثى هي النقصان في الذكر. كأن الرجل يقضي العمر والدهور لاستعادتها. ولعل إتيل ترجع هنا صدى معادلة كارل ماركس الشهيرة التي تقول: إن المرأة هي مستقبل الرجل. لا تكتفي اتيل بهذا. تلتقط اقوى ما في الرجل لتؤنثه. تقبض على الذكر في أضعف حالاته وأجملها: حالة اللذة. ان الرجل إذ يستسلم للذة، يتأنث. واللذة مؤنث لا محالة.
واتيل كاتبة ملتزمة، بلا تبرير. هي البرهان الحي على ان التزام قضايا الحرية والعدالة والمساواة يغني الأدب ولا يفقره. بل هو التزام قابل لأن يشكل نقلات نوعية في اشكال التعبير والتفكر والجمالية. لا خطابة ولا حماسة ولا ظفرواية هنا. التجربة أغنى وأوجع. فإتيل عدنان ابنة الجيل الذي هزته هزيمة حزيران 1967 وانتشى بانتصار فيتنام ووضع المخيلة في السلطة مع طلاب وشباب العام 1968 ومجد تشي غيفارا نموذجا للإنسان الجديد واكتوى بالجرح الفلسطيني قبل ان يهلل للفدائي صاحب الكوفية. وهو ذاته الجيل الذي قدّر لبعض منه ان يعيش ليشهد على احتلال الجيش الاسرائيلي لبيروت والغزو الأميركي للعراق. غزو سجلته في نصها المدهش بعنوان «في قلب قلب بلد آخر»، حيث يتضافر الحوار والتكرار والابتكار الاسلوبي، لبناء المشهد اليومي من حياة امرأة تعيش «في بطن الوحش» فيما القنابل تنهمر على بغداد.
لعل اتيل هي اول شاعر عربي ذكّرته مأساة الهندي الاحمر بالانسان الفلسطيني المقتلع والمشرد والمجمع في معازل تسمى مخيمات. لكن بيروت الاحتلال الاسرائيلي، بيروت المقاومة، وبيروت الاقتتال الاهلي، وخزتها أكثر من أي حدث آخر للإبداع. سجلت 1982 شعرا. وفي «ست ماري روز»، افتتحت النصوص الروائية عن الحرب. وفي رائعتها «سفر الرؤيا العربي» رمزت الى هزيمة 1967 وذاكرة الحروب الاستعمارية والحرب الاهلية اللبنانية بالصراع بين شمس وقمر. «الشمس بركة دم» تقول وتردف «شاهدت بيروت المجنونة تكتب بالدم: الموت للقمر». «سفر الرؤيا العربي» نص متفرد في النتاج الأدبي عن الحروب اللبنانية قررت الشاعرة فيه ان تتحدى اللغة بواسطة الحرب. والحرب بواسطة اللغة. فككت اللغة الشعرية تفكيكا، لتتشظى مثل انفجار قنبلة او تخلع بيت او تطاير اشلاء. إمعانا في التحدي، خلطت اتيل الكلام برسوم ورموز وتعاويذ في هيروغليفية تقول عجز اللغة امام هول المأساة.
هذه المرأة التي «تفضل الموج على البحر»، وجهت رسالة إلى الشعراء تقول:
«أيها الشعراء، غيّروا العالم او اذهبوا إلى بيوتكم!».
رسالة التحدي هذه موجهة إلى جميع من ينتج في الأدب والفن والفكر.
إتيل، وانت لم توجدي الا الحب، تعرفين كم أحبك.
هذه مناسبة أخرى لتتعرفي الى الكثيرين الذين يحبونك ويقدّرون موهبتك ونبلك وشجاعتك.
أتمنى لك الحب المديد.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى