إلى صديقِ لبنانيّ: مَنْ يخافُ على مَنْ؟
بدرخان علي
غَزوة بيروت، من بين ما أصابت، حرمَتني من زيارة لبنان، البلد الذي ألفته عن بعد ومن دون أن أزوره لمرة واحدة. أحببناه بفضل صحافته الجميلة الملوّنة وفضاءات الحريّة فيه، لكن بسبب من علاقاتنا “الأخويّة”، أيضاً، التي أرساها عهد الوصاية السوريّة المديد. فقد حدّثنا الجندي والعسكري السوري “العادي” كثيراً عن جمال لبنان وصباياه الفاتنات وهذا كاف للشباب المراهق أن يحلم بقضاء بضعة أيام هناك. كثيرٌ من البسطاء، وسواهم، في بلدنا يقولون إنه لولا تضحيات الجيش السوري لما بقي لبنانيٌ على قيد الحياة ولا حجرٌ فوق حجر. مع أن معظمهم لم يلتق بأي ضابط سوري صغير أو كبير خدَمَ(؟) في لبنان كي يخبرهم بنفسه عن إنجازاته هناك. غير أنني، من جهتي، أذكر عبارة لرجلٍ كبير في السّن، غير مكترث للسياسة على الإطلاق، أخذها من أفواه شهود عيان وراح يرددّها كلما ذُكر اسم لبنان وسوريا سويّة: أن بيوتاً بأكملها نُهبت من لبنان وحمّلت على شاحنات إلى سوريا “من حليّ نسائهم إلى لحف النوم” (بالتعبير نفسه دائماً) إبّان جولة أخويّة أملاها واجب الجيرة والعروبة قبل أن يستنجد اللبنانيون بنا لحمايتهم من الهلاك المحتوم على أيدي بعضهم بعضاً (أو على يد إسرائيل).
من أقصى الشمال الشرقيّ إلى العاصمة دمشق حدّثتُ أصدقاءً عديدين: سوف أجلب الكتاب الفلاني إن كان بمستطاعي إدخاله عبر الحدود. بعضهم طلب منيّ عناوين محددة لأن الرقابة السورية لا تتساهل في شؤون الصحافة والكتب ما أمكن لها ذلك. ولا بأس، ولو خرجنا من السياق، أن نسجّل للقبضة الأمنية الإعلامية إحكامَها (رغم لا جدواها في عصر الانترنت والفضائيات). يذكر المتابعون كيف أن الإعلام الرسميّ ترجم مقابلة لرئيس الجمهورية مع صحيفة أميركية قبل بضع سنوات ونشرت بعد حذف أكثر من ربعها لأنها تدور حول الوضع الداخليّ في سوريا وهذا غير جائز في عرف أهل الحكم وبطانتهم الإعلاميّة (الحديث عن الأوضاع الداخليّة خطٌ أحمر)؛ وأن كتباً لوزير الدفاع الأسبق مصطفى طلاس مُنعت في الداخل لأنها تتحدث عن مراحل من الصراع السياسيّ في البلد (خطٌ أحمر آخر) وإن نجت منها كتب له في مديح القائد الخالد وأخرى عن الشعر وآخر عن فن الطبخ. لكني أذكر أن مقالة لسليم بركات بعنوان “تشريد المكان عن أسمائه” نشرت قبل عشر سنوات في “الحياة” تجاوزت الرقابة، لأن الرقيب كان متثائباً حينها ولم يفهمها، على الأرجح، أو ظنّها تتحدث عن كوكبٍ آخر. مع أنها من أكثر مقالاته إيضاحاً وتحديداً وتتحدث صراحة عن تغيير أسماء القرى والبلدات الكرديّة في سوريا، وكذلك عن إطلاق أسماء حيوانات بعينها على بعض المدن السوريّة.
