صفحات ثقافية

“حياة خاصة” للاميركية الحائزة بوليتزر جاين سمايلي: رواية موت الأمل وليس هناك أفضل من الانتظار

null
رلى راشد
تستوقفنا الأميركية جاين سمايلي باعتبارها صوتا معاصرا صادقا في سبره الطبيعة الانسانية وفي انقاذ مروحة لحظات ينشغل معظم الناس في هجائها. في “ديكاميرون” جدارية بوكاتشيو الإيطالية التي يترصّدها وباء الطاعون في فلورنسا بين عامي 1348 و1351، تم التأسيس للرواية المعاصرة البدئية حيث التركيب الإنساني اساس ومنصة انطلاق، ذلك ان اول ما تقوم به مجموعة من الهاربين من الحمّى الصفراء هو التطوع للاعلان: “ينبغي لنا الخروج من هذا المكان”. غريزة البقاء محور قديم قدم الانسان، وهؤلاء نماذج يختارون أن يلوذوا ببقعة نائية في الريف، في شطط الآمال الجميلة بعيداً من الوباء الزاحف، حيث السرد هو الترياق الناجع. اهمّ ما في فحواه، ليس تلك الايحاءات الجنسية المفرطة، وانما تصميم الناس المهدّدين على استنباط فسحة لتنشق هواء “نظيف” في وسط الكارثة، واهتمامهم لتأمل شتى انواع الشؤون المسلّية والخارجة على المعايير والخادعة ايضا.
قبل سنوات عدة، اعادت جاين سمايلي احياء مناخ “ديكاميرون” في نسخة معاصرة من الحكاية دمغتها بعنوان “عشرة ايام في الهضاب”، حيث حلّ ناس اميركا الراهنة الموزّعون بين مرشد روحي ومخرج سينمائي وآخرين، في احد العقارات، بغية التواري من وباء حرب العراق. والحال، ان المقاربة المدينة الى القرون الوسطى، لا تنفك تطارد سمايلي، على الأقل في ذاك الميل التعليمي الى عدم الغرف من الجيد الظاهري وانما مما تبقّى فحسب، والاعتماد على هذا القسط من اجل استنباط الجيد. لينتهي بها الامر ككاتبة، الى تقدير كل شذرة من الفتات.
لا يغيب هذا المنطق عن احدث رواياتها، “حياة خاصة”، الصادرة أخيرا في الولايات المتحدة حيث يخدم اقتباس مستقى من الكاتبة روز وايلدر لاين: “في تلك الايام انتهت جميع القصص بحفل زفاف”، وهو يُقرأ كوميض استهلالي. اما “تلك الايام”، فأواخر القرن التاسع عشر في وسط الغرب الاميركي حيث نشأت لاين وحيث تتفتح مراهقة الشخصية الرئيسية مارغريت قبل الزواج، ناهيك بحفنة سنوات على مفترق القرن العشرين. غير ان “حياة خاصة” لا يسعها سوى التعويل على الزفاف كوقفة بدئية لترفد معيش مارغريت بأنماط لا قدرة لتلك السيدة الساكنة على ان تستشرفها.
بنيت الرواية حول هيكلة صارمة اشبه بمشبك زمني يسمح للحكاية بأن تسرد وفق الاعوام. يشرع القصّ في كنف مقدمة مرساها عام 1942، ليستدير بعدذاك الى طفولة مارغريت في ميسوري في مطلع ثمانينات القرن التاسع عشر، ويستمر عبر حياتها الزوجية في كاليفورنيا قبل العودة الى عام 1942. والحال، ان مفهوم مقدمة الرواية، يتّخذ عندئذ بعد تلك الجولة الكرونولوجية معنىً اضافيا، ذلك انه مسؤول عن جعلنا نشعر بإلفة حيال الشخوص التي حوتها في اعقاب احساس بالغربة ازاءها.
تتكئ سمايلي التي ركنت اليها جائزة “بوليتزر” بفضل “الف فدان”، على نبرة كئيبة ومتأملة هنا، ذلك ان قدر مارغريت يشبه كل النهايات خلا تلك السعيدة. تتزوج المرأة في سن متأخرة نسبياً في فلسفة زمنها، اي بعدما اكملت السابعة والعشرين، وتأمل ان يكون توتر زوجها اندرو وهو يطلبها للزواج مجرد تعبير عن الحب حينما يتخّذ “شكل الشحنة الكهربائية بين العشاق”.
