صفحات العالمميشيل كيلو

قوانين الطوارئ… ما سرها؟

ميشيل كيلو
كانت مصر تبرر قوانين الطوارئ بالمعركة ضد العدو الصهيوني، وبضرورة أن تكون مستعدة لمواجهة ما قد يقع من كوارث طبيعية مباغتة. ومع أنها رفعتها لبعض الوقت، عقب توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل، فإنها استعادتها بعد اغتيال الرئيس السادات عام 1981، ومددت فترات تطبيقها مرات عديدة منذ ذلك التاريخ، و’صمدت’ صمودا مذهلا في وجه كل من طالبها بإعادة النظر في علاقاتها الرسمية والطيبة مع إسرائيل، التي دأبت على القيام باعتداءات يومية، وشن حروب دورية، في شمالها ضد لبنان، وجنوبها ضد فلسطين عامة وغزة خاصة، مع أن الأخيرة تقع على حدود مصر مباشرة، بينما لم ينفع تطبيق قانون الطوارئ خلال الكوارث الطبيعية التي عرفتها أرض الكنانة، وخاصة منها الزلزال الذي دمر أحياء كاملة من القاهرة، وانهيار جبال المقطم على ما تحته من بشر. في ذلك لوقت، قدم الرسميون المصريون الدليل على فشل القانون من خلال الاعتراف الصريح بأن مساعدات الإخوان المسلمين كانت في الحالتين أسرع وصولا إلى المنكوبين من مساعدات الحكومة، التي جاءت متأخرة وناقصة، وأثارت من الاستياء أكثر بكثير مما لاقت من القبول والعرفان.
يستمر العمل بقانون الطوارئ، مع أنه لم تعد هناك حرب أو حالة حرب مع إسرائيل، وليس هناك أي خطر عربي أو إفريقي يهدد مصر. بعد اتفاقية السلام، القائمة منذ قرابة ربع قرن، يعم السلام بين مصر وإسرائيل، مع أن الأخيرة لم تعش لحظة واحدة في سلام مع العرب، واستغلت خروج الشقيق العربي الكبير بوزنه المهم من الصراع ضدها للاستفراد ببقية العرب، وشن غزوات متنوعة وحروب شاملة ضدهم، ولاحتجاز عملية السلام معهم، عملا بنصيحة كيسنجر الذي قال عام 1974 لرئيسة وزراء العدو غولدا مائير : إن السلام مع القاهرة سيضعف الدول العربية، وسيحول القادة العرب إلى شيوخ عشائر لا حول لهم ولا طول، من السهل ابتزازهم. لم يعد هناك حرب، ولا يفكر أحد اليوم بالحرب بين مصر وإسرائيل، ومع ذلك، يطبق قانون قيل دوما إنه وجد لتحسين وضع العرب في الحرب، ورفع درجة استعداد بلدانهم وجيوشهم لها. انتفت مبررات القانون، لكنه لا يزال مطبقا، ويبدو أنه ستبقى مطبقا إلى ما شاء الله !.
… وكانت المعارضات العربية قد اتهمت النظم بتطبيق قانون الطوارئ لأسباب داخلية تتصل بعلاقات السلطة مع المجتمع، وليس لأسباب ترتبط بالحرب مع الخارج عامة والعدو الصهيوني خاصة. أما دليلها الذي يؤكد صحة تهمتها، فهو دامغ لا يحتمل أي نقاش: لم يحسن تطبيق القانون وضع العرب العسكري، واستعداد جيوشهم لملاقاة أي عدو، وأوجد بالأحرى تغطية قانونية لقمع الخصوم الداخليين، واستخدام العنف ضد المواطنين، بعد أن تم إدخال القانون إلى السياسة وتوطد في نسيجها، وحولها إلى فسحة تعج بحالات استثنائية معادية لأية حال طبيعية، ولاغية لأي تعاقد أو أثر من تعاقد بين الدولة والشعب، ولأي قانون دستوري يمكن أن ينظم علاقات ومصالح وأدوار مكونات المجال الوطني، ويحفظ حريتها ووجودها، وأية رقابة على السلطة وأجهزتها، وأية مساءلة قانونية لأركانها، وأي فصل حقيقي وملموس للسلطات الثلاث. وكانت المعارضات قد ذكّرت مرارا وتكرارا بأن القانون ليس مفيدا بالضرورة، حتى في حال نشوب نزاع أو حرب، بدلالة الهزائم التي لازمت فرضه وتمخضت عنه خلال الحقبة العربية المعاصرة، بينما لم يفرضه العدو الإسرائيلي، الذي لا تقارن مساحة دولته بالمساحات العربية الهائلة، وإمكاناته بإمكانات العرب غير المحدودة، غير ساعات أو أيام قليلة خلال حروبه مع أعداء يحيطون بأرضه من كل جانب، لكنه حقق انتصارات متلاحقة عليهم، في حين لم يمكنهم فرض القانون والتمسك به من تنظيم دفاعهم وحماية أنفسهم ولو في أدنى الحدود، وانهزموا في كل حرب خلال دقائق أو ساعات قليلة، واستجاروا بأمريكا طالبين وقف القتال لمنع انهيار نظمهم. لم ينفع قانون الطوارئ ضد العدو وفي حالات الكوارث الطبيعية، ونفع في إدامة نظم مهزومة وتقوية حكام عاجزين، تمسكوا به تمسك الغريق بقشة، كما تقول المعارضة بحق.
قبل سنوات، مع تصاعد النضال الديمقراطي العربي ومرور النظم العربية في مرحلة انتقال اهتزت خلالها قوائمها وارتعدت فرائصها، طلع ممثلوها على الأمة ببدعة ‘تقييد قانون الطوارئ’، الذي يقال إن مجلس الشعب المصري سيدرسه وسيعيد النظر فيه. لمنح هذه البدعة بعض المصداقية، قال وزراء عرب إن القانون جمد وسيلغى في مرحلة لن تكون بعيدة. هذا ما صرح به وزراء إعلام وداخلية وخارجية بلدان عربية مختلفة. زعم هؤلاء أن القانون لن يطبق من الآن فصاعدا إلا على الكوارث الطبيعية، ولمنع وقوع عمليات عنف مسلح داخل البلدان العربية، تجنبا لانفلات العنف الأصولي والتآمر الخارجي. أما في السياسة الداخلية، فهو مجمد ولن يطبق بعد الآن. تضمن هذا الموقف جانبين: الرغبة في احتواء المعارضة وتخديرها، والإصرار عل التمسك بقانون الطوارئ، الذي يفرض في بلدان الدنيا المحترمة عند وقوع كارثة طبيعية أو حرب، وليس قبل ذلك بعشرات السنين.
والواقع أن التركيز على ضرورة إلغاء القانون قد تراجع بعض الشيء في الخطاب المعارض، وحل محله خطاب يطالب بالإصلاح، الذي بدا أكثر أهمية وحتميا، وإلا فشلت النظم العربية في إنقاذ نفسها من التطور الدولي والمحلي، لقائم على الإصلاح. بعد حين، تبين أن القانون لم يجمد وإن صار العمل فيه أكثر انتقائية، وأن النظم نجحت في إخماد مطالبتها بإلغائه، وفي المناورة على مطلب الإصلاح، الذي قالت إنه ضروري للعرب، وللتصالح بين السلطات والشعب، بعد مرحلة عداء وعنف استمرت طيلة عقود وانتهت إلى إضعافهما معا.
مع تصاعد المد الشعبي في مصر، استعاد نظامها أكذوبة تجميد قانون الطوارئ، الذي تطالب قطاعات واسعة من المصريين بإلغائه كليا وبصورة نهائية. أما حجة النظام فهي الحفاظ على مصر بمنأى عن الفوضى، التي ستترتب حتما على أنشطة المنظمات الإرهابية والتغيير السياسي أو الدستوري الذي قد تشهده أرض الكنانة، خاصة إن طاول الأسرة المباركية المباركة أو أحد أفرادها، وطبقة اللصوص السياسيين، التي تشاركها حكم البلد ونهبه. ترى، هل في الأمر مساومة: نجمد قانون الطوارئ إن وافقت المعارضة على القبول بالأمر السياسي القائم: في شخوصه وهياكله ؟. أم أن النظام سيجمد القانون كما سبق لغيره من النظم أن ‘جمده’، ريثما يسترد أنفاسه ويتمكن من شن هجوم عام على معارضيه؟. مهما كان السبب : إن تجميد أو تخفيف المطالبة بإلغاء القانون سيكون خطأ جسيما، ليس فقط لأن نظمنا تكذب، بل كذلك لأنها لا تستطيع العيش دون قانون طوارئ وأحكام استثنائية، وسيجعلها تجريدها منهما عاجزة عن البقاء في السلطة، وعن تأسيس حاضنة بديلة لها تعيد إنتاج نفسها بواسطتها.
ليست قانون الطوارئ غير أداة غير شرعية وغير قانونية، تضع السلطة بواسطته الشعب خارج القدرة على السياسة وتفقده ما قد يتوفر لديه من أهلية لها، مثلما تضع البلد خارج القدرة على الحرب وتفقده ما قد يتراكم لدى جيشه من استعداد لخوضها. إنها الأداة التي تقمع الداخل، وتوفر الحماية الخارجية، فهي في آن معا وسيلة حرب داخلية لا تهدأ أو تستكين، وفرار دائم من مواجهة العدو الخارجي أو التصدي لمشاريعه. لهذا السبب، يرى النظام العربي في تخليه عنها تخليه عن الحكم والكرسي، ويقاتل في سبيلها قتال من ظهره إلى الحائط، لا هم له غير إنقاذ نفسه عبر إنقاذها والحفاظ عليها، خاصة عندما يزداد ضعفا وتتعاظم المعارضة ضده.
صار النظام العربي وقانون الطوارئ صنوين لا يفترقان. لقد ولدا معا وعاشا معا وسيموتان بالتأكيد معا، فلا سبيل إلى الخلاص من أحدهما دون الخلاص من الآخر. هكذا يتصرف النظام العربي، وهكذا يجب أن يفكر ويتصرف وينشط معارضوه!.

‘ كاتب وسياسي من سورية
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى