التوريث ثقافة وليس سياسة..وكيفية قبول ما لا يمكن القبول به؟
محمد ديبو *
تتعالى أصوات المثقفين الديمقراطيين المحتجين في العالم العربي على حالات التوريث في العالم العربي, ويثار هذا الجدل حاليا بالترافق مع الاستعدادات الجارية لتوريث جمال مبارك في مصر مع معلومات أخرى تتناثر هنا وهناك عن ترتيبات تجري في الخفاء لضمان التوريث في جمهوريات مثل اليمن وليبيا وتونس.
ولكن المتابع لكل ما يكتب عن التوريث سيلحظ أن كل من عالج المسألة وناقشها خلط بين الأسباب والنتائج, جاعلا من النتيجة سببا والعكس صحيح , أي ناظرا إليها من زاوية نتيجتها وليس من زاوية أسبابها, أي أن أغلب الدراسات والأبحاث ركزت على أن التوريث هو نتاج قرار سياسي مفروض تتخذه السلطة المستبدة المتحكمة بمداخل ومخارج العملية السياسية في بلدها, وتفرضه على المجتمع المحكوم والمسلم أمره لهذه السلطات, وهذا صحيح ولكنه ليس كل الصحيح!
من يتابع حال السلطة في البلدان المنكوبة بلعنة التوريث, سيجد أن هذه السلطات وصلت إلى مرحلة تفرض فيها قوانين مخالفة للقوانين التي وضعتها هي بنفسها واستمدت منها شرعيتها و حكمت بها على مدى نصف قرن تقريبا, لتعود وتنسف ما حكمت به وبلحظة واحدة ودون أدنى اعتراض من أحد !!
كيف جرى هذا ؟ كيف حدث ؟
عملت السلطات التي استمدت شرعيتها من الثورية إبان فورة مشاريع الثورة العربية التي اختزلت بانقلابات عسكرية نفذها مجموعة من العسكر الطامحين مدعومين من أحزاب, حملت أحلام أكبر من طاقاتها. عملت هذه السلطات على الترويج على أنها تحارب الرجعية والأنظمة العميلة, وأسست شرعيتها على أبلسة الأنظمة الملكية والوراثية جاعلة منها الدريئة التي تصوب نحوها سهامها لتحكم شعوبها, وبل يمكن القول أن أغلب الإيديولوجيات التي مازالت ترفعها هذه الأنظمة وتستمد شرعيتها الإيديولوجية منها هي أيديولوجيات ترفض الملكية والتوريث والخلافة, ومع ذلك تستعد هي ذاتها للتوريث والتخليف( من الخلافة) محولة الجمهوريات الشكلية إلى ممتلكات شخصية, بعد أن كانت ممالك في الأصل ؟
كيف كانت ممالك ؟
السؤال الذي ننطلق منه لدراسة ما سبق هو : هل كان لدينا دول ديمقراطية وأنظمة ديمقراطية أو حتى ثورية بالمعنى الثوري للكلمة أصلا حتى يتم التحول منها إلى نظام “الجملكية” كما يطرح سعد الدين إبراهيم, أو السلطانية المحدثة كما يطرح ياسين الحاج صالح؟
إن المتتبع لبواكير نشوء هذه الجمهوريات الشكلية سيلحظ دون شك أن ما جرى لم يكن سوى استيلاء على السلطة بواسطة العسكر الذين عملوا منذ لحظة جلوسهم على البقاء في السلطة إلى أبد الآبدين, تارة تحت ضرورات المرحلة التاريخية, وتارة تحت حجج” الشرعية الثورية” التي تمثلها” النخبة الطليعية” الحاكمة بطبيعة الحال, دون أن يقول لنا أحد من أين استمدوا نخبويتهم , ودورهم الطليعي الرائد, إلا اللهم إذا اعتبرنا أن فضائلهم في تفكيك المجتمع والحفاظ عل التخلف والضرب بيد من حديد على كل ما من شأنه أن يمهد لنشوء جنين ” ولو مجرد جنين!” قد يفضي إلى تحولات ما..إذا اعتبرنا هذا دورا طليعيا, فهم حقا قد أبدعوا واستزادوا فيما لم نكن نتوقعه منهم.