يسافر الثنائي الى فاليدجو في كاليفورنيا بعدما أُوكل الى اندرو، النقيب في القوات البحرية وعالم الفلك العاقد العزم على منافسة داروين في اكتشافاته، الإشراف على مرصد قاعدة “مير ايلاند”. لا تلبث مارغريت وفق سمايلي، ان تصير “مربكة بسبب هويتها الجديدة، ذلك انها لم تعد عانسا في قرية صغيرة في ميسوري”، وبعدما تقاعدت عن الانشغال بهموم الجيران والجلسات المديدة في المنزل. غير ان ملذات الحياة العائلية لن تكون ملذاتها، وذلك يشمل الامومة ايضا التي لا تتمتع بفضائلها سوى لبرهة. في وصف يصطاد الحب المادي، تكتب سمايلي ان مجيء طفل من مارغريت كامتداد لوجودها، شكّل بالنسبة اليها تبدلاً محوريا: “كان الامر لكأن الطفل مجرد صباغ وهي الصوف الأبيض”. لتزيد ان “النظر اليه وحمله بين ذراعيها جعلها تتلطّخ بذاك اللون اكثر فأكثر”. في فترة وجيزة، ينقلب تعجّب اندرو اللائق وفضوله العلمي الى ما يقرب الخبل، لتصير حياة مارغريت في الاطار عينه اكثر شخصية، وعلى نقيض شتى التوقعات، مغرقةً في الوحدة.
على خلفية نظرة مارغريت غير المضيئة، نتأمّل التاريخ الأميركي يتقدّم. هناك الهزة الأرضية في سان فرنسيسكو في عام 1905، وطفرة مهن جديدة مخصّصة للنساء، تصوّر من طريق شقيقة زوج مارغريت الحيوية الحضور، دورا بيل، والصحافية الموزّعة في صولات مبعثرة جغرافيا. تلك سيدة تزوّجت مهنتها، وتضمّ بين اصدقائها هنري برغسون وعزرا باوند. في احدى رسائلها المبتهجة تذكر الشاعر يرتجل قصيدة تتمحور عليها في لندن. يوفر حضورها صورة موازية للحوادث السياسية في البلاد على الاجمال. على هذا النحو، لا تغيب سنوات الحرب العالمية الاولى حيث “ينتشر الموت في كل مكان”، ناهيك بترحيل الاخصام الى المعتقلات الاميركية في مطلع الأربعينات من القرن الماضي، منبعا لانفراط مشاعر مارغريت التي تشهد ارسال جيرانها اليابانيين الى احد تلك المعتقلات.
تظهر نظرة سمايلي مشغوفة وورعة، اما مسار الرواية التاريخي فمشوّق في حالات كثيرة، وانيق في شتى الوجهات. غير ان “حياة خاصة” تتركنا في وسط سؤال حول ما تعنيه الحوادث الصغيرة إذا وُضعت في مبارزة مع الاخرى الفسيحة. انها في الصميم الصميم، رواية موت الأمل في صيغة سيدة تسعى الى استنباط الافضل لتدرك ان ليس هناك افضل من الانتظار. على ما تشير سيدات مجموعة الحياكة، ومارغريت جزء منها، يمكن الزواج ان يصير محاكمة. وفي زحمة السرد على مرّ الصفحات، يغدو هذا الزواج تراجيديا ساكنة، او لنقل، إذا اندفعنا الى اعادة صوغ كلام لاين الافتتاحي، مكان خاتمة حكاية مارغريت.
يركّز سرد سمايلي على التطلّعات المرصودة للزواج في منحى المؤلّفات المبلولة بـ”ماء الورد” وعلى نجاح ثلاث شقيقات في العرف التقليدي. هناك بياتريس الفاتنة اولا، ثم اليزابيث، في حين يترك لمارغريت مطرح متخلّف، ذلك انها اكثر انغماسا بالكتب وأشدّ ذكاء من ان تفتتن بالرجال المحليين، غير ان ذلك يتبدّل حين تلتقي بالنقيب الثري والباعث للتهيب، اندرو جاكسون جيفرسون ايرلي.
عند هذا المنعطف، تبدأ القصة التي ترغب سمايلي في بسطها. تنتهي القصص الرومنطيقية تقليديا عندما تقول الشخصية الرئيسية “نعم”، التي تؤذن بالمواقفة على صيغة العيش الثنائي. غير ان سمايلي تسحب الستار العازل، لتعرض ما يجري بعد لحظة القبول، وتفاصيل ما يدور بين شخصين عندما يجبران على مجابهة مأساة حمْل لا يكتمل، ثم وفاة طفل حديث الولادة. نلاحق الفشل المتصاعد لمنشورات ايرلي العلمية وبداية تبدد اوهام مارغريت ازاء الشريك. نشهد إخفاق الحب والحميمية بين نموذجين متخيلين، ونتساءل عن الحجة والحاجة الى مصير مماثل. هل السبب يفسر بالمآسي البازغة من حيث لا يدريان او بالفروق الثقافية بينهما او بالخبث في خصوص مشاعر احدهما تجاه الاخر في المقام الاول؟ ربما بدت الرواية تحليلا بائسا للزواج، غير ان سمايلي خبيرة ما يكفي لكي تشيح عن نصها عبء البؤس الامتثالي الميلودرامي. توفر السطوة التي ينم عنها الصديق والمهاجر الروسي المتورط بمكائد ومشاريع مريبة، كوساك بيتي، ضوءا كان ثمة حاجة ماسة اليه. لا تقصّر سمايلي كذلك في رصد المفارقة التي تؤتمن عليها مارغريت عينها. تلك شابة تؤمن بالزواج مصدراً للمغامرة وباباً لفرص اوصدت امامها كعازبة، وتعتقد ان التحالف الزوجي مع رجل مثقف سيجعل عالمها افسح، وليس اضيق. غير اننا نلاقيها في منتصف العمر معزولة في بيتها، تصرف ساعات لا تنتهي في طباعة مخطوط اخير اقتنع زوجها انه قادر على منحه الخلود.
لا تشكّل حرفة سمايلي الواضحة ها هنا في هذه الرواية، مفاجأة في عرفنا، ذلك انها استطاعت اثبات نفسها في نحو دزينة كتب متنوعة تماما، من بينها، فضلاً عن الكتاب الذي جاءها بـ”بوليتزر”، عناوين اخرى من قبيل “حصان الجنة” و”مو” الساخر، الى رواية خصصتها للاطفال. غير ان “حياة خاصة” اشبه بوثبة في سياقها الكتابي، فهي رواية تستطيع على الرغم من البداية المتثاقلة والتكشيرة الاستهلالية، الاستواء في النفس البشرية والمكوث هناك. في عالم منصف، كانت الرواية لتحصد عددا مستحقّا من القراء ذلك انه لا يحصل دوما ان يفد عمل مماثل في فرادته الى الآداب الاميركية، وإن كان القدر المتوقع لها لا يزال مطروحا للتأويل.
غير ان القدر الجماهيري الضئيل، لن يحرم سمايلي مكانتها بين الروائيات المولعات بالتحدّي التقني الرفيع. في الحادية عشرة، تمهلت عند آليات قصص شخصية تشرلوك هولمز، قرأتها وصارت في برهة شفافة تماما بالنسبة اليها. ولأنه يروق لها تجريب الأنماط الكتابية المتنافرة، طرقت باب الكوميديا والتراجيديا، كما في “الف فدان” و”الملك لير” المتمحور على مزرعة في ايوا. انغمست في التنويع لأنه جعل التقنية الكامنة في داخلها تقع في كل محاولة، على جديد تكتشفه. يفيدها بلا ريب الاّ تكون من الكاتبات المفرطات في الذاتية. فيما يستلهم بعض الروائيين العالم، والاخرون التجربة الآنية، تسمح سمايلي للمعيش الشخصي المعممّ والمشترك بين ألوان الناس بأن يكون قماشة خاماً تشتغل عليها. بعد عقود على انجاز مؤلفها “مو”، راحت تنخرط في مسارات اعادة كتابة حيوات فردية لتثبّت ما يجب تثبيته في كل منها، وها انها تعيد جدلها مع نزوع صوب التشويق التأريخي.
“حياة خاصة” صورة مجازية عن الحياة الاميركية. اندرو من المشاهير العباقرة، تفخر بلدته بأنها افرزته، يعي جدا طابعه الاميركي. انه الرجل الجديد في عالم جديد، في قرن جديد. غير ان هذا الشيء لن يدوم، وإن كان ذلك لا يعني خسارته حسّ التنوير. اما مارغريت فمعتقلة في نماذج المواطنة العظيمة والغامرة، تذكر بروايات حاكت النساء من قبيل “انا كارينينا” و”انطونيا خاصتي”.
إذا كان ثمة دراما في “حياة خاصة” فإن قسطها الأكبر يدور في رأس مارغريت. تقبض الرواية على حرية اثيرية لسيدة من القرن التاسع عشر في لحظة تمكّنها من ركوب دراجة هوائية للمرة الأولى، او في برهة تلقّفها اللذة الحسّية المتأتية من تقليب صفحات كتاب. انها رواية حيث اسلبة سمايلي في تأجج الجمر.
مقتطف: حـــيـــاة خـــاصــة
1942
كانت ستيلا ترقد في سلّتها عند الزاوية عندما وثبت وهي تنبح قبل ان تخرج من باب غرفة النوم. كان في وسع مارغريت ملاحقة هرولتها المتسرّعة من طريق السمع، فيما الكلبة تنزل السلالم. كان الوقت مبكرا، والضباب لا يزال يلقي بثقله على نوافذ غرفتي النوم.
جلست مارغريت غير انها ارخت بظهرها بعدذاك على وسادتها مستاءةً بعض الشيء، لم تتنبه الى البرقية بلا ريب، وها ان زوجها اندرو قد عاد. استعادت وعيها اكثر وراحت تترقب لحظة يفتح الباب الرئيسي. غير انه في الواقع كلا، لم يتم ارسال أي برقية. تذكرت انها تاقت لأن تردها إحداها. ألم تغلق الباب الرئيسي؟ حبست انفاسها وراحت تصغي. بسبب الحرب الدائرة، احتشد كل أنواع الناس في فاليدجو. في برهة احسّت ببعض الخوف، تسللت الى خارج السرير وارتدت فستانها بسكون تام، لتعود وتفتح باب غرفتها اكثر وتتقدم ببطء الى مكان بعيد خارجا قدر ما يكفي لكي تستطيع النظر الى ما يجري خلف الدرابزين. لمحت ذروة رأس احدهم، لم يكن رأس اندرو، ولمحت سترة بنقوش مربعة ايضا. انحنى وجه ما الى الكلبة ستيلا، وراحت تحرك ذيلها.
كان الامر يدعو الى الإطمئنان. تنهدت مارغريت عميقا فيما بانت ملامح الوجه، فلم تستطع سوى الابتسام. قال: ارتدي ملابسكِ يا عزيزتي، نحن ذاهبان في نزهة. عندما رأت بيت، اسكتتها السعادة التي سيطرت عليها، على الرغم من انه بدا كأنه دخل من دون عناء. هل يعني ذلك انها تركت الباب غير مغلّل؟ لا شك في ذلك، وإلاّ كيف كان ليحصل على نسخة من المفتاح؟ لم يتطلب منها الاستعداد، الكثير من الوقت، حرصت على ذلك تماما. سرّحت شعرها فحسب واعادت ربطه لكي تستر جزءا من الخصلات الرمادية، ثم اخرجت من الخزانة اجمل بزّة زرقاء بياقة بيضاء كانت تملكها، وآخر زوج من الجوارب النسائية، وابهى حذاء من الخزانة. اعتمرت القبعة بالشريط الأسود والحجاب النصفي، وفكرت في انها بدت انيقة، وليس اكثر. في سنّها، لا يمكن المرء ان يأمل ان يبدو جميلا. في اي حال لم تكن يوما فاتنة.
عندما بلغت اسفل السلالم، ابتسم بيت وقبّلها على وجنتها. حجزت ستيلا في المطبخ وتأكدت من أن الفتحة التي تخرج منها الكلبة الى الباحة مفتوحة. قادها بعدذاك الى سيارتها ولم تكن رأتها قبلئذ، كانت من طراز “بويك” رمادية اللون ونظيفة تماماً. سألته “الى أين نتجه؟”
– الى مكان قصدته في السابق.
لم تستطع الحصول على المزيد.
لم تكن مارغريت سمعت اي اخبار في خصوص بيت منذ اربعة أشهر، على الاقل  منذ ذاك الاتصال الهاتفي الاخير والعاصف قبل يومين على الهجوم على بورل هاربور. في الماضي، كانت تراه مرة في الاسبوعين. بيد انه خلال تلك المرحلة الفاصلة نسي على الارجح انه شاخ او ربما تكون هي نسيت كم تقدمت في السن. الان وفيما كان يقود السيارة، راحت تنظر اليه مواربةً. لاحظت ان شعره فاحم وهذا لم يكن منطقيا، غير ان وجهه كان مجعدا اكثر منها وكان يحمل بقعا في اكثر من مكان. اما اسنانه فصفراء وملتوية بعض الشيء. فكّرت انه ربما لم يكن مقدرا لآل توساكس ان يعيشوا الى هذه السن. ثم تنبهت بعدذاك الى يديها، والى التجاعيد المتسلّلة اليها والى البقع ايضا. تساءلت ما الذي يمكن ان يقوله عنها في هذه اللحظة. ستبلغ الرابعة والستين في وقت قريب، وهو سيصير عمره، حسناً لم تعد تدرك سنّه تماما. غير انها تعشقه بلا ريب، كان يتملّكها شعور يتحدّى هذه التأملات المنوطة بمرور الوقت. في كل حال كانت مشاعرها تجاهه امراً يراودها في معظم الاحيان، هل كانت تعشقه او تقدّره فحسب، او أن ما يجري كان شيئاً آخر.
تلفتت صوبه مجددا. تأمّلت الذقن المربّعة والأنف والرجل الدمث والغامض الذي لا يشبه اي رجل آخر تعرّفت اليه. لم يسألها اي شيء في خصوص اندرو، ولم تطلعه على سفره الى واشنطن او تسأله اين مكث خلال الأشهر المنصرمة.
كانت فاليدجو بسبب الحرب المندلعة في حال تفجر، وكانت تجوب شوارعها سياراتٌ وشاحنات محمّلة حاجيات. عندما خرجا من البلدة متجهين الى الشارع رقم 37 في محاذاة الشاطئ الشمالي، كانت حركة السير لا تزال كثيفة فيما اشرقت الشمس وارتفعت الحرارة في داخل المركبات. انصرفا الى حديث كسول، سألها كيف كانت تشعر؟ في حين سألته متى اشترى سيارة “بويك”؟ لتزيد: في الايام الاخيرة كان الطقس شامساً أليس كذلك؟ فهمت من تلقاء نفسها ان الموضوعات المحورية لن تطرح الان، ستنتظر الى حين الكشف عن هدف رحلتهما. كانت النزهة ممتعة الى اقصى حد، ذلك لأنها لم تغادر البلدة او المنزل حتى مذ اصيبت بالنوبة. كان العشب يتراءى سميكا واخضر بعدما غسلته امطار الشتاء، اما الهواء فمضيئا الى حد كبير بسبب اشعة الشمس التي اخترقته لتنعكس على حجاب الضباب. عندما انعطف بالسيارة صوب الجنوب في اتجاه المدينة، بدت الجبال كأنها دخيلة على الطريق السريعة، كانت سوداء ومحرمة، في حين بدت المياه على الشاطئ كأنها تتلألأ. بعدذاك انسحب الضباب، ذلك انهما كانا بلغا جسر “غولدن غايت”. كانت الشمس تنيره والأسلاك ترتفع الى القمم في حين تسلّلت الطريق على نحو ملتوٍ بينها. في وسط الجسر، تبعثرت مياه الاطلسي في وجهتين مدهشتين بلونها الازرق الغامق، وانما المشتعل بالضوء. صارت بعدذاك البساتين الى جانبي الطريق السريعة خضراء من جديد الى حين دخلا المدينة. انعطف بيت بالسيارة جنوباً في اتجاه فان نيس، وظل يتقدم. تلاشت المنازل والمستودعات لتترك المكان لسهول ومستنقعات، قبل ان تعود المنازل والمستودعات الى نطاق الرؤية. عندما راحت السيارة تدخل تانفوران، احسّت بسرور لبرهة، غير انها تذكّرت ان تانفوران تخلّت عن دورها كحلبة سباق لتمسي مركزا لحجز اليابانيين والاميركيين من اصول يابانية، فجعلت الفكرة وجهها يشرق. قالت: بيت لقد وجدتهم! دنت منه واخذت يده، ليضغط على يدها بدوره.
