فقه الضرورة ومشروعية قوانين الطوارئ
د. لؤي عبد الباقي
يُقرُّ فقهاء القانون بوجود ظروف طارئة وضرورات استثنائية لا يمكن معالجتها وتجنب مخاطرها وأضرارها من خلال تطبيق التشريعات والقوانين الطبيعية أو عبر المؤسسات القضائية والإجراءات الاعتيادية. وهذه الظروف الاستثنائية تفرض على الشعب التنازل عن بعض حقوقه وحرياته في سبيل الحفاظ على أمنه وسلامته ووحدته. وتتجلى هذه الظروف الاستثنائية في حالات الحروب الخارجية والكوارث الطبيعية والنزاعات الأهلية العنيفة والعصيانات المسلحة، التي تعرض سلامة الشعب وأمن الدولة إلى مخاطر جسيمة،
وتضع المجتمع في ظروف عصيبة. لذلك جاءت نظرية الضرورة في الفقه القانوني لتجيز تشريع قوانين طارئة، تُفعَّل في فترات معينة أو أماكن محددة، لتمكِّن السلطة التنفيذية من اتخاذ تدابير عاجلة لمواجهة المخاطر والتحديات الاستثنائية في مثل تلك الظروف العصيبة التي تعصف بكيان الدولة والمجتمع فتهدد وجودهما.
وبناءً على هذه النظرية، التي أقرها التشريع الإسلامي (على أسس وقواعد سنبينها فيما يلي) قبل التشريعات الحديثة بقرون عديدة، نصت معظم دساتير الدول وقوانينها على مشروعية قوانين الطوارئ التي تسمح بتعطيل الدستور وبتجاوز القواعد القانونية ضمن شروط وقيود واضحة ومحددة. كما أن القانون الدولي العام أضفى صفة الشرعية على قوانين الطوارئ فسمح بتجاوز القوانين الدولية في الحالات الاستثنائية التي تطرأ على الدول، وحدد لتلك الحالات شروطا وضوابط معينة.
ففي الفقه الإسلامي نجد أن الشريعة الاسلامية أقرت التجاوزات الضرورية في الحالات الطارئة، حيث أن الفقهاء قعدوا القواعد المستمدة من نصوص القرآن والسنة النبوية الشريفة التي تُرتِّب الأولويات الضرورية لحفظ المصالح الخمس: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال. فأكد الشاطبي أن علماء الأمة أجمعوا على أن أحكام الشريعة جاءت للمحافظة على هذه الضروريات الخمس.( ) كما بين الإمام الغزالي أن كل ما يضمن حفظ هذه الأصول الخمسة هو مصلحة، و ما يفوتها مفسدة يجب رفعها، حيث أنها في رتبة الضرورات التي تعتبر أقوى مراتب المصالح.( ) وذهب الفقهاء إلى أن الإسلام أباح تجاوز أحكام الشرع الثابتة في ظروف معينة وضمن شروط وقيود محددة في سبيل المحافظة على هذه الضروريات الخمس. فبين الشاطبي أن تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها التي لا تعدو ثلاثة أقسام: ضرورية وحاجية وتحسينية، مؤكدا على أن الضرورية لا بد منها في قيام المصالح وفقدانها “فساد وتهارج وفوت حياة”.( )
وقعد الأصوليون نظرية الضرورة على مبدأ “الحرج مرفوع والمشقة تجلب التيسير” وبنوا على هذا المبدأ قاعدتين أساسيتين: قاعدة (المشقة تجلب التيسير) وقاعدة (لا ضرر ولا ضرار). فالأولى تدخل في باب الرخص المشروعة لدفع المشقة وإزالة الحرج، وتستند إلى عدد من الأدلة الواردة في القرآن الكريم. منها قوله تعالى (يُرِيدُ الله بِكُمُ اليُسرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسرَ) (البقرة 185)، وقوله (فَمَنِ اضطُرَ غَيرَ بَاغٍ ولاَ عَادٍ فَلاَ إِثمَ عَلَيهِ إِنَ اللَهَ غَفُورُُ رَحِيمُُ) (البقرة: 173)، وقوله تعالى (ما يُرِيدُ الله لِيَجعَل عَلَيكُم مِن حَرَجٍ) (المائدة 6). كما بنى الفقهاء على هذه القاعدة الأساسية قواعد فرعية، كقاعدة (الضرورات تبيح المحظورات)، التي تبيح شرب الخمر أو أكل الميتة عند الضرورة لمن شارف على الهلاك بسبب العطش أو الجوع، وقاعدة (الضرورة تقدر بقدرها)، التي تقيد استخدام الرخص بمقدار الضرورة التي تدفع الحرج وتزيل الضرر. أما القاعدة الأساسية الثانية، فقد بنيت على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ضرر ولا ضرار. وقد بنى الفقهاء على هذه القاعدة عدداً من القواعد الفرعية اهمها: (درء المفاسد اولى من جلب المصالح)، و(الضرر يزال بقدر الإمكان)، و( يُتحمل الضرر الخاص لدفع ضرر عام)، وقاعدة (الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف)، وأخيرا قاعدة (إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما).( )
أما في الفقه الغربي فهناك مذهبان لتبرير نظرية الضرورة أحدهما ذهب إلى أنها نظرية قانونية، والآخر ذهب إلى أنها نظرية سياسية أو واقعية. فالفقه الألماني ذهب إلى أن نظرية الضرورة نظرية قانونية، وبالتالي اعتبر الإجراءات التي تتخذها السلطات في الحالات الطارئة التي تشكل خطرا على الدولة والمجتمع قانونية ومشروعة حتى وإن خالفت الدستور والقوانين العادية وقواعد القانون الدولي. وعلى هذا الأساس أعطى الفقه الألماني السلطات العامة الحرية في اتخاذ ما تراه مناسبا لمواجهة المخاطر والتحديات، دون الحاجة إلى إذن ودون أن يحمل السلطات أية مسؤولية تجاه أية جهة أو مواطن، كما أعفاها من التعويض عن الاضرار التي تلحقه جراء أعمال الضرورة. فحالة الضرورة بحد ذاتها تعتبر، من وجهة نظر النظرية القانونية للضرورة، مصدرا مشروعا للقواعد القانونية.( )
وفي الفقه الفرنسي ظهر اتجاهان حول طبيعة ومدى مشروعية نظرية الضرورة، فذهب الأول إلى أنها قانونية، بينما ذهب الآخر إلى كونها سياسية وواقعية. وبالرغم من أن أصحاب الاتجاه الأول نحوا باتجاه إضفاء المفهوم القانوني على نظرية الضرورة، إلا أنهم خالفوا الفقهاء الألمان فوضعوا لها قيودا وشروطا وضوابط صارمة. كما اعتبروا أن حالة الضرورة تُفرض وجوبا وليس إجازة فقط، وعلى الحكومة أن تتّخذ تدابير تضمن سلامة وأمن الدولة والمجتمع في الظروف الاستثنائية، كحالة الحرب، ووضعوا ذلك في إطار الدفاع الشرعي عن النفس الذي يقره القانون وإن خرج عن إطار المشروعية. أما الاتجاه السائد في الفقه الفرنسي فينظر إلى نظرية الضرورة من منظرور الواقعية السياسية، ويعتبر الإجراءات التي تتخذها السلطة التنفيذية في الحالات الاستثنائية لا تتمتع بالمشروعية القانونية، وإن كانت تعفي السلطة من المساءلة إذا توفرت شروط معينة والتزمت بقيود إجرائية يحددها القانون. فالضرورة ليست مصدرا مشروعاً للقوانين ولا يمكن أن تلغي القوانين العادية القائمة، وبالتالي فعلى السلطة التي تضطر إلى مخالفة القانون تحت ضغط الظروف الطارئة أن تلجأ إلى السلطة التشريعية (البرلمان) للحصول إعفاء من المسؤولية وفق ما يسمى في فرنسا بـ(قانون التضمينات)، بينما تنظر السلطة القضائية في واقع الضرورة التي أجبرت السلطة على الخروج عن القواعد القانونية ومدى التزام السلطة بالشروط والقيود التي يفرضها القانون في مثل تلك الظروف.
ومن أهم الشروط التي يفرضها القانون في حالة اللجوء إلى الضرورة أن تكون الظروف الاستثنائية حقيقية وتهدد أمن الدولة وسلامة المجتمع، كحالات الحرب والعصيان المسلح، وأن تكون الإجراءات العادية والطرق القانونية والدستورية غير كافية لمواجهة المخاطر الناجمة عن الظرف الاستثنائي، إضافة إلى عدم توسع السلطة بالإجراءات المخالفة للقانون بشكل يتجاوز القدر الذي تفرضه الضرورة. كما تفرض القيود القانونية على السلطة أن تنهي العمل بالإجراءات الاستثنائية بمجرد انتفاء الضرورة، وأن تخضع جميع الإجراءات الاستثنائية للرقابة القضائية، إضافة إلى الالتزام الدولة بتعويض كل من يتضرر من هذه الإجراءات.
ولم تختلف كثيراً القيود التي وضعها القانون الدولي في حالة الطوارئ عما ذكرناه آنفا. فبالرغم من أن القانون الدولي أضفى على نظرية الضرورة صفة الشرعية، وبالتالي سمح للدول الأطراف بتجاوز قواعد القانون الدولي في حالات الطوارئ الاستثنائية، إلا أنه قيدها بأضيق الحدود التي تفرضها الضرورة، إضافة إلى التأكيد على عدم جواز انطواء التدابير التي تتخذها السلطة على أي تمييز يقوم على أساس العرق او اللون او الجنس او اللغة او الدين او الأصل الاجتماعي.( )
يتضح مما سبق انه بالرغم من أن نظريات الفقه القانوني، والتشريع الإسلامي، وقواعد القانون الدولي، أقرت جميعها بمشروعية تجاوز القوانين العادية في حالات الضروروة، إلا أنها لم تفتح المجال على مصراعيه أمام السلطة التنفيذية في إعلان حالة الطوارئ أو التوسع في تطبيق قوانين الطوارئ المخالفة للقواعد الدستورية والإجراءات المرعية. بل وضعت شروطا واضحة وقيودا ضارمة تمنع التوسع بتطبيق قوانين الطوارئ، كمّاً وكيفاً ومكاناً وزمناً، إلا بالقدر الذي تفرضه الضرورة. ولا بد أن نضع في الاعتبار أن هدف حالة الطوارئ هو مساعدة السلطة للتمكن من حماية سلامة حياة المواطنين وصيانة أمن الدولة والمجتمع عندما يعجز الدستور وتفشل الأساليب المرعية في ضمان وتحقيق ذلك. ولا يجوز أن تتحول قوانين الطوارئ إلى بديل دائم للدستور ومصدر خوف مستمر يهدد سلامة المواطن ووحدة المجتمع.
فإلى أي مدى يمكن القول أنّ حالة الطوارئ المعلنة في معظم الدول العربية، وبشكل خاص في سورية حيث تحولت إلى حالة سائدة منذ أكثر من أربعة عقود، تحقق أهدافا مشروعة؟ وإلى أي مدى تلتزم السلطات التنفيذية في سورية في ممارساتها بالضوابط والشروط التي يفرضها الدستور ويحددها القانون؟ الإجابة على هذه الأسئلة تتطلب بحثا خاصا سنوجزه في مقال لاحق إن شاء الله.
موقع اعلان دمشق