اليسوعي اليساري
صبحي حديدي
يتعرّض، حتى دون مناسبة محددة، لهجمات منسّقة منظمة تقودها جهات مزدوجة الإرتباط: مجموعات الضغط الصهيونية في طول الولايات المتحدة وعرضها؛ وما تبقى (وهو، للعلم، كثير وفير) من أصوات يمينية محافظة، قديمة أو جديدة، تدافع عن غزو العراق وأفغانستان، وترفع عالياً رايات الإمبراطورية العسكرية. ولا يُستغرَب أمر كهذا، ضدّ رجل تحتشد في سجلّه عشرات الوقائع، قولاً وكتابة وفعلاً، في مناهضة السياسات الإسرائيلية والأمريكية، وفي المساجلة ضدّ حصار الشعوب أو غزوها تحت ذرائع كاذبة منافقة زائفة.
هذا الرجل هو الأب اليسوعي الأمريكي سيمون حراق، أحد مؤسسي منظمة ‘أصوات في البرية’، التي تأسست سنة 1996، ورُشّحت لجائزة نوبل للسلام مرّات عديدة، ونهضت على قاعدة التحدّي السلمي لإجراءات الحصار الاقتصادي والإنساني التي فُرضت على العراق. وكان أحد أبرز الناشطين الأمريكيين الذين خرقوا ذلك الحصار، فسافر إلى العراق مراراً، وحمل ما تيسّر من أدوية للمشافي، وألعاب للأطفال، وكان الأمريكي الوحيد ضمن 500 مشارك في مؤتمر بغداد حول الحصار، أيار (مايو) 1999. وقد استقال من التدريس في جامعة فايرفيلد ليتفرّغ لهذه المهامّ، إلى جانب أنشطته في ‘رابطة مقاومي الحرب’ وحملة ‘لا لتجّار الموت’، وله أربعة مؤلفات، أشهرها ‘اللاعنف في الألفية الثالثة: الإرث والمستقبل’.
الدوائر الصهيونية واليمينية المحافظة التي تترصّد مواقفه اختارت له لقب ‘اليسوعي اليساري’، وهذه تقترن عادة بنعوت شتى تكميلية، مثل ‘الخطيب الناري’ أو ‘القسّ المتطرّف’ أو ‘صديق الإرهاب’. لكنني إذْ أعود، مجدداً، إلى هذا الناشط اللامع، القابض على جمر مبدئي حارق مشتعل، فلأمر لا يتصل بالعراق، وإنما بذكرى النكبة، وفلسطين ما قبل الإستيطان اليهودي وإقامة الكيان الصهيوني. الحكاية تعود إلى مثل هذه الأيام، قبل عشر سنوات، حين أذاع برنامج ‘الرحّالة العليم’، الذي تبثه الإذاعة الأمريكية الشعبية NPR، انطباعات الإعلامية والمذيعة ماكسين دافيز عن رحلات ذويها إلى الأراضي المقدسة، وكيف ‘شاهدوا إسرائيل حين كانت ما تزال صحراء، واليابان بلا سيارات’.
الأب حراق أرسل إلى الإذاعة ردّاً ذكياً، بدأه هكذا: ‘في أيّ زمن سافر هؤلاء إلى إسرائيل حين كانت ما تزال صحراء؟ لا يمكن أن تكون الرحلة قد جرت في العام 1946، ففي تلك السنة سافر إلى فلسطين والتر لاودرميك، نائب رئيس مصلحة حفظ الأراضي الأمريكية، وتفقد البلاد، وعاد ليقارنها بولاية كاليفورنيا، مع فارق أنّ التربة في فلسطين أفضل بكثير’. ولا يمكن أن تكون الرحلة، تابع الأب حراق، في العام 1945 حين كانت فلسطين تضمّ 600 ألف دونم من الأراضي المزروعة بأشجار الزيتون، تنتج 80 ألف طنّ من زيت الزيتون، أي ما يعادل 1′ من مجمل الإنتاج العالمي. وليس سنة 1943، إذْ كانت فلسطين تنتج 280 ألف طنّ من الفواكه؛ وليس 1942، حين أنتجت البلاد 305 آلاف طن من الحبوب والخضار؛ وليس 1939، حين صدّرت فلسطين 15 مليون صندوق من الحمضيات…
ولكنّ، يتساءل الأب حراق، لعلّ أهل الآنسة دافيز سافروا إلى فلسطين قبل أكثر من 60 عاماً. فهل كانت صحراء عندئذ؟ يصعب أنهم سافروا في مطلع العقد الأوّل من القرن العشرين، فوجدوا الأرض صحراء، لأنّ موشيه دايان نفسه أشار إلى أنّه ‘ما من قرية يهودية إلا وبُنيت على أنقاض قرية فلسطينية، ولا يوجد مكان واحد بُني في هذه البلاد ولم يكن قبلئذ مسكوناً من قبل العرب’. أهي سنة 1893؟ غير ممكن، لأنّ ‘القنصل البريطاني نصح حكومته باستيراد أشجار الفاكهة من يافا، لتحسين الإنتاج في أستراليا وجنوب أفريقيا. سنة 1887 غير واردة أيضاً، لأنّ لورنس أوليفانت (رئيس الوزراء البريطاني آنذاك) أصيب بالذهول وهو يطلّ على أحد وديان فلسطين، فأبصر ‘بحيرة هائلة خضراء من سنابل الحبوب المتموّجة، وروابي متوّجة بالقرى تنهض من قلبها كالجُزُر، وصورة مذهلة عن خصوبة عامرة’.
وليس بين أعوام 1850 و1821، لأنّ الجغرافي الألماني ألكسندر شولش اكتشف، حينذاك، أنّ فلسطين تصدّر كميات كبيرة من الفائض الزراعي إلى الدول المجاورة، وإلى أوروبا. وأمّا في العام 1859، فإنّ المبعوث البريطاني كان قد وصف الساحل الجنوبي من فلسطين بـ’محيط عباب من الحبوب’؛ وكذلك ليس 1856، لأنّ هنري غيلمان، القنصل الأمريكي في القدس، اقترح استفادة مزارعي الحمضيات في فلوريدا من التقنيات الفلسطينية في التطعيم. فهل يعقل أنّ أهل دافيز زاروا فلسطين في القرنَين الثامن عشر والسابع عشر؟ كلا، فالاقتصادي والمؤرّخ الفرنسي بول ماسون اعترف أنّ استيراد القمح من فلسطين أنقذ فرنسا من مجاعات عدّة. في زمن أقدم ربما؟ لا يعقل، لأنّ الرحالة والأديب الإنكليزي جورج سانديز كان، في عام 1615، قد وصف فلسطين بـ’الأرض التي تسيل حليباً وعسلاً ، حيث لا بقعة تخلو من الحبور والنفع’؟
والحال أنه كان في وسع الأب حراق أن يقتبس عشرات البراهين الأخرى على عمران فلسطين (يمكن الرجوع، في هذا، إلى مجلّدَيْ عيسى نخلة ‘موسوعة المشكلة الفلسطينية’، 1991، بالإنكليزية)، لولا أنه كان، على الأرجح، يردّد في قرارة نفسه: لقد أسمعتَ لو ناديتَ حياً!