مصر بين النار والماء
سليمان تقي الدين
أعد مركز «بيغن ـ السادات للسلام» في إسرائيل منذ مدة وجيزة خطة لحل المسألة الفلسطينية تقوم على تجديد مشروع «الوطن البديل». هذه الخطة تسعى إلى دمج الضفة الغربية بالأردن، وقطاع غزة بمصر في إطار اتحاد كونفدرالي.
في هذا المشروع تحتفظ إسرائيل بالمستوطنات على أن تقبل بتبادل بعض الأراضي من ضمن تصورها لأمنها. ويفترض هذا المخطط تكريس وجود كتلتين فلسطينيتين هما الضفة وغزة. ولعل الفكرة المتداولة اليوم في الغرب ترجمة لحل الدولتين لا تعيد التركيز على مرجعية القرارات الدولية، بل هي تطرح شعار «دولة فلسطينية قابلة للحياة»، وهذا غموض مقصود لكي يعطي إسرائيل فرصة تحديد ما تقبل وما لا تقبل من حلول.
من هنا يستعجل نتنياهو بلورة مشروعه بخلق المزيد من الوقائع على الأرض، بقضم أكثر ما يمكن وتهويد أوسع ما يمكن، وتقزيم أكثر ما يمكن لهذه الدولة الفلسطينية الموعودة بحيث لا تصبح قابلة للحياة إلا إذا اندمجت من جهة بالأردن ومن جهة بمصر. هذا ما يطلق عليه الحل الإسرائيلي على حساب الحق الفلسطيني وحقوق دول عربية مجاورة. تداول هذا المشروع في المنتديات الدولية يسبب قلقاً شديداً للملك الأردني والرئيس المصري. هناك توجس مصري من تغيير ديمغرافية وجغرافية القطاع على حساب سيناء ومصر. لا تعتبر إسرائيل اتفاقيات السلام ضمانة للأمن، وهي تؤكد على إعادة تشكيل النظام الإقليمي، خاصة في محيطها على النحو الذي يضمن الهيمنة الفعلية، لأن خيارات الأنظمة لا تتفق وخيارات الشعوب. هكذا وضعت إسرائيل منذ زمن بعيد خططاً لتطويق العالم العربي «من الخلف» كما اقترح بن غوريون. وبعد كامب ديفيد تعاونت أميركا وإسرائيل على إحداث تحول سياسي كبير في ظهير مصر الأفريقي. وقد نجحتا في قلب الأوضاع في أثيوبيا والصومال وموريتانيا والعديد من الدول الأفريقية. انكفأت مصر عن لعب دور عربي وإقليمي حتى صار أمنها بين فكي كماشة إسرائيلية، إلى درجة أن علاقات مصر والسودان والظهير الأفريقي كله غير خاضعة لمفهوم الأمن القومي المصري بصرف النظر عن الدور القومي.
هكذا تصرفت إسرائيل في حرب غزة وكأنه لا سيادة مصرية، ثم أنها قصفت إحدى البواخر التي قيل إنها تنقل أسلحة من السودان إلى غزة، وهدد ليبرمان بتدمير السد العالي إذا لم تخضع مصر لمتطلبات إسرائيل في التعامل مع القضية الفلسطينية.
في هذا الأفق وهذا السياق يجب أن نفهم الحراك الأفريقي الأخير لدول منابع النيل للضغط على أمن مصر الحياتي المتمثل في مياه النيل. فاللقاء الذي انعقد بين أثيوبيا ورواندا وتنزانيا وأوغندا لإلغاء الاتفاقات الدولية المتعلقة بتقاسم مياه النيل يمثل إحدى الأهداف الإسرائيلية للقبض على القرار المصري الرسمي والشعبي. النيل بالنسبة إلى مصر هو مصدر حياة، وأعظم إنجازات ثورة 23 يوليو كان بناء السد العالي للسيطرة على هذه الثروة.
سوى أن إسرائيل تطمح لأكثر من التحكّم بالقرار المصري، فهي طالبت وتطالب بالشراكة في الثروة المائية العربية في الماضي والحاضر، في مياه النيل والفرات والأنهر السورية واللبنانية والأردنية والفلسطينية. وفي مفاوضات كامب ديفيد سعت إسرائيل إلى إدراج مياه النيل في مشروع السلام ووعد الرئيس السادات ببناء «ترعة السلام» لإيصال مياه النيل إليها.
في مفهوم إسرائيل لأمنها، لا تترك ميداناً واحداً لا تلحظ له خطة، من الديمغرافيا إلى الجغرافيا والاقتصاد فضلاً عن الأمن العسكري. على العكس من ذلك تتصرف القيادة المصرية، ومعظم النظام الرسمي العربي، وكأن العلاقة المستقبلية مع إسرائيل هي مجرد أمن حدود.
من المؤكد أن الدول التي انفردت بتقرير مصير نهر النيل لا تملك هذا الحق في العرف الدولي، لأن هناك قواعد قانونية ولو بدائية حول تقاسم المياه بين دول المنبع والمرور والمشاطأة. وقد أكد ذلك الاتحاد الأوروبي معتبراً أن لا شرعية لهذا القرار.
لكن رد الفعل المصري لم يكن بمستوى هذا المعنى البعيد للقرار من غير أن نتوقع اللجوء إلى توتير العلاقات المصرية الأفريقية لكن حجم هذا التحدي يضع مصر بين ضغطي النار والماء ما يستدعي مراجعة لمفهوم الأمن القومي المصري الذي لم تحسمه اتفاقية السلام، ولن تجعل مصر في نظر إسرائيل خارج المشروع الإقليمي الإسرائيلي الذي لا تختصره فلسطين.
السفير