صفحات ثقافية

تداعيات تلفزيونية على مسرح عربي شبع قمعاً: الحياة في ظل قانون الطوارئ!

null
محمد منصور
أثار اهتمامي تقرير عرضه برنامج (تسعون دقيقة) في قناة (المحور) عن فرقة مسرحية شابة في مدينة المنصورة في مصر… أنجزت عرضاً شبابياً بعنوان: (من حقنا) وراحت تبحث عن مكان لعرضه، فلم تجد سوى مقهى ضيق، اختلط فيه الممثلون بالجمهور، وضاقت فسحة المكان والتشخيص، وضاعت المواصفات الجمالية والفنية للعرض… بعد أن حجب مسرح هيئة قصور الثقافة في المنصورة عن الفرقة الشابة، بحجة أن بناءه كلف الدولة ملايين الجنيهات، ولا يمكن أن يفتح لمن هب ودب!
أزمة البحث عن مكان مسرحي، ليست هي الوجه الوحيد لأزمة المسرح العربي عموماً… فما حدث في المنصورة اليوم، حدث ويحدث في غير مدينة عربية من قبل… وكثيراً ما واكبتُ حين كنت مأخوذا بعالم المسرح في تسعينيات القرن العشرين بعد تخرجي من المعهد العالي للفنون المسرحية، كثيراً ما واكبتُ في دمشق فرقاً وتجمعات مسرحية خاصة، كان همها تأمين المكان المسرحي، أو استئجاره بما لا يثقل على المتفرج وعلى تكاليف العرض… في الوقت الذي كانت فيه العديد من المسارح التابعة لوزارات أو منظمات شعبية مغلقة يأكلها الظلام ويملؤها الغبار… لا تفتح إلا بقرار، ولا يأتي القرار إلا إذا وافق المصلحة الشخصية وتقاليد وطقوس البيروقراطية المستفحلة والمرتهنة لأوامر حكومية، المسرح ليس بالتأكيد في سلم أولوياتها…
وأذكر مرة أن تجمعاً مسرحياً شاباً، قرر أن يقدم عرضه المسرحي في إحدى حمامات دمشق… لكن صناع العرض، سعوا لاستغلال عمارة الحمام الدمشقي البالغة الثراء من أجل تقديم صيغة جمالية مشبعة للعرض المسرحي الذي لم يخل من لمحات تراثية، حكت عن الصراع بين الحكواتي والتلفزيون… فكان غياب مكان العرض المسرحي دافعاً للابتكار ومحفزاً على الإبداع.
لكن هذا طبعاً لا يمكن أن يكون قاعدة باستمرار… فالمسارح تبنى من أجل أن تقدم فيها مسرحيات… لا من أجل أن تغلق خوفاً عليها من الاستهلاك… ويبدو أن الأنظمة العربية عموماً دأبت على تربية أجهزة بيروقراطية في إداراتها تتقن فن إغلاق الأبواب… كي لا يستفحل خطر المسرح… وكي لا يصبح المسرح وسيلة للتجمع والتجمهر في ظل سريان قوانين الطوارئ التي تمنع هذا التجمع لأكثر من ثلاثة أشخاص، وتجعل منه (جريمة)… بل تجعل من العودة إلى القانون الأساسي والطبيعي للأوطان، هي الحالة الطارئة والاستثنائية، بينما القاعدة أن نعيش في ظل قانون الطوارئ لعشرات السنين!
لكن إذا كان المواطن العربي يحتمل أن يعيش في ظل قانون الطوارئ، أو يخيل لحكوماته أنه قابل لأن يرفل في نعيمها ولو شكلياً، فإن المسرح لا يمكن أن يحيا، دون أن يتحول في نظر بعضهم إلى شكل من أشكال الخطر!
نعم… فالأنظمة العربية رأت في المسرح (خطراً) لا (فناً) لأن المسرح الحر مثل الصحافة الحرة، يسهم إسهاماً حقيقياً في صناعة الرأي العام وتنويره، فهو وسيلة اتصال حية، فيها حرارة اللقاء اليومي، وفيها فن التأثر والتأثير المباشر، وعلى خشبته يتبلور الوجع الإنساني، وفي فضائها تزدهر قيم الجرأة والشجاعة، مهما غالت الرقابات في إغلاق الأفق، وسد النوافذ، وتضييق الهوامش… فالمسرح الصادق قادر أن يوصل وجع الناس بالإيماءة والحركة والتعبير الموارب وبالضحكة الساخرة المرة… ولهذا كان مطلوباً على الدوام، وفي غير مكان عربي، إغلاق الأبواب في وجهه، وتحويله إلى نشاط روتيني بيروقراطي ترعاه الدولة ووزارات الثقافة أو الإعلام، فتطفش الكتاب الحقيقيين، وتحكم على المخرجين والفنانين الأصيلين بالموت والعزلة، وتطارد النصوص الجميلة بالمنع والحذف والتشطيب… ثم تقتر على العاملين فيه، كي يشعروا بعبء العمل فيه، وفي موازاة كل هذه الإجراءات، تشجع أنصاف الموهوبين والممتلئين بالأوهام الثقافية، كي يقدموا (مسرحاً) يجعل الناس يكرهون فن المسرح، وينفرون منه، لأنه لا يعكس صورتهم، ولا يقدمهم وجعهم، ولا يحكي عن قضايا حياتهم… بل يتحمس لمأساة ثائر في التشيلي أيام بينوشيه، أو يعود لأزمة الحركة العمالية في جنوب إيطاليا، أو ينزع إلى محاكاة مسرح العبث بعيداً عن تأمل طبيعة الظروف التي أفرزته بعد الحرب العالمية الثانية ومدى الحاجة إليه الآن…
وهكذا فالمسرح العربي مات وشبع موتاً، لأن هناك قراراً حكومياً اتخذ باغتياله وتفريغه من تأثيره… وتحويله إلى حالة شبحية محنطة، أو حائط مبكى يتباكى الفنانون على أعتابه، مرددين أنه أبو الفنون والمدرسة الحقيقية لتخريج أي فنان حقيقي وأصيل.. فيما هم مأخوذون بالنعيم الذي يحققه له التلفزيون…
وإذا كانت دراما التلفزيون تقدم أيضاً أعمالا هامة وجيدة، ويمكن أن تؤثر لأن التلفزيون هو لغة العصر التي لا غنى عنها، فإن للمسرح تبقى نكهة مختلفة وقوة مختلفة… وبما أننا نعيش عصر انحطاط، فلا حاجة للجمهور العربي بالمسرح… الذي يجب أن نتذكر أنه اجتث من المدارس والجامعات، قبل أن يجتث من دور العرض المسرحي… التي تبنى وتجدد اليوم من أجل المباهاة وإحياء بعض المناسبات ذات الرعاية السامية لا أكثر ولا أقل.

سهيل عرفة: الحارس الأخير للأغنية السورية!

رغم أنه لا يملك نجومية وحضور الممثلين، ولا تألق الشباب في ريعان عطائهم… ورغم أنه لم يكن يوماً مطرباً ليحصد ملايين المعجبين في الحفلات والسهرات الغنائية، إلا أن الملحن السوري المخضرم سهيل عرفة استطاع أن يكون نجماً حقيقياً في برنامج (أنت ونجمك) الذي يعده الزميل معن صالح، ويقدمه الممثل نضال سيجري على الفضائية السورية.
سهيل عرفة باح بكنوز ذاكرته الشخصية والفنية، فبدا رجل الحكايات والتجارب والكفاح الشخصي والتواضع الأصيل، والاقتراب الحقيقي من الناس، إلى درجة الحديث أمامهم ببساطة وبلا فذلكة أو ادعاءات كاذبة، طالما حفلت بها لقاءات الفنانين… كان باختصار سهيل عرفة ابن حي الشاغور الدمشقي الذي ثقفته الحياة، وجوهرته الإرادة، وجلاه الذكاء الفطري فزاد من لمعانه الشخصي والفني… وكان ذلك الشاب الذي انطلق في دروب العمل مذ كان صغيرا، ثم تقلب في مهن عدة كان آخرها مصلح راديوهات في جادة السنجقدار قرب ساحة المرجة، قبل أن تملأ الأنغام رأسه، وتفيض من نبع إحساسه بأعذب وأجمل الأغنيات… فيشق الخطى نحو إذاعة دمشق التي كانت منارة شامخة، لينطلق منذ الخمسينيات، وتنطلق معه ومع زملائه الأغنية السورية الجميلة التي غابت وأهملت هذه الأيام، ولم تفلح كل محاولات إنقاذها.
والواقع أنني استغربت حقاً في هذا البرنامج أن يتحدث رجل الشارع العادي عن سهيل عرفة بمثل هذا العمق والاحترام والتقدير… ليس لأنه لا يستحق وهو الذي عاش زمناً طويلا يثري أحساسينا بألحانه، بل لأنني عرفت الجمهور العادي يجهل الكتاب والملحنين والشعراء… مقابل هوسه بمعرفة الممثلين والمطربين ومتابعة أتفه أخبارهم… لكن سهيل عرفة استطاع أن يكون حاضرا في ذاكرة الناس… لأنه كما قال تعليقاً على ما سمعه منهم في الريبورتاج: (أنا واحد منهم).
حلقة سهيل عرفة في (أنت ونجمك) من الحلقات المميزة بحق، كما كانت حلقة ابنته الفنانة أمل عرفة من قبل… وأعتقد أن تميز سهيل عرفة نابع من ثراء تجربته، ومن غنى ثقافته الشعبية… فهو يقدم لنا نموذجاً لفنان لم تثقفه الكتب ولم تملأ رأسه النظريات، ولم ينل حظاً من التعليم في الأكاديميات… بل ثقفته معرفة الحياة، وحب الفن إلى درجة الغيرة عليه، وحب الأسرة بكبيرها وصغيرها… فسهيل عرفة كان أباً عظيماً في حديثه عن تجاربه الأسرية أيضاً… ولهذا أعتقد أن ذاكرته الحافلة بالأسرار تستحق أكثر من برنامج… بل رصد كامل لهذا المشوار… فلعله الحارس الأخير للأغنية السورية… أمد الله بعمره!
ناقد فني من سورية
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى