صفحات مختارةميشيل كيلو

عن تعارض الحرية مع الأيديولوجيا !

ميشيل كيلو
اشتهر في أربعينيات القرن الماضي سياسي سوفياتي اسمه جدانوف، كان رمزا للانغلاق الفكري والجمود العقائدي، ولإلحاق الثقافة بسياسة السلطة اليومية، حتى أن كل من كان يرفض التضييق على الحرية الفكرية كان يلعن الجدانوفية ويصب جام غضبه عليها، حتى لو لم يعرف من هو جدانوف هذا.
في ذلك الحين، انبرى نفر من الأيديولوجيين إلى الدفاع عن الجدانوفية كمدرسة في السياسة الثقافية. قال هؤلاء: إن المصالح العليا للثورة العالمية تبرر إخضاع الفكر لمتطلبات سياسية تحددها اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي، التي تضم عقولا مثقفة ومخلصة من غير المعقول أو الممكن أن ترتكب خطأ المس بالحرية: مطلبها الرئيس، فإن حدث وقيدتها بصورة جزئية وموقتة، كان ذلك لضرورات عليا تسمو على أي أمر. أضاف المدافعون: عندما يكون هناك مفاضلة بين الحرية كهدف إنساني وغاية بشرية نهائية، وبين ممارستها الفردية، الجزئية والعابرة، يتحتم إعطاء الأولية للهدف الأعلى والغاية الإنسانية، وإلا ضاع الجوهري من أجل العرضي، والأساسي في سبيل الثانوي، وتحققت حرية فرد هنا وفرد هناك، بينما خسرت الإنسانية الفرصة لبلوغ حريتها.
هذه الحجج بدت مقنعة، وترتب عليها صمت مديد حيال قمع الحريات وإخضاع الفكر لضرورات السياسة الآنية، مارسه مثقفون كثيرون قبلوا انتهاك حرية الفرد والمثقف بحجة مكانتها الثانوية بالنسبة إلى حرية النوع الإنساني وبالمقارنة معها .
ومع أن مؤسس الاتحاد السوفياتي، فلاديمير إيليتش لينين، قال ذات مرة: «تكون هناك مشكلة حرية عندما يفتقر فرد واحد إلى حريته، وتكون هناك مسألة جوع عندما يجوع شخص واحد»، بينما استنكر فريدريك إنجلز، رفيق ماركس، ما أسماه «إخضاع الفكر وحريته لضرورات السياسة الآنية»، فإن منطق التبرير حجب سؤالا خطيرا طرحته ظاهرة الجدانوفية، هو: هل يمكن للحرية أن تقوم وتدوم في ظل نظام أيديولوجي مغلق؟ وما مدى التعارض بين الحرية والأيديولوجيا، الذي يجعل تقييد الأولى أو إلغاءها التام أمرا محتما ؟. في حالة جدانوف، حمل شخص واحد جرم انتهاك الحرية والقضاء عليها، صار اسمه رمزا للأيديولوجيا السياسية، كي لا يتهم النظام الأيديولوجي ذاته، ويبدو كأنه بريء من قتلها، مع أنه كان الجهة التي يجب أن توجه إليه الأنظار.
ما هو، بادئذي بدء، النظام الأيديولوجي المغلق، الذي أنتج الجدانوفية بالأمس وينتج من حين لآخر أشكالا ومسميات مختلفة منها، تتذرع بأنواع مختلفة من الذرائع السامية وهي تخنق الحرية، في حين تذرعت الجدانوفية بحرية النوع الإنساني، المجردة والبعيدة المنال، لتقضي على حرية الفرد والمواطن، الملموسة والممكنة التحقيق؟
الأيديولوجيا المغلقة هي نظام أفكار كلي، بعضها موضوعي يقوم على وقائع حقيقية، وبعضها الآخر ذاتي، تختلط بأحكام مسبقة وعواطف، صفته الأولى اكتفاؤه بذاته وإنتاجه نفسه من نفسه، دونما مراعاة للواقع أو للنظم الفكرية الأخرى، تتبناه قوى وتيارات سياسية/ اجتماعية تعيد قراءة الواقع انطلاقا منه، فيصير واقعا مطابقا له ومستنسخا عنه، يكتسب بفضل الأيديولوجيا مصداقية تجعله يبدو مستنفذا للحقيقة، وقادرا على استباق وتعيين ما هو آت من ممكنات. أما صفته الثانية فهي قدرته على إنتاج واقع جديد يتعين بمقولاته، يقتنع قطاع واسع من البشر بأنه نهائي: كلمة البشرية التي لن تقول بعدها كلمة أخرى. بينما تنبع صفته الثالثة من تحوله، بتأثير صفته الثانية، إلى نظام وظيفي/ أداتي، يرتبط بسلطة معينة، سياسية كانت أم غير سياسية، ويتخذ أكثر فأكثر سمات محافظة تصير بمرور الزمن رجعية، تعادي أي تغيير حتى في الواقع الذي كان قد أقامه على صعيد البنيتين التحتية والفوقية، عندما كان يحمل، في بداياته، وعد تغيير هو كناية عن تحول تاريخي مستمر.
في الحقبة الأولى من وجوده، يكون النظام الأيديولوجي نظاما معنويا، فكريا وعاطفيا. ويغلب عليه في مرحلتيه الثانية والثالثة الطابع المادي، الناجم عن ارتباطه بسلطة ومؤسسات سياسية ومجتمعية وأنماط وتشكيلات اقتصادية تتولى ترجمته إلى واقع. إنه نظام يصارع في مرحلته الأولى بأسلحة الفكر والدعاية، وفي مرحلتيه الثانية والثالثة بوسائل السلطة المادية بالدرجة الأولى، لذلك تراه يتحول تدريجا إلى نظام قمع وقهر وتفكير واحدي، تتناقص مكانة الحرية فيه وتتزايد مقاومة الاجتهاد بوصفه مروقا وتخريبا، والرأي الآخر باعتباره خيانة وكفرا، قبل أن يرفض أي محاولة لإعادة النظر في أي جانب من جوانبه، بما في ذلك محاولات تجديده على أرضية الواقع الذي تأسس انطلاقا منه.
بهذه السمات، وهذا التطور، يتحول النظام الأيديولوجي المغلق إلى عكس ما كان يحمله ويعد بتحقيقه، وينقلب من نظام كان يستبق الواقع ويشخص بعض ممكناته واحتمالاته، إلى نظام يعرج وراءه، يحتجزه ويعجز عن إخراجه من أزمات نجمت عن تطبيقه، لذلك يدخل الواقع بسببه في دائرة مفرغة تتناقص قدرته على كسرها بغير إطلاق الحريات، وفي مقدمها حريتا التفكير والتعبير، اللتان يرى فيها من الآن فصاعدا خطرا رئيسا عليه ، فيحظرهما ويعتبر كل من يدعو إليهما عدوا يزعزع الاستقرار ويكشف المستور، ويظهر للعيان أن النظام الأيديولوجي السائد دخل زقاقا مسدودا لا مخرج له منه، وإن تمت إدامته لبعض الوقت بقوة القمع والتخويف.
بعد هذه الشروح، لا داعي للقول إن النظام الأيديولوجي المغلق هو نقيض الحرية، أكانت حرية النوع الإنساني أم حرية المواطن الفرد. إنه لا ينتج ولا يستطيع أن ينتج، حتى إن أراد ذلك، هو نظام يقيم الحريات ويحميها، ولا يتخلى عن موقف يرى في الحرية هلاكه، ويربط استمراره واستقراره بضرورة وحتمية نفيها وإلغاء سائر أنماط ومظاهر وجودها، فهو نقيضها وهي نقيضه، ليس فقط لأنه مغلق وهي طليقة، وهو مرتبط بالنظم وهي بالإنسان، بل كذلك لأنه يصير في طوره الثالث رجعيا ومعاديا للتقدم والتغيير، بينما تبقى هي ثورية تواجهه بحقيقته وبكرامة الإنسان وحقه في العدالة والمساواة.
تنتج الحرية، في أحد مستوياتها الفردية والاجتماعية، الأيديولوجيا. لكن الأيديولوجيا: نظام الأفكار والآراء والمشاعر والعواطف والأحكام المسبقة والخرافات والأساطير، الذي تتباين مكوناته وتتناقض، ويجعله تطوره مغلقا وأداتيا، تنتهي دوما إلى قتل الحرية وتقويض ما هو قائم منها. للحد من طابعها المغلق والقمعي/ المعادي للإنسان، يحتاج البشر إلى نظام فكري يقيد، دون ادعاء الخلاصية والعلموية، جانبها الأداتي/ الوظيفي، بتحويلها إلى منظومة تجريبية للواقع، أولية على مقولاتها ومعتقداتها، فلا تعود صحيحة إلا بقدر ما تتفق تطبيقيا مع الواقع المتحرك.
من الضروري أيضا إخضاع الأيديولوجيا لأولية الحرية عامة والحرية الفكرية خاصة، لجعلها تتخلي عن قديمها، وتخضع لآلية تجديد دائمة تنمي طاقتها الاستشرافية وقدرتها على نفض الجوانب البالية عنها، التي لا بد من أن تستبدل بجوانب مغايرة تولدها حوارات واسعة تقلّب الحقيقة على وجوهها المختلفة، وتبقيها محل تأمل مفتوح ومرن وممارسة طليقة، يتم تلمسها دون ربطها بمسبقات أو غايات وحقائق نهائية، أو إدراجها في نظام كلي، فالحقيقة نسبية في جميع حالاتها، وهي تقر بحتمية تهافت ما هو صحيح منها اليوم، وبروز أوجه جديدة منها لم يكن معروفة أو ناضجة من قبل، تستمر لبعض الوقت قبل أن تتلاشى بدورها. من الضروري، أخيرا، الحيلولة دون انفراد فئة أو مجموعة بتحديد ماهية نظام الأفكار، وآليات اشتغاله، وأهدافه، وأساليب ووسائل تطبيقه. لا يجوز إنتاج الأيديولوجيا من ذاتها، أو بدلالتها الذاتية، ويجب إنتاج نظم فكر يحصنها ضد الانحراف الأيديولوجي، انطلاقاً من أولية الواقع المتغير وبدلالته، حتى لا يبطل ما هو كامن في هذه النظم بالضرورة من تناقض بين الفكري المجرد والشعوري/ المشبع بالأحكام المسبقة طابع الفكر المتعين والتجريبي، ولا تتجاهل في أكثر حالاتها كمالا أنها أضيق من أن تتسع للواقع واحتمالاته، وأن من العلمية بمكان، والصحيح، رؤية نفسها بدلالته، وإلا رأته هو بدلالتها وحذفته تدريجيا وحلت محله، فأوقعت نفسها في أزمة لا تجد سبيلا إلى الخروج منها غير قتل بدائلها: الحرية والثقافة. تتسم علاقة الأيديولوجيا بالواقع والحرية بحساسية خاصة في عالم العرب، الذي أنتج جملة أيديولوجيات لم ترتكز على الإنسان أو الحرية الإنسانية. بما أننا بلغنا نهاية شوط وبداية آخر من تطورنا، فإن من الأهمية بمكان إعطاء هذه العلاقة ما تستحقه من عناية واهتمام، كي لا يتكرر ذات مستقبل الفشل الذي لازم تاريخنا الحديث والأحدث.!
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى