دفاعـــاً عـــن اللغـــة
عبده لبكي
لم يعد ممكناً الاستمرار في تجاهل ما نحن فيه من تدنّ لمستوى تعلمّ اللغة، لا سيما بعد النتائج المروعة التي تطالعنا بها الامتحانات الرسمية سنة بعد سنة، وقد باتت المواقف منها مجرد تعبير عن الاسف، او استسلام لواقع تفرضه ظروف الحياة المادية، مع ما يرافق ذلك من عدم الاستقرار النفسي، في ظل الاحوال الدائمة التقلب، على مختلف الصعد، الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
ويبدو ان شأننا في ما يحصل، هو شأن من يؤثر الانجراف في التيار، عوضاً عن مقاومته. وهو تيار وراءه ادمغة، تدعي ان لها الحق في تسيير العالم، وفق ما ترتأيه، خدمة لأهداف لا علاقة للحق بها.
لننظر في ما ننظر، الى ما يعنيه تعلّم اللغة، التي يتخذ منها كثيرون، موقف المزدري او الرافض او اللامبالي، متوهماً حيازة المعرفة وهو غارق في الجهل، ومتذرعاً بمقتضيات المعاصرة، يتمسك بالسخيف من الحجج، ليطمئن نفسه أولاً، وليؤكد من ثم، ان عصرنا هو عصر التكنولوجيا، وبالتالي، لا حاجة بنا الى اللغة، إلا بمقدار ما تفيدنا به عمليا في مجالات التعامل النفعي، والتبادل التجاري. لذا يجب ان نقصر اللغة على المفردات والتراكيب المباشرة، التي تخدم هذا الهدف، ونرمي ما تبقى منها في نهر النسيان الهادر، حرصا على «الرأس» من وجع او «ميغرينيا» لا يسببهما غير اللغة الحاملة تراث البشرية!
مسكينة اللغة، يتنكر لها إنسان اليوم، وفضلها عليه منذ وجد لأجل استمرارية أمينة، واضح القسمات، بل عميق الأخاديد في وجه الحضارة المقصورة على البشر دون سائر الكائنات. أليس ان المتخلفين من البشر ينعتون بالتوحش، لتأخر عندهم، عن بلوغ اللغة مرحلة النضج، وتعثر مسيرتها في اتجاه الرقيّ!؟
لقد فات الناس في عصر العولمة هذا، وتحت وطأة المجتمع الاستهلاكي، ان اللغة هي العقل. فجميع قوانين المنطق كامنة في اللغة، مفرداتها، ومدلولاتها، وأساليبها، وقواعدها، وبناها، وسياقاتها، وتراكيبها، وصيغها… وعليه، فإن كل اتقان للغة، هو تجاوز لأسباب التخلف، وبلوغ للعقل. بل هو «التكنولوجيا» في مفهومها الحقيقي، الذي يعني التصرّف بالمادة، بواسطة من الصور الذهنية والمجردات. باللغة كما يقول «هيغل» الفيلسوف الألماني، نستطيع ان نستوعب العالم، ونعيد صياغته، في دينامية التطور. إلا ان البعض ويا للاسف يعتبر اللغة اليوم وسيلة نقل للحاجات الآنية، أي لما هو من ضرورات الاستهلاك وحسب!
ليست اللغة مجرد مادة اضافية من مواد التعلم، تزاد على المعارف، وتستقر في خزانة هامشية، لا دور لها غير الابقاء على ما لا حاجة بنا إليه. اللغة هي فعل وجود بين الأنا والآخر ليس في ممارسة الحياة اليومية فقط، وانما عبر أمواج الزمن وترسباته ماضياً وحاضراً ومستقبلاً في تدرجية الارتقاء اللامتناهي.
خصّ الله الإنسان بالنطق لكي يحاوره، وبالتالي لكي يستحق ما وعده به، ان هو سما باللغة، مجاوراً مصدرها. فمن غير المعقول ولا الممكن، ان يخرج الكائن البشري على نفسه الى انفصام مرضي فتتحول اللغة معه الى أداة تدمير ذاتي ومصيري.
اللغة تكوّن شخصية الإنسان وتخلصه من الإعاقة ويقينا تساعده على المضي صعداً. باللغة يمشي على قدمين مستقيما، ومن دونها يدب على الاربع القوائم. فحري اذا ان توفّى اللغة حقها، وتنال من الاحترام ما هو جدير بها، خصوصا في المكان الذي خصها به المستنيرون، عنيت المدرسة. ففي المدرسة يكتسب المتعلم اللغة، ويتعرف طبيعتها، وماهيتها، فينفذ بواسطتها الى أسرار الفكر والطبيعة.
يقول «فرانسيس بيكون» الفيلسوف الانكليزي: «لكي نستطيع السيطرة على الطبيعة، ينبغي لنا ان نخضع لها، اذ نكتشف أسرارها». وهكذا بالنسبة الى اللغة التي هي فعل وجود وتجاوز، وكذلك أداة تواصل وتحكم وتحقيق…
تتعدد اليوم نظريات تعليم اللغة، وهي في معظمها مبنية على نمطية الأخذ بوجهات النظر المستوردة ـ على تناقضها ـ والتي هي نتاج بيئات ثقافية، توالت عليها أحداث الزمن مع من يرافقها من مترصدي الظروف الطارئة، والانتهازيين، او ربما الداعين الى التطور، لا في مفهومه السوي، أي نشدان الأفضل، بل في نزعته الاتباعية، الساعية بأصحابها الى امتطاء السائد من «التقليعات»، لمجرد التباهي بارتداء أزياء الحداثة، والتبرج بألوانها البراقة. فمن قائل ان افضل السبل لتعليم اللغة، هي المقاربة الألسنية، التي تتيح للمتعلم ان يكتشف مكونات النص ومدلولاتها، الى قائل بأن النشاطات الشفهية، والوسائل السمعية البصرية، كفيلة بأن توفر للمتعلم ما يحتاج إليه للاكتساب، الى مروّج لفكرة التعلم بواسطة اللعب، تحقيقا للأهداف التربوية المتوخاة، الى عامل على اعتماد الوسائل الحديثة لتعلم اللغة، عن طريق «الكومبيوتر» و«الانترنت»، الى ما هنالك من محاولات، لا تعدو كونها نماذج مظهرية، تخلو مما يساعد على دخول صميم اللغة لاكتناه جوهرها. إنها محاولات عارضة، قد تفيد جو التعلم، اذ منها تتشكل أطر الوضعيات التعلمية المختلفة، لكنها تظل بعيدة كل البعد عن الدور الفعال، الذي ينسبه إليها غلاة التحديث، وهي حتماً، أساليب قاصرة عن الترقي بالمتعلم، الى مستوى الكفاية في التعبير اللغوي السليم، شفهياً وكتابياً.
ولا يتبادرن الى الأذهان انني تقليدي النظرة الى أمور التربية والتعليم، او انني رفضي الموقف في ما يتعلق بالجديد من منجزات العصر. لا. كلا… وإنما مثلي هو مثل من يأخذ من كل جديد مسافة لإنعام النظر فيه، وتحكيم العقل الناقد في ما يحتويه، ويقود إليه، واختيار ما يصح اختياره، لقبوله والسير به، واستبعاد ما لا ينسجم ومبادئ الصواب، حرصا على سلامة النتائج…
إن لتعلم اللغة شروطاً اساسية، ليس من الحكمة إغفالها او تجاوزها، الى ما يدعى انه اكثر عصرية وجدة، وبالتالي أوفر تحقيقا لغايات التعلم. فليس كل جديد جيداً، وليس كل قديم سيئا. ثم إن لكل مقام مقالاً.
شروط
من شروط اكتساب اللغة، التشرّب وله خططه. والاكتشاف وله شبكته. والتمثل وله حالاته. والتوظيف والتأليف ولكل منهما تمارينه، وأخيراً الإبداع وله كفايته. كل ذلك في حال من التفاعل الكياني التام بين المتعلم والنص، مسموعا او مكتوبا على الورق، واقصد النص الراقي أيا يكن نمطه او نوعه. ولا بد من ان يرافق التفاعل الكياني، سعي حثيث الى تحصيل المعارف النظرية، اللغوية والثقافية على اختلافها. ولكن اذا كانت المعارف تلك، ممكنة التحصيل بواسطة اللعب، ووسائل التعلم المستجدة، والتي تسهل على كل من المعلم والمتعلم مهمته، فإن لتعلم اللغة شأنا آخر، ذلك ان مسالك الفكر لا تحصى، وبالتالي فإن طرائق التعبير، وصيغ الكلام، وأبعاده، وأساليبه، متعددة ومتشعبة، بل متداخلة الى حد لا نستطيع معه حصرها في حيّز معين، او إخضاعها لمفاهيم علمية جامدة، تناقض طبيعة الحياة نفسها. وقد تكون تلك المفاهيم العلمية نافعة في مجال المادة، لكنها دون شك فاشلة في مجال الفكر. فنتاج الفكر لا يؤطر ولا ترسم له حدود مسبقة، ويستحيل ان تتحكم فيه أدوات العلم، مهما بلغت من التطور «التكنولوجي» لأن العقل البشري متصل بالعقل الكلي خارج نطاق المادة.
راجت في القرن التاسع عشر نظرية العلماوية «Le Scientisme» وقد توهم اصحابها بل ادعوا، ان العلم قادر على ايجاد الحلول لجميع المعضلات، وتحليل المبهمات، وكشف أسرار الوجود، سواء ما تعلق منها بالمادة، او ما كان من طبيعة الروح. ولكن خاب فألهم، وها ان دعاة المادية في عصرنا الراهن، يراهنون على النظرية نفسها، وان بإخراج متميز، وأهداف اخرى.
وإذا كانت الغاية من تعلم اللغة، كنسيج فكري كتابي، أيا يكن نوع الكتابة، هو القدرة على اكتساب مهارات التعبير، وكفاية التأليف، في مختلف الوضعيات والانماط، فإن السبيل الى ذلك ليس مطلقا تطبيق شبكات الاحصاء اللفظي على النصوص، واعتبار المتعلم مجرد أداة، لا وظيفة له غير تفكيك الكلام المكتوب، والاستدلال على الجواب الصحيح، وغالبا ما يكون «بالصدفة»، بعد استعراض اجوبة محتملة ومتعددة، غالبا ما تضلل المتعلم. وهذا على نقيض المفاهيم التربوية الصحيحة، التي تحذر من عرض المعلومات الخاطئة. فكيف بها اذا وردت في اطار تقويمي لا يساعد إلا على تسطيح عملية التفكير، بل على تعطيلها. أما الاجوبة فهي (نعم) او (لا) او علامة صواب (√)، دون بذل أي جهد للتعبير الشخصي، وصياغة الفكرة صياغة لغوية سليمة، ذات تشعبات متعددة، هي من خصوصية الفكر الإنساني. فكيف يدعى اذن ان الهدف الأساسي والأخير، هو تنمية الكفاية لدى المتعلم؟ أليست الكفاية هي القدرة على التصرف في الكلام تصرفا صحيحا وراقيا، وفق قواعد اللغة وأصولها، ووفق المطلوب، وبحسب الحاجات والحالات والمواقف؟! أليست الكفاية هي استخدام الكلام واغناؤه بالجديد المبتكر، من الصيغ والدلالات والصور الفنية، فضلا عن كيفية توظيف المكتسبات اللغوية على اختلافها، توظيفا جديدا، مطبوعا بطابع الكاتب نفسه؟!
يقول جبران: «إن اللغة مظهر من مظاهر الابتكار في مجموع الأمة. فإذا هجعت قوة الابتكار، توقفت اللغة عن مسيرها. وفي الوقوف التقهقر وفي التقهقر الموت والاندثار».
لكن العولمة الحاملة معها تقنيات الحداثة، وما يرتبط بها من آلات وأدوات وبرامج الكترونية، قابلة لان تخضع بيسر وسهولة للمراقبة، حسب ما تقتضيه غاية الحائزين اجهزة التحكم، قد بدأت تهدد بوتيرة ملحة خصوصية اللغة، التي تربط الناس بتراثهم، وتقتل فيها القدرة على التجدد. ومما يدعو للقلق، ان ثمة نماذج مطلقة للتعليم، او على الأصح نهائية، لا مجال لمناقشتها، بسبب من شرعية ذات طابع عالمي، اضفيت عليها. فماذا يعني مثلا، ان يطرح على الطالب عدد من الاجوبة، وما عليه سوى ان يختار احدها؟ ألا يعني ذلك، ان المولج بالأمر، يفرض مضمون الجواب وصيغته، فيما يحرم الطالب من صياغة الفكرة، بأسلوب الكلام الذي يريده، فضلا عن محتوى الجواب؟! أليس هذا منتهى التحكم بالعقل البشري؟! ألا يعتبر ذلك تمهيداً لديكتاتورية جديدة سيقوم سادة هذا العالم بممارستها ذات يوم، واخضاع الشعوب لها وفق ما يرونه ملبيا لحاجاتهم، مستجيبا لمطامعهم؟! أهكذا تقوم الكفاية الحقة؟! اين احترام خصوصية التفكير، التي تتيح للإبداع ان يسلك مسالك التطور الحضاري؟! إلا اذا كان ما يحاك في هذا العصر، هو نقيض الحضارات في المفهوم الأخلاقي، الأمر الذي دعا بعض فلاسفة اللغة في العالم اليوم، الى دق ناقوس الخطر، تحذيراً مما يدبر ضد البشرية، ألا وهو، حصر اللغة في ما لا يتعدى الحاجات المباشرة لدى الناشئة، بغية تقليص حدود استيعاب مظاهر الوجود وأسراره، وتحجيم قدرات التعبير اللغوي، منعا للتواصل عن غير طريق «الانترنيت» الموجه، مما يؤدي الى إخفاق او إلغاء الإبداع الفكري والأدبي الذي هو في أساس تطوّر الحضارة الإنسانية وترقيها؟
يقول «هايدغر» الفيلسوف الألماني: يتصرف الإنسان، كما لو كان مبدعا للغة سيداً عليها، في حين ان اللغة على العكس من ذلك تماما، هي التي تعلّم بالمعنى اللفظي للكلمة، والإنسان لا يتعلم، إلا استجابة للغة، عندما يصغي الى ما تقوله، وينصت إليها.
ألا فلنعد الى طبيعة اللغة، نستقرئ قوانينها، ونعمل على تطبيقها، بدلا من التلاعب بها وتغيير «جيناتها». وإلا كان مصيرها، مصير الطبيعة التي جرى استغلالها، والتصرف بأسس تكوينها، واستنفاد طاقاتها، «لغاية في نفس يعقوب»، حتى بتنا نخشى ان تتحول الى مسخ، سوف يرتد علينا يوما، ويهدد حضورنا في التاريخ. ألا فلنستنطق أنفسنا بجدية وتجرد، قبل ان يسبق السيف العذل.
ولعل أهم ما يحقق لنا وللمتعلم، أهداف التعلم الحقيقي، أي غير المزيف في المجال اللغوي، هو تطبيق منهجية بيداغوجيا الخطأ، حيث يرى المتعلم نفسه في مرآة انتاجه، هكذا يكتشف، وهكذا يتدرب تقنيا على استخدام مختلف وجوه الكلام وأساليبه. هكذا يتمكن من التصرف في البنى الصرفية والتركيبية، وهكذا يصبح قادراً على تمييز الخطأ من الصواب. هكذا نبلغ بالمتعلم الى مستوى الكفاية ذاتية وموضوعية، فينشأ جيل واعد، واثق بنفسه وبغده، لا يخشى عليه من الضياع او من اللانتماء.
السفير