صفحات سورية

تحالـف القـوة وتحالـف الضعـف

null

سمير كرم

ينطبق على سوريا ذلك القول العقلاني الذي يصف امرا ابعد ما يكون عن العقلانية… اعني واقع أنها ـ غالبا ـ مدانة ان فعلت .. مدانة ان لم تفعل. سوريا تدان اذا انفتحت وتدان بالمثل اذا انغلقت. تدان إذا فاوضت وتدان اذا امتنعت عن التفاوض. تدان اذا مانعت وتدان اذا تقبلت

طبعا هذا موقف ـ او بالاحرى موقفي ـ اولئك الذين لا يريدون ان يروا سوريا تنجز وتدخل مجتمع الامم من ابواب تختارها هي لا يختارها غيرها لها.

ينطبق هذا أكثر ما ينطبق على الولايات المتحدة وإسرائيل، وينطبق ـ ربما بدرجة اقل ـ على النظم العربية المعتدلة.

والأمر الذي لا شك فيه ان اولئك وهؤلاء لا يريدون لسوريا نجاحا ان فعلت وان لم تفعل لانهم يدركون ان لسوريا منهجا مختلفا، وان سوريا ان فاوضت تفاوض من مواقع الممانعة. انما يبدو دائما انه كلما اقتربت سوريا من موقع التفاوض تدان لان بعض من يرونها في هذا الموقع يستنتجون انها فرطت لانهم فعلوا ذلك من قبل وليس لأي سبب آخر، بل يذهبون الى انها تريد ان تصل الى اتفاق بأي ثمن. الى ان يثبت العكس وعندئذ يظهر الوجه الاخر للإدانة: انها لا تتفاوض.

هذه كلها لا تعدو ان تكون لعبة الدعاية الاعلامية او الاعلام الدعائي، التي يمارسها الطرفان القويان في الصراع الولايات المتحدة واسرائيل والاطراف الضعيفة المعتدلة نتيجة لضعفها والتي لم يعد وجودها في الصراع العربي الاسرائيلي وجودا حقيقيا او أصيلا. وكل هذه الاطراف تتمنى ان تبقى سوريا بعيدة: لا تتفاوض ولا تستعد لحرب تأتي او لا تأتي.

انما يبقى ان الولايات المتحدة (واسرائيل معها) نجحت في ان تدق إسفينا عاتيا في علاقة التحالف التي ظلت قائمة لسنوات طويلة بين الثلاثي العربي المتميز في ابعاده الاستراتيجية والجيوبوليتيكية: مصر والسعودية وسوريا.

لقد بدا للمخططين الاستراتيجيين الاميركيين خطر داهم من وراء مجرد احتمال ان يحدث تحول اقليمي نوعي لصالح هذا الثلاثي وضد مصالح اسرائيل وأميركا، اذا ما تحول الى تحالف رباعي بانضمام ايران اليه من خارج المجموعة العربية.

بدا هذا التطور وشيكا خاصة في اللحظات التي اقتربت فيها مصر وإيران اقترابا شديدا من استئناف العلاقات الدبلوماسية والطبيعية بينهما، وكانت هي نفسها اللحظات التي سعت فيها ايران الى الاقتراب من السعودية بتعهدات بأن ايران لن تنتقم من ضربة هجومية اميركية بشن ضربات انتقامية على اهداف عربية في الخليج او غيره. واقتربت السعودية بتعهدات مقابلة بأن السعودية واخواتها الخليجيات لن تفعل شيئا من شأنه أن يعد تأييدا عربيا لهجمات أميركية على إيران.

وكأنما بفعل ساحر انقطعت هذه المساعي وبدأت مساع في اتجاه إشعال الحرائق في الحديقة الخلفية للبلدان العربية والخليجية وسوريا… في لبنان وبفعل ساحر بدأت براكين فتنة طائفية تهدد علاقات المسلمين سنة وشيعة اينما كان لهم وجود. وفي لبنان فإن إدانة سوريا هي اقصر الطرق لتفسير أي تطور سلبي. ولم يعد بالإمكان مع الوقت ادانة سوريا وحدها لان ذلك «يعطيها حجماً اكبر من حجمها الحقيقي» أو ربما يجعل ايران تبدو بعيدة عن المسؤولية… وهذا غير مطلوب.

استطاع السحر الأميركي أن يقطع الطريق على التحالف الثلاثي كي لا يتحول الى رباعي قادر استراتيجيا على معاداة إسرائيل. ارتاحت أميركا الى حلول الاردن في التحالف الثلاثي محل سوريا فأصبح اضعف واقل مدعاة لقلق اسرائيل. وارتاحت اكثر الى وضع جديد اصبحت فيه ايران تبدو العدو رقم واحد لمصر والسعودية والتوابع. وبالتالي اصبح التحالف السوري الايراني مدانا بالالتصاق بهذا العدو بل الخضوع له ولمصالحه. وخلال الأزمة اللبنانية الأخيرة تردد كل ما يوحي بان سوريا (وبالتالي حزب الله) لا تستطيع ان تفعل شيئا خارج نطاق ما تريده إيران.

مع ذلك فانه عندما لاحت لسوريا فرصة مزدوجة لتأكيد نوايا ايجابية تجاه لبنان وتأكيد قدرتها على التفاوض مع إسرائيل، شاءت طهران او لم تشأ، كان لا بد ان تنطبق القاعدة ذاتها: مدانة هي (سوريا) إن فعلت وإن لم تفعل.

لقد بدا لسوريا ان هنالك على الأقل قدرا من الصحة في التفسير المتصاعد في واشنطون بأن اسرائيل اولمرت انما تتحدى نهج ادارة بوش في الباقي من شهور عمرها في اتجاهين: اتجاه الدخول في مفاوضات سرية مع حماس، واتجاه اجتذاب سوريا بطرح لا يمكن للسوريين رفضه: نتفاوض مقابل تعهد مبدئي بالانسحاب من الجولان كله. كان هذا التفسير قد وصل الى حد ان صادقت عليه رئاسة الاركان العسكرية الاسرائيلية معلنة أن باستطاعة إسرائيل العيش بدون الجولان. ثم صادقت عليه صحيفة «نيويورك تايمز» (وزارة الخارجية الاميركية الموازية كما يحلو للمراقبين للشؤون الاميركية تسميتها).

كان من الطبيعي ان يتساءل الجميع ـ بمن فيهم سوريا وبمن فيهم اميركا والسياسيون وغير السياسيين في إسرائيل ـ هل يمكن أن تكون إسرائيل جادة؟ ولعل بالإمكان القول دون خشية ان سوريا وافقت على التفاوض غير المباشر عارفة تماما بان اولمرت يمكن ان يكون جادا في الصباح غير جاد في مساء اليوم نفسه. وفضلا عن ذلك كان الطرف الوسيط في هذه المفاوضات الذي تجري من خلاله ـ وهو رئيس الوزراء التركي اردغان ـ اقرب الى سوريا منه الى اسرائيل ولا تستطيع سوريا ان تخذله.

في هذا التحرك لم يتغير موقف سوريا عما كان عليه منذ حرب تشرين الأول / اكتوبر 1973: عودة الجولان كاملة الى سوريا مقابل معاهدة سلام. هكذا نقطة في آخر السطر. وقد اضطر اولمرت اضطرارا الى حد القول بأن اسرائيل مستعدة لاعادة الجولان كاملاً ودعمه رئيس الاركان الاسرائيلي بتصريحه بان باستطاعة اسرائيل ان تبقى بدون الجولان.

وفي هذا التحرك لم يتغير الموقف السوري من إيران مع ان التوقعات في هذا الصدد ذهبت بعيدا جدا… كان ما كان من تأكيدات سوريا بأنها لا غنى لها عن التحالف الاستراتيجي مع طهران. ومضت ابعد من ذلك الى نقطة عقد اتفاقية تعزيز للعلاقات الدفاعية مع طهران، في طهران. كان هذا هو اقصر الطرق الى وأكثرها قطعية في رفض طلب اسرائيل بأن تفكك سوريا علاقاتها بإيران مقابل الحصول على الجولان. وقد أدى الرد الإسرائيلي العملي دوره في تأليب اليمين الإسرائيلي (والأميركي) على اولمرت.

وتبقى سوريا مدانة في اعين اسرائيل واميركا وفي اعين مجموعة الحكام العرب المعتدلين. فاعتدال هؤلاء تجاه إسرائيل هو شرط حياة لعلاقة هؤلاء الأمنية بالولايات المتحدة. اما الاعتدال مع سوريا او ايران فهو مرفوض بالمطلق… وحتى اسمه في هذه الحالة او تلك يصبح الوقوع في فخ النفوذ الإيراني.

لم تلبث اسرائيل ان كشفت عن نوايا مضادة عندما تبين انها تريد الاحتفاظ ببحيرة طبرية… تريد ان يكون لها وليس لسوريا الاحتياطي الاستراتيجي من مياه البحيرة. موقف إسرائيلي وصفته المحللة السياسية اليسارية الاميركية فيليس بينيس (ذي ماغازين ـ 2008528) بأنه شبيه برغبة اسرائيل في مياه الليطاني اللبناني، وبموقف إسرائيل الذي تمثل في وضع كل مصافي المياه في الضفة الغربية في الجانب الذي تسيطر عليه إسرائيل.