….كنت قد نويت هذه المرة الذهاب إلى لبنان لزيارة أقارب لنا، أقاموا هناك بحثاً عن لقمة عيش. وكذلك لمقابلة أصدقاء لم أجتمع بهم يوماً. لكن غزوة بيروت، التي تزامنت مع ترتيباتي الخاصة للذهاب إلى هناك، لم تترك لنا مجالاً للمغامرة. طبعاً ليس في الأمر شُبهة مؤامرة عليّ أبداً (ومَنْ أكون أصلاً؟ وعذراً من الإكثار من “الأنا” في هذا المقال). كان مجرد خطأ في التقدير والحسابات السياسية. إذ بَدَت لي الأجواء غير منذرة بحربٍ ما أو اضطراب سياسيّ خطير في البلد المدمن على القَلاقِل والشّقاق. لا سيما أن اعتصام المعارضة، الذي كان له أكثر من سنة ونصف في سابقة نادرة على وجه الأرض، وسط بيروت قد أضحى مشهداً طبيعياً لا يشي بـ”غير” استعراض العضلات والمقدرة على تعطيل الحياة الاقتصادية للمدينة والبلد. ليس ثمة خطورة فعلية إذاً.
غير أن كلام سّيد المقاومة، في خطبة تلفزيونيّة حربيّة عنيفة وصريحة، قطعَ الشك باليقين، على وقع قطع الأيدي التي (ستمتدّ) لسلاح المقاومة: ها قد بدأت الحرب مجدداً وهذا هو إعلانها المشؤوم. لا أدري لماذا توقعت أن يقول السيّد كلمة من طَرَف لسانه (كما يقال) عن ضرورة تهدئة النفوس وعدم الانجرار لردود الأفعال وضبط التحركات. وقد خاب ظنيّ ثانية. وما هي إلا ساعات معدودات حتى تقوم المقاومة الباسلة بمحاصرة السرايا وإشاعة الخوف والقتل في بيروت وسواها. وذلك فقط لـ”تطهير بيروت من العملاء والمأجورين وتعيد لها السيادة والاستقلال”! بحسب الصحف السورية الرسمية. تلك التي لا يقرأها سوى القائمين على رقابتها وقلّة من الفضوليين ومتصيديّ الأضاليل التي يروجها الإعلام السوري منتهي الصلاحيّة وفاقدي المصداقيّة.
لم تعد الرحلة ممكنة. ليس هذا فحسب بل إن مصيبة كبيرة لاحَت لنا في الأنظار. هي الحرب إذاً. وحياة أصدقاء وزملاء كتّاب باتت في خطر. غير أن خوفنا تبدّد شيئاً فشيئاً.
بعد الهدوء وفكّ الحصار عن بيروت، كلّمت حسن داوود، صديقي الجديد عن بعد: “الأمور تحلحلت عندكم. انفرجت الأزمة” قلتُ له. فردّ علي بلغة الرياضيات، “مررنا بقطوعٍ حاد. مررنا بفترة صعبة، هناك أضرار في المبنى. بس الشباب بخير”. قلت في نفسي لبنان طوال تاريخه محشور في زوايا حادة قلّما تنفرج، لكن ليس لنا إلا أن نفرح مع أشقائنا اللبنانيين لأن شبح الحرب قد ولّى، في المدى القصير على الأقل..
وبينما أكثرتُ من قلقي على معشر المثقفين في لبنان، مع أنني من الذين لا يعتزّون كثيراً بـ “الاستقرار” في سوريا مقابل “الفوضى وكثرة الرؤوس” في لبنان، ردّ عليّ صديقي من بيروت “بالعكس نحن متضامنون معكم. قلبنا عليكم. نحن خائفون عليكم”. قاصداً حال المثقفين و النشطاء السوريين الذين يرزحون تحت رحمة رجل الأمن بلا حصانة وقوانين تحميهم ولا محاكمات عادلة تنصفهم ولا ظهير يعينهم سوى أحلامهم الممنوعة من الصّرف.
هو قدرنا إذن أن تكون معركتنا واحدة من أجل الحريّات والديموقراطية والاستقلال في سوريا ولبنان. إنها ليست مصادفة كما تبدو للوهلة الأولى. أمّا العلّة فقد قالها قبلنا الراحل سمير قصير. شهيد لبنان وسوريا: استقلال لبنان من ديموقراطية سوريا. أجدني هنا في ذكرى اغتياله الثالثة، مردداً بلا ملل تميمته المقدّسة تلك، اللازمة لبناء “الأخوّة” و”وحدة المصير” و”وحدة المسارين السوري واللبناني” من جديد. لكن في مسارٍ آخر: في الطريق الشّاقة إلى الديموقراطية والاستقلال والحرية كما حَلم سمير قصير وجبران تويني وسجناء الرأي في سوريا وسائر دعاة النهضة والإصلاح على طول هذه “الأوطان” وعرضها…. وبؤسها وشقائها.
المستقبل