جائزة لمن يجعل أمي تحب الشعر
محمد ديبو
لا أدري في أية لحظة من لحظات عمري بدأت الكتابة, والخربشة على الورق, ولكن ما أذكره جيدا من زمن الطفولة تلك اللحظة الغائرة في الروح,المترسبة في القلب:
كنت ألعب بقلم حبر, كسرت القلم, فخرج الحبر أزرقاً كبحر وصافيا كسماء. اندهش قلبي وفرحت روحي وبدأت ألّون بالحبر الأزرق كل شيء: وجهي,يدي, صدري, أعضائي التناسلية, شراشف المنزل وأغطية الروح والحيطان…..
بدأت أرسم عالمي الأزرق المرسوم من حبر وأبجدية لم أكن أتقنها بعد.
كنت محمولا على غيم أزرق ..أخلق عالمي بيدي؛
أحاول أن أكون خالقاً!!
دخلت أمي وأنقذتني_وفق رأيها_ من طيشي ومن غروري في أن أصبح خالقاً , وبدأت أسطوانتها ” العزا والشحار يضربك” ” خربت الشراشف والفرشات” ” اعقل بقا….
أخذتني أمي إلى الحمام وبدأت تغسلني من حبري.
كان الحبر يتساقط مع دموعي وشظايا قلب!!
***
ومن يومها لم أعقل, مازال الجنون يركبني!
أدركت أنذاك, أن الحبر والكتابة قلق وعذاب ورحلة محفوفة بالمخاطر والهذيان, مشي على حافة النسيان ورحيل إلى عدم ملموس.
منذ ذلك الوقت بدأت حرب أمي السرية ضد الشعر الذي يسرق ابنها الوحيد منها؛ إذ أغرتني بكل ما أريده وتشتهيه طفولتي شرط الابتعاد عن شيئين : الشعر والسياسة.
تريدني الابتعاد عن السياسة كي لا تتكرر مأساتها مع والدي الراحل الذي كان شيوعيا , مما جعل المخابرات تطرق بابها في أي وقت لتنبش زوجها من سريرها الدافئ وتتركها للبرد وألسن الناس ووشايات البعثيين وكلاب السلطات .
لذا أقسمت بعد وفاة والدي أن تبعدني عن كل ماله علاقة بالسياسة والكتب كي أنشئ مثل”الخلق والعالم”. كما مازالت تقول لي.
لكن أمي التي لم تدخل مدرسة كانت وفية لميراث والدي ولم تستطع حرق كتبه فأخفتها على سطح النملة* , وهي عالية لا تستطيع طفولتي الوصول إليها , وعندما كنت أسألها عن الكيس الأبيض الموجود في الأعلى كانت تنهرني وتقل لي : أَوْا ,ولأنني طفل مشاكس بالفطرة وأعشق “الأوا” قررت بيني وبين ذاتي معرفة ذلك اللغز.
كنت أنتهز غياب أمي عن المنزل وأحاول الصعود والعربشة على النملة وكنت دوما أخفق, إلى أن جاء الفرج يوم كانت أمي وأخواتي ينظفن المنزل, حيث أنزلن الأغراض عن سطح النملة وبينها الكيس الأبيض.
انفردت بالكيس و فتحته لأرى كتبا حمراء على غلافها رجل أصلع وله سكسوكة وعينان تحدقان بي لتدلني على طريق والدي وميراثه.
سرقت عددا من الكتب وأشرطة الكاسيت وخبأتها معي , كتب لم أكن أفقه حرفا منها: ما العمل؟ وطريق الثورة ؟ والتحول إلى الاشتراكية؟
ولكن أقلّبها كسر مقدس , إلى أن وجدتها أمي وعرفتها من جلودها الحمراء.
وهنا بدأت الطامة الكبرى , وبدأت أمي ترتعب وتبكي: ولك بدك تخرب بيتنا والله بيحبسوك ” ولك ماحاجي بيّك شيبني إسا إنت”
وكنت أجيبها بكل براءة: ليش أنا شو عملت.
ولكن يومها حزنت على دموع أمي , ولم أعد أقترب من الكتب الحمراء إرضاء لها.
ولكن الأشرطة بقيت معي وهي لمارسيل خليفة ومظفر النواب الذي أوقظ شهوة الشعر في داخلي.
هنا بدأ جنوني بالشعر يظهر وكانت أمي تشجعني بحذر كي أنسى الأحمر وما شابهه؟؟, طالما أن الأمر لا يتعدى حدود الهواية التي سأنساها مع الزمن.
ولكن كان الشعر يتجذّر كل يوم في دمي, ويرسو في القلب والروح إلى أن أصبح الأمر الأهم والأوحد في حياتي كلها, ودون علم أمي طبعا, إذ كنت أضع ديوان الشعر داخل كتاب المدرسة, وأحيانا أنزع غلاف الكتاب المدرسي وأضعه مكان غلاف ديوان الشعر.
ولكن لأن الشعر كالفضيحة لا يمكن إخفاؤها, وصلت الأخبار إلى أمي , عن طريق الأستاذ الذي زارنا مرة في المنزل ليهنئ أمي بشطارتي, وفرحت أمي بادئ الأمر, ولكن عندما سألت الأستاذ عما يتوقعه لي من مستقبل ,قال لها : شاعر سيكون شاعرا؟
هنا انسحب الدم من وجه أمي, وغصّ قلبها, وكادت تبكي لولا وجود الأستاذ, إذ شعرت أن شيئا ما كنت أرتبه دون علمها, الأمر الذي سيجعل أيامي القادمة تحت مرمى نيران مراقبتها, مع تفتيش دقيق لكل كتاب يدخل المنزل , ولكل شخص له علاقة بعار الشعر؟
هذه الرقابة أهلكتني إلى أن أخذتني الجامعة إلى عوالمها في مدينة دمشق , التي بدأت أعوّض بها ما غاب عني.
وكانت أخباري الشعرية تصل أمي من أصدقائي,وأهالي قريتي الذين ينفخون بي كبالون مثقوب فتهز رأسها بأسى وتقول: ابني غاوي فقر يا ناس؟؟
رغم كل مشاركاتي الشعرية وسفري خارج البلاد , لم تعترف أمي بي شاعرا , ولا تريدني من أصحاب هذا الكار, فهي تلح علي ليلا ونهارا كي أتزوج وأقتنع ببنت الحلال , وأصبح “متل الخلق والبشر” وأترك مهنة الفقر والتعتير ولكن ما باليد حيلة؟؟
فالشعر في دمي , ولكني منزعج أيضا بسبب موقف أمي الرافض , وأتمنى لو أنني أستطيع أن أقدم لها شيئا, ولا تصدقون إذا قلت لكم أنني صرت أتمنى أن أربح مبلغا محترما في مسابقة شعرية ما, فقط كي أثبت لأمي أن الشعر قد يطعم خبزا, ويستحق أن ندافع عنه, وحتى في هذه الحالة أشك أن تقتنع!!
الآن بينما أنا أكتب هذه المقالة في قريتي الساحلية, أمي تجلس قبالتي -بصدق أحكي- وتهز رأسها دلالة عدم الرضا, ثم تنهض و تأتي إلي وتحدّق في شاشة الكمبيوتر دون أن تفهم حرفا واحدا, وتذهب ثم تعود وتسألني سؤالا لا معنى له,فقط لتفهمني بطريقة ما أنها غير راضية عني, وأنا أجعل نفسي أبلها لا أفهم ما تلمّح إليه إلا أن تصرخ بي قائلة:
– ولك ابني هلا جاوبني بصدق إنتا بدك تضل هيك
– كيف يعني هيك(متخابثا)؟
– يعني شعر وفقر ولقلقة وو..
-لأ ماما أكيد ما رح ضل هيك بكرا إلا ماتفرج..
– والله ياابني من عشر سنين قلت لي نفس الحكي. خض المي وهي مي والمكتوب بينقرا من عنوانو. والولد يلي بدو يعيش بينعرف من خراه..
وأمي تعرف أنني لن أتغير وأنا كذلك, و لكن صدقوني أن قلبي ينعصر, وأشعر بالحزن والأسى على أمي التي أتمنى أن أستيقظ يوما ما وأراها تحب الشعر.
من منكم لديه وصفة تجعل أمي تحب الشعر ,فليرسلها لي وأنا بدوري سأكتب له قصيدة عصماء تخلده على وجه التاريخ العربي المهزوم.
أمي تهز رأسها , لأن الاقتراح لم يعجبها!!
• النملة: عبارة عن خزانة توضع في المطبخ , ويحفظ بها الطعام.
موقع ألف