في تلك اللحظة، رأت حلبة السباق تتلاشى امام عينيها. تلمّست كيف صار المكان راهناً. تذكرت الحلبة المنظّمة في الماضي حيث مرّت الأحصنة هنا وهناك وارتادتها حشود الناس وكيف افسحت لسياج عال وقف الحراس امامه مسلّحين، في حين احتجزت مجموعات من الناس في الداخل، ناس كثيرون من دون احصنة في حال غليان لافتة.
سُمح لهما باجتياز المدخل واشير اليهما بالوجهة التي ينبغي لهما سلوكها بغية ان يصلا الى المرأب يساراً، وبدت هذه الزاوية قسما مخصّصا للزوار. كان السياج ها هنا محطما. ترجّل بيت وفتح باب السيارة من صوبها. قالت: يسعدني حقا ان تأتي بي الى هذا المكان. لقد سألوا عنك. هل كنت تترد الى هنا؟
“وجدتهم في الأسبوع المنصرم. انها زيارتي الثالثة. نظراً الى اني لست احد افراد العائلة، ربما تكون زيارتي الأخيرة. انا على معرفة بأحدهم، بشخص واحد فحسب، غير انه لا ينتمي الى الجيش، علما ان القوات المسلحة تسيطر على الأمور هنا”.
امسك كوعها فيما حمل كيسا في اليد الاخرى، لم تستطع ان تعرف ما كان في داخله. تحولت مرابط الاحصنة غرفاً موقتة. كانت جميع الابواب مفتوحة، ذلك انه لم يكن ثمة مدخل ثان يفضي اليها. في حال اغلق باب، كان لينقص الهواء تماما في استثناء ما تسرّب عبر الفتحات في الجدران حيث ركّزت الواح خشبية.
لم تستطع الامتناع عن التحديق الى الناس، بينما راحت تتقدم وهي تبتسم لكل شخص بادرها بنظرة. كانت الجدران في مرابط الخيل مطليّة باللون الأبيض وانما بطريقة غير متقنة. لم يجر اصلاح اي شيء في باطن الجدران من اجل سدّ الفجوات، ولم تتم معالجة الشقوق. غير ان مرابط الخيل اكتظّت بالحاجيات وحيث عُلّقت الثياب ووُضعت الصناديق والحقائب والكراسي والأسرّة وطاولات صغيرة. تابعا سيرهما حتى وصلا الى تقاطع ممرات حيث استدارا يسرةً ثم استدارا يمنةً عند مستوى “المزرعة ايتش” (المزرعة حاء). نظر الناس اليهما فيما كانا يمران، وكانت الأصوات تنخفض او تصمت تماما. راح طفلان ثم ثلاثة يصرخون بصوت واحد “هاي مرحبا”، قبل ان ينصرفوا الى ضحكة هستيرية. قابلتهم بابتسامة وشعرت بالأسف لأنها لم تكن تحمل شيئا يمكنها ان تهبهم اياه.
وقف بيت لبرهة ونظر من حوله. كانا بلغا الجزء الأخير من “المزرعة جيم”. قال: ظننتهم هنا. ثم نظر مجددا قبل ان يلتفت الى الأعلى ويتقدّم ليختلس النظر الى ما يجري خلف الباب المفتوح جزئيا. لم تلبث ان حذت حذوه. رأت هنا لوحة للسيد كيمورا معلّقة على الجدار الخلفي، تعرفت اليها مباشرة. كان مربط الاحصنة في الاسطبل نظيفا، لا بل نظيفا الى اقصى حد ممكن، وكان على نسق المرابط الأخرى يعجّ بالأغراض. لم يعش آل كيمورا يوما بأبهة، وعلى مرّ السنوات شهد الحي في فاليدجو حيث فتحوا متجرهم، حالاً من التوتر. غير ان مشهد اللوحة المعلّقة هنا صعقتها على نحو لم تعهده. تنهدت قليلا قبل ان تقول: انه لأمر يتعذر احتماله!
ترجمة ر. ر.
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى