«هنديـــة» بنـــت الإنســـان
عباس بيضون
«هندية» ولدت لتكون قديسة. كان هذا رهانها على نفسها ورهان الجميع عليها. بدأ ذلك في طفولتها. حينها تراءى لها «الشخص» الذي لم يكن سوى يسوع نفسه. منذ ذلك وهو يرشدها ويتكلم فيها. كان ذلك هو «الاتحاد» الذي ولد معها. ولدت والمسيح فيها. لم يشك في ذلك أحد من أهلها، لم يشك فيه مرشدوها وبينهم مطارنة وبطاركة. لم يشك في ذلك شعبها ورعيتها. بدأت هكذا ولم تستطع أن تكون شيئا آخر. صامت منذ الثالثة والنصف. ربطت إلى صدرها خشبة ممسمرة. حشت جسمها بالأشواك. تجرحت لترى دم المسيح يسيل من جسدها. لكن كل ذلك كان مجرد تتمة ولوازم. فهي لم تعرف نفسها الا «متحدة بالمسيح». «الشخص» قال لها لا تذهبي إلى دير عنطورة. قال لها لا تترهبي في دير حراش. قال لها أنشئي رهبانيتك الخاصة وديرك. «الشخص» وفى بوعوده كلها وهندية غدت رئيسة على دير بكركي. في الدير مارست قداستها: تشفي الأولاد، تعيد الشهية، تدر الحليب. تشفي بمجرد اللمس. تهافتت عليها نساء الرعية. يجثين أمامها ويتغطين ويغطين أولادهن بهدي خمارها. آمن بها الجميع، جثا البطريرك نفسه أمامها وتمسكت الطائفة كلها بها. هي إما قديسة وإما مشعوذة، إما شافية وإما قاتلة، لم يكن أمامها خيار ثان. حين لم تستطع أن تكون الأولى صارت الثانية. القديسة صارت المشعوذة والقاتلة، وبعد فرح الرب جاء عقاب الشياطين. بعض الأحيان لا نفرق بين أساليب الرب والشيطان. بعض الأحيان يتوسل الثاني أساليب الأول، والخديعة يمكن ان تجوز حتى على العارفين.
لكن هذا ليس عمل المؤرخين. برنار هيبرجي كاتب «هندية الصوفية الآثمة» الذي نقله جان هاشم عن الفرنسية وأصدرته دار النهار، ليس مؤهلاً لأن يفرق وليست هذه غايته من الكتاب ولا غايتنا من قراءته. كتاب هيبرجي الثمين لا يخوض في مسألة القداسة لكنه يرينا أن طرقاتها ليست في السماء دائما وانها تتقاطع كثيرا مع طرقات الأرض. بل يمكننا لدى قراءة مؤلفه أن نرى في قصة راهبة ودير شبكة علاقات تاريخية اجتماعية سياسية ثقافية، علاقات طبقية واقتصادية، علاقات شرق وغرب. علاقات تثاقف وتفاعل وانقسام.
لم تهجر هندية اسمها وهو اسم لا قبل له بالمسيحية رغم ان لها اسماً بالمعمودية هو «حنة» ولم يطلب منها مرشدوها الكنسيون ان تهجره، أرادت ان «تقدسه» هي بنفسها وسيرتها. رفضت الزواج بدون أن تدخل الدير وعاشت هكذا عند أهلها عشرين سنة ورفضت ان ترتدي ثوب الرهبنة إلا وهي رئيسة ديرها ورهبانيتها. سحرت «مرشديها» من فنتوري الجاجرمانوس صقر وجعلت منهم أتباعاً لها. كانت كما يقال برنار هيبرجي المرأة الأولى في الشرق التي تقول «أنا».
كيف استطاعت هذه المرأة في القرن الثامن عشر أن تفرض نفسها على هذا النحو. هل كانت تعرف مدى قوتها واستطاعت بحذق أن تُخضع الآخرين لها، أم أنها في ذهولها ورؤاها وصوت «الشخص» الذي يتكلم فيها تصرفت بلا حرج وأصابت في البداية قبل أن ينقلب حظها. تبناها اليسوعيون في البداية وعملوا على نقلها إلى لبنان. لقد توسلوها رهانا صالحاً في صراعهم مع الكنيسة المحلية، لكن الأمر لم يبق هكذا. أراد اليسوعيون أن يدرجوها في رهبانية مختلطة تتجاوز الأديرة التي كان جلها أديرة عائلية أو في رعاية العائلات والمقاطعجية. لم يصح مسعى اليسوعيين ولم تصل هندية إلى ديرها الا بمعونة الخازنيين الذين بسطوا رعايتهم على «بكركي»، الدير الذي سيغدو برئاسة هندية مقصد بنات الوجهاء مدعوما من العائلات، بل سيغدو بعد قليل من مفاخر الموارنة وستتحد الطائفة كلها كنيسة ووجهاء وعائلات حوله، بعد ان سعى اليسوعيون، وقد تركتهم هندية إلى دعاوى في روما وأمام الباب شخصيا تتهم هندية بالشعوذة والزيف. منذ البداية كانت قداسة «هندية» في الميزان. والسؤال دار حولها. اجتماع الطائفة حول هندية القديسة المرتقبة كان بدون شك واحدا من المظاهر الأولى لتكوّن الطائفة في مواجهة، لا المسلمين فحسب، لكن اليسوعيين والمذاهب المسيحية الأخرى.
من كانت هندية. نصف الأمية التي وقعت بالصليب، وهذا علامة على جهلها الكتابة، اما القراءة فمسألة غير متفق عليها. يقول أخوها انها كانت تتهجأ لكن هناك من يقول انها كانت تقرأ مطولاً في الأناجيل. مهما يكن من أمر فإن القراءة والكتابة لا تبدوان في ذلك العصر بذات الأهمية التي نقدرها اليوم. عاصرت هندية ترجمات عربية من سير القديسين، وخاصة القديسات وكتب الإرشاد الديني والتجارب الروحية. كانت هذه كتباً تنقل تجارب لاتينية غربية الأصل. سواء اتصلت هندية بهذه الكتب عن طريق القراءة المباشرة أو طريق السماع أو عبر جو يختلط فيه الشفوي السماعي بالمعرفة المتأتية من القراءة، فإن هيبرجي يقرر، بما يبدو صواباً، ان فردية هندية وجرأتها الروحية وتشبثها بنفسها أمور ليست بعيدة عن قراءة سير القديسات والتجارب الدينية، وخاصة في جوانبها التي تطلق العنان للشطح والخوارق والمعاناة المتألمة إلى غاية العذاب. وهذه، كما رأينا، تمثلتها هندية تماماً. لم تشك في انها مسكونة بالمسيح وانه يتكلم فيها وبلسانها، وأقامت إلى النهاية على عنادها هذا. لقد تمثلت التجربة اللاتينية كما يرى هيبرجي في وقت كانت هذه التجربة قد وصلت إلى طور آخر، وبدأت تشكك في الشطح والمبالغات الدينية وتشتبه في الجواذب الصوفية. كان هناك بخاصة نقد للتجارب النسائية في هذا المجال. ولم تبد تجربة هندية لذلك بعيدة عن الشبهات. لذا لقيت دعوى اليسوعيين تجاوبا من البابا الذي أفتى بإغلاق دير بكركي. فتوى احتشدت الطائفة كلها ضدها، بما فيها الكنيسة، وحالت دون تنفيذها.
اجتمعت الطائفة فتراجعت روما وأدركت مجدداً أن أوضاع هذا البلد ينبغي أن تراعى وتراعى تقاليدها وتوازعها، ولا يجري عليها ما يجري على غيرها. تركت البلاد لأهلها وعاش الدير في منعة ورخاء وتدفقت عليه الاعطيات وتبارت بنات الأعيان في الالتحاق به إلى أن كان الانفجار هذه المرة من الداخل، كانت الرهبانية المارونية منقسمة إلى مدينية حلبية وبلدية جبيلية لبنانية، هكذا انقسم دير بكركي. هندية الحلبية لم تنج من هذه النعرة وما ان سلم لها الدير وتكاثرت الحلبيات فيه، حتى شعرت اللبنانيات وهن بنات الأثرياء والأعيان بأنهن في موضع ثانوي بالنسبة للحلبيات، وأن مقاليد الأمور في أيدي الأخريات، وأن هندية تركن لهن ولا تثق بسواهن. تحول هذا إلى انعدام ثقة بين المعسكرين وتبادلا تهماً ليس أقلها التسميم ومحاولة القتل بل والشروع به. هندية نفسها باتت تشتبه بأن الجبليات يسعين إلى قتلها، ويقال انها سبقتهن أو سبقتهن جماعتها إلى الشروع بالقتل. قضت جبليات مسمومات وأخريات قضين تحت الضرب. ثم فرت راهبات وكشفن عما يجري في دهاليز الدير. تخلى الأعيان اللبنانيون وآل الخازن عن دعم الدير واستنفروا الأمير الذي أرسل عسكره إلى الدير. كانت هذه بداية سقوط هندية ومطاردتها وتحولها إلى مشعوذة ومجرمة. لم تكن هندية وحدها في المعسكر الحلبي. كان معها البطريرك نفسه وجانب من الكنيسة ومن تسبب بقتل نسيمة بدران كان راهبا حلبياً. تدخلت البابوية وأبعد البطريرك واهتزت الكنيسة لكن المصالحة كانت على الطريق، كالعادة، وأعيد البطريرك وتبرأ من هندية من تبرأ.
متى تجتمع الطائفة ومتى تنقسم وما هي الدواعي التي تحكم الاجتماع او الانقسام. كيف تنتصر «النعرة» وكيف تتموه، وإلى أين تنتهي النزاعات الدامية بعد أن تنسد الحلول أو يهدأ الصراع. من يدفع الثمن ومن لا يدفعه. من يكون الضحية ومن لا يكون. انها قصة دير وراهبة في مطلع تكوّن طائفة ألقت بظلها على لبنان الذي لم يكن تكوّن بعد. أكثر من قرنين مرا. لكن المسافة مع ذلك ليست بعيدة. وبدون أي مقارنة خفيفة لا يسعنا إلا أن نلاحظ القربى ونبحث هناك عن الجذور.
السفير