المهم عملت هذه السلطات على ترسيخ وجودها الأبدي في السلطة, عبر العمل على فكفكة الأحزاب وخنق المجتمع المدني وفتح السجون على مصراعيها, وتشكيل جيوش غير محاربة مهمتها الذود عن حمى السلطة التي احتلت الوطن وملحقاته, وتشكيل برلمانات هشة تأتي بانتخابات معروفة النتائج سلفا, ووزارات معينة مسبقا…إلى أن وصل المجتمع العربي إلى أدنى حالات السكونية والتخدير بحيث أصبح قابلا لما لا يمكن القبول به, ويمكن القول أن السلطات العربية الحاكمة في هذه الدول استطاعت إخصاء شعوبها وتدمير كل البقع المدنية المستقلة واحتلالها ونشر راياتها فوقها, أي وصلت الشعوب إلى درجة أصبح لا يعنيها شيء اسمه الوطن, واستقالت من الشأن العام نهائيا, تاركة الوطن لأسياده الجدد.
وبالمقارنة بين الأنظمة الثورية والأنظمة الملكية سنجد أن الفرق كان ظاهريا فقط, بينما في العمق كانا يتوحدان في كل شيء, فإذا كان الملك يعين مجلس الوزراء والبرلمان والمدراء بشكل مباشر في الأنظمة الملكية فإن الأنظمة “الجملكية” فعلت الشيء نفسه عبر اختراع لعب ديمقراطية تتيح لها فعل ما تريد !
وإذا كانت الأنظمة الملكية تمنح كل المناصب الحساسة للعائلة الحاكمة فإن الأنظمة الجملكية منحت هذه المناصب للمقربين من عائلة الحاكم و طائفته وفي أبعد حال منحتها لرفاق الثورة من أصحاب حزب واحد مستبدلة العائلة بالحزب الذي سيتحول مع الزمن إلى حزب عائلي بامتياز !
وإذا كانت الأنظمة الملكية تستخدم العنف والقتل والسجن ضد معارضيها , فإن الأنظمة الجملكية فاقتها في ذلك جبروتا وتجبرا!
وأخيرا فإن ما كان النظام الجمهوري يعيّر فيه النظام الملكي الوراثي هو أنه يورث السلطة بشكل قبلي, قد وصل إليه وأصبح يفوقه توريثا!
لماذا وصلنا إلى هنا ؟
إن ما سبق يمثل الفهم السياسي لآلية عمل النظامين, ولكن ماذا عن البنية المجتمعية والثقافية والاقتصادية التي تمثل داخل كلا النظامين؟ والتي لا يستطيع أيّ منهما أن يحكم دون إخضاعها أو إسكاتها أو تزييف وعيها؟
فإذا كنا نفهم بشكل واضح آليات تطور المجتمعات التي تحكمها أنظمة ملكية وندرك أنها وقفت عند حد معين, فإننا هنا سنحاول أن نتلمس آليات تطور المجتمعات المحكومة شموليا بأنظمة دكتاتورية, هذا إن كانت تطورت حقا, أو سارت وفق سيرورة تتخطى القبلية والوراثية باتجاه وعي مدني و حداثي حقا ؟
إن المدقق في بنية المجتمعات المحكومة شموليا بأنظمة ادعت الثورية والديمقراطية سيجد أن بنية هذه المجتمعات أبعد ما تكون عن هذه الصفات, لأسباب عديدة منها المجتمعي ذاته ومنها السلطوي الذي لا تتقاطع مصالحه حكما مع هذا التطور, فعملت جاهدة على إبقاء مجتمعاتها في حظيرة التخلف والسكونية.
في النظر إلى بنية المجتمعات المحكومة شموليا سنجد أن الثقافة السائدة هي ثقافة التوريث بامتياز, فالأب يورث سلطته لابنه حال غيابه أو وفاته ليصبح وصيا على شرف العائلة وإرثها, ونجد أن رئيس الحزب يورث الحزب لابنه كما حصل في سوريا لأعرق حزب شيوعي وهو الحزب الشيوعي بشقه البكداشي, إذ بعد وفاة الأمين العام للحزب خالد بكداش وصلت السلطة إلى الزوجة وصال بكداش, وبعد الزوجة ستصل إلى الابن عمار, ويصل الأمر إلى وجود مدراء عاميين يورثون مناصبهم لأبنائهم, وسنجد الأمر نفسه في الجيش أيضا, وحال لم يكن التوريث شخصيا, سنجد أن الأب يسعى بكامل قواه لتوريث ابنه مواربة, عبر منحه إحدى المناصب القوية في مؤسسة أخرى تتبع له إداريا بطريقة ما, ولعلنا نجد أبلغ آيات التوريث في المجتمع اللبناني المبتلى بشمولية الطائفة, حيث سنجد أن كل حزب هو حكر لطائفة بعينها, من كمال جنبلاط الأب إلى جنبلاط الابن, ومن الحريري الأب إلى الابن ومن فرنجية الجد إلى فرنجية الحفيد, وحال لم يكن هناك توريث الأشخاص سنجد أن هناك توريث الطائفة..هذا على مستوى الأشخاص. ولننتقل الآن إلى مستوى الأحزاب وعلاقتها ببعضها وبكوادرها, حيث سنجد أن أغلب الأحزاب الموجودة في هذه المجتمعات هي أحزاب شمولية تنتفي منها القيم الديمقراطية, حيث أن قيادة الحزب تعين القيادة المركزية والقيادة المركزية تعين القيادات الأدنى, بعيدا عن أية انتخابات, وكل صوت معارض في الحزب يعامل كمنشق أو عميل ويطرد من الحزب بقرار من الأمين العام تحت اسم حماية الحزب من الفاسدين والمنشقين!
وعن علاقة الأحزاب ببعضها البعض سنجد أنها علاقة تخوينية, فكل حزب يخون الآخر, فالأحزاب الموالية للسلطة تتهم أحزاب المعارضة بالعمالة للخارج وهذه الأخرى تتهم الأولى بالعمالة للنظام, ليصبح الاثنان ينبعان من منبع فكري واحد قوامه التخوين والتكفير.
وإذا انتقلنا إلى حال الثقافة سنجد أن المثقفين الذين من المفترض أن يكونوا نخبة المجتمع هم أكثر تكفيرا وتخوينا لبعضهم البعض, فقسم منهم التحق بالسلطة يروج ويطبل لها ناعتا المثقفين المحسوبين على المعارضة بالخيانة والعمالة للخارج, ونجد أن المثقفين المحسوبين على المعارضة ينعتون شطرهم الآخر بالسلطوية والاستبداد, وكل ذلك دون أي دليل ظاهر بل مجرد رشق تهم متبادل, نتيجة التخندق داخل أسوار الجهة التي ينتمون إليها, والمضحك المبكي أن كلاهما يرفع الديمقراطية وحقوق الانسان شعارا له, لنصبح أمام مفارقة فريدة من نوعها : ديمقراطية بلا ديمقراطيون !
مما سبق نستنتج أن التوريث الذي يحصل سياسيا, ليس مجرد فقاعة هوائية أو خيار سلطوي مفروض بقوة السلطة فحسب, بل هو مفروض بقوة السلطة مضافا لها قوة ثقافة التوريث الموجودة في كل البنى الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تحكم وعي الجمهور الذي عملت السلطات التي حكمته باسم الثورة على إبقاء تخلفه, ليعيد إنتاج تخلفه في صورة تخليف يتقدم يوما بعد يوم.
*كاتب من سوريا
© منبر الحرية ، 7 ماي /أيار2010