انهارت فكرة تفكيك علاقة التحالف السورية الإيرانية، ورفضت سوريا التنازل عن طبرية… ولا يبقى من الخطة الاسرائيلية من وراء المفاوضات غير المباشرة الا موقف الولايات المتحدة الذي يزداد تركيزا يوما بعد يوم على ما تدعوه بـ«خطة سوريا النووية» ويزداد تمسكا بإبقاء سوريا على قائمة الدول الداعمة للارهاب وموقف التحالف الثلاثي للعرب المعتدلين: مصر والسعودية والأردن. وقد ذهب إليوت أبرامز، مستشار بوش لشؤون الشرق الاوسط واكثر يهود الادارة الاميركية ارتباطا باللوبي الإسرائيلي، الى حد التصريح بأن «التفاوض مع سوريا هو بمثابة مكافأة لها»… التعبير نفسه الذي يستخدم لاعلان رفض التفاوض مع ارهابيين (…).

لا احد ـ بمن في ذلك سوريا ـ يتوقع نتيجة من وراء المفاوضات غير المباشرة. ولعل «النتيجة» الوحيدة هي تعرية الموقف الاسرائيلي الذي حاول اولمرت في البداية ان يجعله يبدو ايجابيا.

والأمر المؤكد أن واشنطن تقود الموقف ازاء سوريا باتجاه «رؤية الوضع بشان سوريا في ارتباط وثيق بالوضع الذي نراه في لبنان… حيث يحاول النظام السوري وعناصر المعارضة الموالية لسوريا في لبنان ان تشل الجهود الدولية الرامية الى نزع سلاح جماعات الميليشيات التي تهدد امن لبنان وسيادته»… هكذا قال دونالد كير النائب الاول لمدير المخابرات القومية الأميركية في محاضرة امام «معهد واشنطن لسياسات الشرق الادنى» قبل أيام. وقد أشار في الوقت نفسه الى «استمرار حزب الله وسوريا في دعم جماعات الرفض الفلسطينية بمن فيها حماس والجهاد الإسلامي» وأشار ـ ثالثا ـ الى «رفض سوريا طرد المنظمات الرافضة التي تتخذ من سوريا قاعدة لنشاطها الخارجي ونشاط قادتها».

سوريا إذاً مدانة او على الاقل متهمة في وقت واحد بالشيء ونقيضه… بالتفاوض مع اسرائيل وهو ما يعده موجهو الاتهام رضوخا لاسرائيل وتعبيرا عن رغبة في إرضاء الولايات المتحدة… وفي الوقت نفسه دعم تحالفها الاستراتيجي والدفاعي مع ايران عدو العرب الجديد البديل عن اسرائيل وفي الوقت نفسه دعم الرافضين وفي مقدمهم حزب الله وحماس.

واذا دلت هذه الازدواجية على شيء فإنما تدل على ان الولايات المتحدة تجري حساباتها الآن على اساس ان اي حرب مقبلة يكون حزب الله طرفا فيها لا بد ان تتحول الى حرب اقليمية تشارك فيها سوريا وايران واسرائيل… والولايات المتحدة أيضا. ولكن الدلائل تزداد يوما بعد يوم على ان إدارة بوش وكبار القادة العسكريين والمدنيين الاميركيين منقسمون على انفسهم بشان ما اذا كان تطور من هذا القبيل يمكن ان يكون موضع ترحيب من جانب اميركا او اذا كان من الضروري تجنب وقوعه. والخلافات داخل ادارة بوش ممتدة الى التفاصيل المهمة والتفاصيل الصغيرة. اذ يرى اصحاب الرأي الاخير الداعين لتجنب الحرب في الشرق الاوسط ان من الضروري ان تكف اسرائيل عن طلعات طيرانها الحربي في الاجواء اللبنانية، وان على اسرائيل ان تصل بأسرع ما يمكنها الى اتفاق بشان الاسرى مع حزب الله (عبر ألمانيا)، وان على الامم المتحدة ان ترعى مفاوضات تهدف الى انسحاب اسرائيل من مزارع شبعا اللبنانية. ولعل الاقتراح الآخر المأخوذ به من هؤلاء على الجانب الاميركي هو تعزيز القوات المسلحة اللبنانية بمساعدات من الاسلحة والذخيرة من الجيش الأميركي.

أيا كان الأمر فإن تطورات الاسابيع الأخيرة تشهد بأن الدور الاميركي يتراجع. وربما يكون هذا نتيجة طبيعية لضعف ادارة بوش في شهور عمرها الأخيرة. لكنها تشهد ايضا بان التحالف الاستراتيجي السوري ـ الايراني يلعب دورا ايجابيا ويزداد قوة… فيما يتراجع تحالف المعتدلين المضاد.

ويبقى السؤال: هل ضاعت تماما فرصة قيام التحالف الرباعي؟

كاتب سياسي عربي من مصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى