عواصف التأزم الآتية: عاتية على السياسة إسوة بالاقتصاد
صبحي حديدي
هل نسير، جميعاً، نحو الخراب؟ هكذا أخذ يتساءل الكاتب والاقتصادي الفرنسي جاك أتالي في سلسلة مقالات نشرها خلال الأسابيع الماضية، ثمّ توّجها قبل أيام بكتاب جديد يحمل روحية التطيّر ذاتها في العنوان: ‘هل سينهار كلّ شيء خلال عشر سنوات؟’. المعلومات تقول إنّ طبعة الكتاب الأولى بلغت 70 ألف نسخة، ليس لأسباب تخصّ علوّ كعب المؤلف في الاقتصاد السياسي؛ بل لأنّ توقيت نشر الكتاب حاسم تماماً، لجهة التناغم مع حال الرعب العامة، الجَمْعية على نحو أو آخر، إزاء مآزق الاقتصادات الغربية، في المصارف والبورصات، كما في خزائن الدول وديونها العامة.
ولا بدّ، على الفور، من التذكير بأنّ أتالي ليس بالمراقب العادي لمشهد العولمة الراهن، أو خرائط التأزّم الاقتصادية والجيو ـ سياسية، فهو عمل مستشاراً وكاتم أسرار في حاشية الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتيران، فوقف على الكثير من خفايا السياسة الدولية خصوصاً في طور انهيار المعسكر الاشتراكي وحرب الخليج الثانية، فضلاً عن الأروقة السرّية لذلك التوافق الوطيد بين الاشتراكي ميتيران واليميني الألماني هلموت كول. وأتالي، ثانياً، اقتصادي بارز، شغل منصب المدير العام لأوّل بنك أوروبي موحّد، وُضع تحت تصرّف وإدارة الإتحاد الأوروبي. وهو، ثالثاً، يهودي يراقب العالم بذلك النوع الحصيف والمرتاب والمتنبّه إلى نُذُر الكارثة، كلما ادلهمت السماء أو ثار العصف.
آخر نبوءاته، إذاً، تنطلق من حقيقة أنّ الدَيْن العامّ في البلدان الغربية الكبرى لم يبلغ هذه المستويات الهائلة إلا في طور الحرب الكونية، وبالتالي لم تكن عواقبه على هذه الدرجة من الخطورة في أي يوم، بصدد سيرورة الأنظمة الديمقراطية ذاتها. وإذْ ينطلق أتالي من مثالَيْ أيسلندا واليونان، فإنّ قراءته للعواصف الآتية تخلص إلى أنها سوف تكون عاتية على أنظمة الديمقراطية، قبل اقتصاداتها السياسية؛ وعلى مفهوم السيادة الوطنية، ليس في قطاعات التخطيط والتنمية والاستثمار وحدها، بل في القرارات الوطنية الكبرى أيضاً. ومسألة الدين العام هذه لا تكفّ عن التفاقم، بمتواليات تكاد تفلت من كلّ منظومة حسابية، فتخلق التضخم وعجز المدفوعات وضعف القدرة الشرائية، وصولاً إلى الركود بمختلف أنساقه. والإنصاف يقتضي التذكير بأنّ أتالي كان، قبل سنوات قليلة، قد ساجل بأنّ السمة الجوهرية السائدة اليوم هي ‘انهيار’ Crash الحضارة الغربية، وليس ‘صراع’ Clash هذه الحضارة مع سواها، في إشارة نقدية واضحة إلى نظرية صمويل هنتنغتون حول صدام الحضارات. أكثر من هذا، ذهب الرجل إلى حدّ التكهن بأنّ الحضارة الغربية موشكة على الإنهيار، وكتب بالحرف: ‘بالرغم من القناعة السائدة القائلة بأنّ اقتصاد السوق اتحد مع الديمقراطية لتشكيل آلة جبارة تساند وتُطوّر التقدّم الإنساني، فإنّ هاتين القيمتين عاجزتان عن ضمان بقاء أية حضارة إنسانية. إنهما حافلتان بالتناقضات ونقاط الضعف. وإذا لم يسارع الغرب، ثمّ الولايات المتحدة بوصفها قائدة الغرب المعيّنة بقرار ذاتي، إلى الإعتراف بنقائص وأزمات اقتصاد السوق والديمقراطية، فإنّ الحضارة الغربية سوف تأخذ في الإنحلال التدريجي، ولسوف تدمّر نفسها بنفسها’.
كلام ثقيل، بدت وطأته أشدّ مضاضة حين جزم أتالي بأنّ ‘الشقوق’ و’الصدوع’ أخذت تظهر هنا وهناك على سطح الحضارة الغربية، وأنّ أبسط صورة بأشعة X سوف تكشف مظاهر الإعتلال العميق في الجسد ذاته وليس على جلده وقشرته الخارجية فقط، وسوف تحدّد بوضوح صارخ ‘خطر الفناء’ الوشيك الذي يتراكم كلّ يوم، جرّاء مظاهر الإعتلال تلك. ولقد بدأ بتحديد ثلاثة تناقضات مستعصية، غير قابلة للتصالح، تمنع حدوث الزواج الناجح بين اقتصاد السوق والديمقراطية: الأوّل هو أنّ المبادىء الناظمة لاقتصاد السوق والديمقراطية لا يمكن تطبيقها في معظم مجتمعات الغرب (ونضرب نحن مثالين: فرنسا الرأسمالية العريقة، حيث المكاسب الإجتماعية وحال النقابات وميراث الثورة الفرنسية، تعيق انطلاق اقتصاد السوق إلى ما يحتاجه أحياناً من وحشية قصوى عمياء؛ وتشيكيا الرأسمالية الوليدة كمثال ثان حديث العهد، لأسباب تخصّ مركزية اقتصاد الدولة القديم مقابل هشاشة اقتصاد السوق الوليد). التناقض الثاني هو أنّ هاتين القيمتين، السوق والديمقراطية، تدخلان غالباً في حال تصارع بدل حال التحالف، وتسيران وجهاً لوجه بدل السير يداً بيد. التناقض الثالث هو أنهما حملتا على الدوام بذور تدمير الذات، لا لشيء إلا لأنّ ديمقراطية السوق كفيلة بخلق ‘دكتاتورية السوق’ بوصفها عنوان حروب التبادل، بين ديمقراطية صناعية كبيرة، وأخرى أكبر، وثالثة تعدّ نفسها الأكبر.
والحال أنّ ما يتناساه أتالي، عن سابق عمد وتصميم، هو أنّ الكثير من جوهر هذا التأزم يخصّ الاجتماع الاقتصادي الفعلي، وحياة البشر اليومية، ومعيش الفئات الفقيرة والوسطى، ومفاعيل البطالة، وانكماش سوق العمل، والغلاء، وتخبّط أنماط الضمان الاجتماعي، وعشرات المشكلات الأخرى، الصغرى والكبرى. وهذه مسألة صراعات طبقية في نهاية المطاف، أياً كانت الأسئلة التي تُطرح على هذا المصطلح القديم، وأياً كان الاتفاق أو الاختلاف على حقيقة أنه لا يتقادم بمعنى الانطواء، بل يتجدد بمعنى اكتساب محتويات راهنة فعلية. وإذا كان أتالي يتعمد إنكار هذه الحقيقة، أو يتجاهلها تماماً ويتغافل عن آثارها، فإنّ سواه من منظّري الاقتصاد، وعلى شاكلته في الهوى النيو ـ ليبرالي، توقفوا عن الاقتداء بخيار النعامة، وأخرجوا الرؤوس من الرمال، لإبصار الواقع على حقيقته، وفي ضوء حقائقه.
هي، كذلك، سياسات عليا ترسمها، وأحياناً تعيد إنتاج ركائزها، أحزاب شتى تصعد إلى سدّة الحكم تحت رايات يمينية تارة، ويسارية طوراً، ولكنها في الجوهر تلتقي عند خطّ الوسط الأشهر، أي ‘السبيل الثالث’ دون سواه. وفي حزيران (يونيو) 1999، عشية انتخابات البرلمان الأوروبي، كان المستشار الألماني غيرهارد شرودر ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير قد أصدرا الوثيقة التي حملت اسم ‘بيان من أجل السبيل الثالث’، حاولا فيها مغازلة خطّ الوسط في البلدين، وتوهما إمكانية كسب ناخبي هذا الخطّ وكسب الانتخابات بالتالي. آنذاك، أسفرت انتخابات البرلمان الأوروبي عن هزيمة مريرة لصاحبَي البيان، فتفوّق المحافظون على العمّال في بريطانيا، وخسر حزب شرودر 10 نقاط بالقياس إلى الانتخابات التشريعية التي جاءت بالحزب الإشتراكي الديمقراطي إلى الحكم. ولن يطول الوقت حتى يلتحق الحزب الإشتراكي الفرنسي بالركب ذاته، ويُمنى بهزيمة نكراء مزدوجة: في الانتخابات الرئاسية حين سقط ليونيل جوسبان أمام مرشح اليمين جان ـ ماري لوبين، وفي الانتخابات التشريعية حين عاد الإشتراكيون إلى صفوف المعارضة.
انتخابات بريطانيا، التي جرت مطلع هذا الشهر، لم تسفر عن هزيمة حزب العمال، فحسب؛ بل أطاحت بغالبية أركان فلسفة ‘العمال الجديد’، التي قامت على إنجاز زواج اقرب إلى سفاح القربى، بين السبيل الثالث كما اقترحه بلير، والسبيل الأوّل كما طبقته مارغريت ثاتشر. بيد أنّ الاقتصاد الفعلي، مثل الاجتماع السياسي، كان يفيد بأنّ هذا ليس سوى خطّ الوسط القديم ـ الجديد، مع تجميل هنا أو تعديل هناك: خطّ الوقوف عند نقطة متساوية بين أقصَيَين، وخطّ التوسّط بين اليسار واليمين في عبارة أوضح. ومنذ أن دعا البابا بيوس الثاني عشر إلى سبيل ثالث بين الإشتراكية والرأسمالية في نهاية القرن التاسع عشر، كان المصطلح يصعد هنا وهناك في الثقافة السياسية الغربية، وكلما اقتضى الأمر هذا أو ذاك من أشكال التصالح أو التحالف أو المساومة.
وكان الإقتصادي الأمريكي الكبير جون كنيث غالبرايث قد رفض هذا السبيل، وأعلن صراحة عجزه عن فهم طبيعته الملموسة: ‘هل يُراد منه احتلال موقع وسيط بين الصحيح والخاطىء؟ ولكن ما السبيل الأوّل والسبيل الثاني اللذَين يُفترض في السبيل الثالث أن يتجاوزهما أو يتخلص منهما’؟ وأمّا إيان ماكلين، أستاذ العلوم السياسية في جامعة أكسفورد، فقد اعتبر أنّ القول بسبيل ثالث يشترط ضمناً حرّية القائل في أن يفعل ما يريد، وحرّيته في أن يقصي ما لا يريد إلى السبيل الأوّل أو إلى السبيل الثاني. وإلى جانب ‘الخمول الفكري’ الذي يستولد هذا المصطلح، ثمة في رأي ماكلين تضليل فكري بالغ الخطورة، وثمة خيانة أيضاً.
وللمرء أن يسأل أتالي، أحد المدافعين عن صيغة (وإنْ مخففة قليلاً!) للسبيل الثالث هذا، كيف لا يكون الانهيار الوشيك مصير اقتصادات غربية خضعت وتخضع لتشريعات في تنظيم العلاقة بين الدولة والسوق لا تتكىء إلا على تقوية الفريق الثاني ضدّ الفريق الأوّل؟ ثمة، على سبيل المثال فقط، ذلك القانون المعروف باسم، فريتس بولكشتاين، المفوّض الأوروبي السابق والليبرالي الهولندي الشهير، الذي بشّر المجتمعات الأوروبية بأنّ جميع مؤسسات القطاع العام، في جميع الدول الأعضاء في الإتحاد الأوروبي، سوف تُطرح على السوق كبضاعة، أي سوف تدخل بالضبط في ذلك النوع من المنافسة غير المتكافئة مع الإحتكارات العملاقة. الأمر، بالطبع، لم يقتصر على هذا، لأنه ببساطة كان يفضي إلى انحطاط الكثير من تلك الخدمات إذا ما بيعت للقطاع الخاصّ (كما باتت عليه حال السكك الحديدية في بريطانيا جرّاء سياسة مماثلة اعتمدتها ثاتشر)، فضلاً عن ارتفاع أسعار خدماتها على نحو لا تتحكم به سوى البورصات.
مثال آخر، يخصّ القطاع العام وتقليص أو حجب التمويل الحكومي (أي الشعبي، بالمعنى الملموس: ذاك الذي يموّله المواطن عن طريق الضرائب المباشرة وغير المباشرة)، عن المشاريع والمؤسسات والخدمات التي تمسّ حياة المواطن اليومية، كالتأمين الصحي والنقل والمواصلات والبريد والهاتف والكهرباء. التشريعات الحكومية، واهتداء بالدستور الأوروبي الموحد، تستبدل تعابير ‘الخدمة العامة’ أو ‘القطاع العامّ’ أو ‘قطاع الدولة’، بمصطلح جديد هو ‘الخدمات ذات النفع الاقتصادي العامّ’. إلا أنّ المحتوى الملموس مراوغ وغائم، والبديل الفعلي هو أنّ الخدمات هذه تخضع بدورها لمبدأ حقّ التنافس في السوق، الأمر الذي يعني عملياً عجزها عن منافسة الإحتكارات العملاقة.
مستوى العملة الموحدة، حيث يشهد اليورو في هذه الأيام تراجعاً مضطرداً أمام الدولار، لا ينفصل عن المستوى الآخر الجيو ـ سياسي والأمني الناجم عن انخراط الإتحاد الأوروبي في مشاريع الحلف الأطلسي العسكرية عموماً، وفي إطار العلاقة الأوروبية ـ الأمريكية استطراداً. ولعلّها ما تزال سارية المفعول تلك الرسالة التي أطلقتها وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق، مادلين أولبرايت، تعليقاً على خطط توسيع الإتحاد الأوروبي: أمريكا أنقذت أوروبا من غائلة الجوع عبر ‘خطة مارشال’، وحافظت على أمن شعوبها طيلة الحرب الباردة اعتماداً على صيغة الحلف الأطلسي، وليس مسموحاً لأوروبا الغربية أن تزدهر أكثر من ازدهار الولايات المتحدة نفسها، وأن توحّد صفوفها عن طريق الإنتقاص من مبدأ الهيمنة الأمريكية على النظام الدولي.
وتلك خلاصات تعيد المشهد إلى ما هو أعمق، وأبعد أثراً، من نبوءات جاك أتالي وأمثاله، حتى إذا انطوت على بعض حقّ، لا يُراد منه سوى الباطل. لا مفرّ، إذاً، من العواصف الآتية؛ وإنه لأمر طبيعي تماماً أن تكون عاتية على النظام السياسي، إسوة بالاقتصاد السياسي.
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –