صفحات ثقافية

فِقه التواطؤ

null
خيري منصور
سؤال يبدو للوهلة الاولى ساذجا ذلك الذي توجه به عامل مزرعة الى الشاعر والناقد كرورانسوم، عندما كان مشتبكا مع الذباب ويحاول ابادته.. هو: ما الذي جعل الذباب ذبابا؟ ولم يخطر في بال عامل المزرعة ان سؤاله أربك سيده وأوشك ان يشلّ وعيه حتى آخر العمر، بحيث أخذ يتساءل ما الذي جعل الشجرة شجرة والانسان انسانا؟ واخيرا ما الذي جعل الموت موتا؟ هكذا أصبحت البديهيات لأول مرة اكثر تعقيدا من أي شيء، وكأن البشر تواطأوا عليها بحيث تعاملوا معها كجدول ضرب او سلّم موسيقي، فهي عصيّة على التعريف واحيانا اكثر استعصاء على التفكيك، منها يتشكل جذر الوجود. بعد أن قرأت تلك الواقعة التي حدثت في مزرعة السيد كرورانسوم بزمن قصير فوجئت بما كتبه الشاعر بول فاليري عن البديهيات وهو انها ذلك الغامض الذي تهرّب منه الانسان ومضى بعد ذلك يجتهد في تعريفات الاشياء والموجودات . وقد تكون سنوات انقطاع فاليري عن كتابة الشعر ليست بسبب ما قيل عن تصوره للشعر الخالص او الشعر المحض، بل لأن ما وقعت عليه حواسه لم يكن مفهوما خارج التواطؤات المعرفية التي حاولت تدجين العالم بأفكار وملخصات موروثة …
ان تشريح الذبابة ليس الاجابة الصحيحة على سؤال عامل المزرعة، لأن هناك فائضا لكل تشريح سواء كان للذباب او البشر او حتى الثمرة، وهذا الفائض الذي يبحث عن تسمية لا يندرج في أية خانة، تماما كما هي رائحة الوردة بالنسبة لمجمل عناصرها، او صوت الانسان وايقاع حضوره بالنسبة لمجمل مكوناته العضوية، وقد حاول ابن سينا ان يعثر على هذه الحلقة المفقودة في البرهان الذي سماه الرجل الطائر، وذلك بهدف العثور بالخيال على حقيقة وجود الرّوح، التي كما قال هبطت من السماء الأرفع ذات تعزز وتمنّع ! ان مجرّد تأمل شجرة او كلب في الطريق يضعنا وجها لوجه مع البديهيات الصعبة، فهذه الكائنات ليست في النهاية سوى حزمة ما نعرفه عنها وقد تكون في الجوهر غير ذلك تماما، لهذا تروي الشاعرة اديث سيتويل عن رسام فتن بمشهد شجرة فظل يرسمها حتى تحول الى شجرة، أي حلّ فيها لفرط غموضها، والاسباب التي نعرفها لوجود شجرة ما ليست العناقيد او الظل والحفيف، انها شيء آخر تماما يرتطم الوعي بحدوده ويعود خائبا، ولو أخذنا مفردة الموت مثالا فهي’في كل اللغات تعني نهاية الحياة، لكن لكل ثقافة او حضارة موتها، فالوثني يكون الموت بالنسبة له خاتمة مطاف، والمتدين الذي يؤمن بالقيامة يرى الموت مجرد عتبة لعالم آخر، لكن الموت بكل دلالاته التي تتخطى التعريف يبقى غامضا اذا قورن بالوضوح النسبي للحياة، لأن الانسان عرفها وعاينها وعاناها، ثم علّم نفسه ان يحياها بمعزل عن الاسباب، وهذا ما يقول عنه البير كامو اكتساب عادة العيش قبل عادات التفكير والتأمل، فالانسان حتى سن السابعة او الثامنة يعيش بقوة الحياة والغريزة وحين تأزف لحظة الاسئلة يكون قد ظفر بعادة العيش في المستوى الفطري، ولو ولد الانسان وهو يتساءل عن سبب وجوده ومغزى موته لعاد على الفور الى الرحم الذي انزلق منه، وهناك مثل شعبي لبناني لو كان البير كامو يعرفه لاستشهد به دون تردد هو’ مين خِلِقْ عِلِقْ ‘، اي ان الانسان منذ لحظة الميلاد تكون ورطته قد اكتملت، حيث لا فرار من المصير العضوي المحتم وهو الموت!
اننا في حقيقة الأمر لا نتعامل مع الموجودات في عالمنا بقدر ما نتعامل مع افكارنا حولها وعنها، لأنها تحمل في العمل اللغز الوجودي ذاته الذي نحمله كبشر، وقد يكون هذا الجهل هو بسبب ادراج الغامض والمعقّد في خانة البديهيات، التي علينا ان نقبلها كما هي وكما وجدناها، اما السؤال عن علّة وجودها ومغزاه فإنه يشملنا ايضا، وما حياتنا في النهاية الا مجرد فرار من الاجابة!!

* * * * * *
ان ذباب الشاعر كرورانسوم وبقر هيغل وغراب ادغار ألن بو ما هي في النهاية الا تلك الكائنات التي تنتظر سؤالا ساذجا عن عامل مزرعة كي يصبح كل شيء بعد ذلك في مهب العدمية واللاجدوى والشكوك، واذا كانت الاسئلة الوجودية الكبرى قد توارت في عصرنا حيث سادت ثقافة ‘المكدلة ‘نسبة الى ماكدونالد والأطعمة السريعة والمُسَرطَنة فذلك لأن هذه الحقبة من تاريخ البشر تشهد خريفا غير معلن، وهذا ما توقعه شبنجلر قبل اكثر من تسعة عقود، عندما كانت الحرب العالمية الاولى تعصف بالعالم، فالرجل عكف في تلك الاونة على تأليف كتاب يستحق منا جميعا ان نعيد قراءته بعنوان ‘تدهور الحضارة الغربية’، بعد ان ادرك أن القواسم المشتركة بين فترات التدهور في كل الحضارات يمكن حصرها في ثلاث نقاط.. هي على التوالي: تحوّل الكيف الى كمّ والداخل الى خارج والادبار عن الحياة يصبح سبب عدم الخوف من الموت، لأن الاهداف المتصلة بأشواق الانسان للأبدية لم تعد قائمة.
لقد كان خريف الامبراطورية الرومانية نموذجا لهذا التدهور خصوصا عندما استبدت البطالة الروحية بالناس، وأصبحوا يعيشون فقط ليأكلوا وليس العكس، وحين يقارن الكاتب نعوم شومسكي بين امريكا واوروبا في هذا العصر، فهو يرى ان امريكا اقرب الى روما القياصرة، بينما اوروبا اقرب الى اثينا الفلاسفة، لكن التاريخ لا ينمو دائريا على هذا النحو، ففي اوروبا روما أخرى تقضم احشاءها، كما ان في امريكا اثينا سرية تتخلّق عن عذابات غير مرئية يغمرها صدأ الفولاذ! واذا صدقنا القائل أن تاريخ العلم هو تاريخ الأخطاء، فإن تاريخ الافكار ايضا كذلك ما دامت هناك محاولات تنسخ اخرى، وحفريات معرفية يقدم بعضها انقلابات كوبرنيكية تقلب الاشياء والمفاهيم رأسا على عقب!!

* * * * * * *
ما قيل عن الثورات الكبرى واسبابها لم يعد الان أيقونة محروسة من الشك، فثمة امكنة يوجد فيها فائض من العوامل الموضوعية للثورات لكنها لا تثور بل توغل في حالة الاستنقاع، وهذا ما عبّر عنه روسو عندما قال ان الوعي بالشقاء هو ما يخلق الحراك من أجل التغيير وتجاوز الشروط اما الشقاء وحده فلا قيمة له او فاعلية له بمعزل عن الوعي به.
وثمة آفتان تفتكان بأي مجتمع اذا تحالفتا ضده، الأولى هي الاختزال الوظيفي، والثانية التأقلم، فالاختزال يحوّل المرأة مثلا من كائن بشري الى مجرد عضو ويحول العضو بعد ذلك الى مجرد وظيفة، اما التأقلم فهو الخضوع للشروط، والتعامل مع الطارىء كما لو انه قضاء وقدر لا فكاك منهما، ولا تزدهر ثقافة التأقلم الا في عصور التقهقر وفقدان المناعة لأن الانسان عندئذ يتحول الى حرباء هاجسها الوحيد هو النجاة بجلدها، وان كانت اخيرا لا تنجو، والاستسلام لبعض المقولات المتوارثة باعتبارها بديهيات، يوقف الوعي عن النّمو عند طور يشبه طور العذراء لدى دودة القزّ، فما يتولى التعامل مع الشروط التي تحاصر الانسان هو ما اعتقد الناس انه بديهيات، كما لو ان التاريخ فيزياء غير بشرية تتفاعل عناصرها بمعزل عن الارادة والقرار! ولو اخذنا الفقر مثالا باعتباره توأم الانسان منذ الكهف حتى الانترنت لوجدنا ان هناك فقها موروثا يسوّغ استمراره ويعيد اسبابه الى بديهيات الحياة’التي لا بد أن تحكمها ثنائية الصياد والفريسة، والآكل والمأكول، وهذا الفقه الذي تأسس على التأقلم لا يرى في الفقر نتاجا للتاريخ في بعده الغاشم بقدر ما يراه قدراً، لا سبيل الى الخلاص منه الا بمحاولة تحسين شروطه ان أمكن!
واذا كان الانسان يعيش الآن ما يسمى مرحلة المابعديات بدءاً ممّا بعد الحداثة حتى ما بعد التاريخ، فإن البديهيات يجب ان تندرج الان في المرحلة ذاتها، بحيث تصبح مهددة بالفحص والمساءلة والبحث عن الجذور، لأنها ليست نباتا شيطانيا يطفو على سطح العالم، انها قضايا اشكالية معقّدة، تهرب منها الناس وتواطأوا على كونها جدول الضرب الأصمّ الذي لا يعرف المرء ما هي دلالات أرقامه، تماما كما قال برتراند راسل ذات يوم لأحد زملائه عن الرياضيات، عندما سأله عمّ تتحدث وانت تضرب او تطرح او تجمع؟ هل هذه الأرقام المجرّدة حشرات ام بشر أم اشجار؟
لقد خسرت البشرية كثيرا بسبب هذا التواطؤ، وتحوّلت البديهيات او ما ظنّه الناس كذلك الى قارة سادسة مسكوت عنها وغارقة في النسيان!
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى