صفحات مختارة

المصلحان العثماني الكواكبي والإيراني النائيني: جوانب غير مكتشفة

محمد جمال باروت
تم في الفترة الاخيرة اكتشاف الترجمة الفارسية لكتاب “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” لعبد الرحمن الكواكبي (1854 – 1902)، في مكتبة جامعة “برنستون” في الولايات المتحدة الأميركية(1). وقد بيَّن مترجمها عبد الحسين في مقدمته المقتضبة أنه أنهى الترجمة في شهر شعبان سنة 1325هـ أي ما يوافق شباط 1907م، حيث قامت المكتبة العلمية الإسلامية في طهران بطبع الترجمة عام 1327هـ أي عام 1909م وتوزيعها. وهو العام الذي احتدم فيه الصراع ما بين الثورة الدستورية الإيرانية والشاه محمد علي القاجاري، والذي انقسمت فيه المؤسسة الدينية الشيعية ومجتهدوها بشكل قطبي حاد إلى ما عُرف بـ “أنصار المستبدة و”أنصار المشروطة”. وقد تزامن نشر هذه الترجمة لكتاب الكواكبي مع إصدار الميرزا محمد حسين الغروي النائيني (1860 – 1936) مُنظِّر ثورة “المشروطة” كتابه “تنبيه الأمة وتنزيه الملة في وجوب المشروطة” في العام نفسه، والذي يُعتبر وثيقة راديكالية نادرة وراقية بالغة التطور عن مدى نضج الخطاب الإصلاحي الإسلامي في المجال الشيعي الإسلامي الاثني عشري، وصياغته لنظرية “ولاية الأمة على نفسها” في عصر الغيبة (غيبة الإمام المهدي المنتظر وهو الإمام الثاني عشر للشيعة الجعفرية) والتي جاءت الصياغة الخمينية لنظرية “ولاية الفقيه” والتي تشكل حالياً الأساس الفقهي للجمهورية الإسلامية في إيران لتقيم قطعاً باتراً معها وعنها في آن واحد، وهو ما يفسر تهميش الأجهزة الأيديولوجية الإيرانية لهذه الوثيقة واستبعادها وإقصاءها.
جاء في مقدمة المترجم عبد الحسين (هل هو الشيخ عبد الحسين الحلّي الذي بقي مرافقاً لآية الله العظمى النائيني حتى وفاته؟) أنه قام بهذه الترجمة “استجابة للأوامر الصادرة، لتعميم الفائدة للعوام والخواص” بوصف كتاب “طبائع الاستبداد” “من الكتب النفيسة والمفيدة في مجال توعية الشعب وإيقاظه من نوم الجهل والغفلة وخلق استعداد الرقي والتربية، وبذلك فهو من أفضل المؤلفات القديمة والجديدة، بل يمكن القول في هذا المجال بأنه لم يؤلَّف كتاب مثله حتى الآن”(2). ومن المعروف أن الطبعة العربية الأولى لـ “طبائع الاستبداد” قد صدرت عام 1900، ووزعت في حينه على نطاق واسع، ثم نقَّحها الكواكبي وزاد عليها بما يعادل ضعفها، ووضع لها عام 1902 مقدمةً جديدة كطبعة ثانية. إلا أن هذه الطبعة في صورتها المزيدة لم تنشر إلا عام 1973 حين بادر حفيد الكواكبي وحافظ تراثه الدكتور عبد الرحمن الكواكبي إلى طبعها بالاستناد إلى أوراقها المكتوبة بخط جده(3). وبذلك فإن الترجمة الفارسية لـ “طبائع الاستبداد” هي الترجمة لكتاب الكواكبي في شكله الذي عبرت عنه الطبعات الأولى ما قبل هذه الطبعة المزيدة.
وتأخذ هذه الترجمة أهميتها من كونها تمَّت في ظروف الثورة الدستورية الإيرانية المعروفة تاريخياً باسم “المشروطة”، حيث مارست تأثيراً واضحاً على كتاب “تنبيه الأمة وتنزيه الملة”(4) للنائيني منظِّر تلك الثورة وكنا قد أشرنا في كتابنا “يثرب الجديدة: الحركات الإسلامية الراهنة”، وفي معرض تحليلنا للقطيعة التي أحدثتها نظرية “ولاية الفقيه” كما صاغها الخميني عن نظرية “ولاية الأمة على نفسها” الإصلاحية الشيعية المستنيرة، وافتقاد نظرية “ولاية الفقيه” بصياغتها تلك إلى أي سند فقهي معتبر يسبغ عليها صفة الأصالة، إلى أنه بغض النظر عن مدى اطلاع الإمام النائيني على “طبائع الاستبداد” فإن تحديده لمعنى الاستبداد وما يقابله، وتعيينه للآلية القائمة ما بين الاستبداد الديني والاستبداد السياسي يتم “وفقاً لطريقة الكواكبي، بل وبشكلٍ يقترب كثيراً من لغة الكواكبي وصياغاته وروحيته”(5) فوصفنا النائيني بـ “كواكبي الشيعة”.
وكان دليلنا إلى ذلك علمياً صرفاً، يقوم على المقارنة ما بين الكتابين، بشكلٍ يمكننا فيه القول إن “طبائع الاستبداد” هو بمثابة نص غائب امتصه الإمام النائيني، وأعاد بناءه في رسالته العظيمة “تنبيه الأمة وتنزيه الملة” بما ينسجم مع حركة “المشروطة” في إيران، التي يمكن القول إن أساسها الفقهي قد قام على نظرية “ولاية الأمة على نفسها”.
غير أننا لم نتمكن آنذاك من معرفة هل كان كتاب الكواكبي مترجماً إلى الفارسية أم لا، إلى أن تم منذ فترة وجيزة التعرف على هذه الترجمة المطبوعة، والتأكد في ظل المعطيات النصية والسياقية من اطلاع النائيني عليها وامتصاصه لها. فما هو السياق الذي صدرت فيه الترجمة الفارسية لـ “طبائع الاستبداد”؟ وما دلالات التزامن ما بين نشر هذه الترجمة وإصدار الإمام النائيني رسالته الجريئة “تنبيه الأمة وتنزيه الملة” في عام واحد وسياقٍ واحد ولأغراض واحدة؟ ومن الذي دفع لإصدار الأمر بترجمة “طبائع الاستبداد” إلى الفارسية، ما دام المترجم عبد الحسين يشير إلى أن ترجمته للكتاب قد تمَّت “استجابة للأوامر الصادرة”؟
•••
أرجح التقدير أن “الأوامر الصادرة” التي يُفترض أن صاحبها يتمتع بسلطة المرجعية، هي أوامر آية الله محمد كاظم الخراساني (1838 – 1911) الذي كان قائد الثورة الدستورية إلى جانب الشيخ عبد الله المازنداري أحد كبار المجتهدين المراجع. وقد وضع الخراساني والمازنداري، مقدمة لـ “تنبيه الأمة وتنزيه الملة” أجازا فيها الكتاب، وتمتعت إجازتهما له بصفتهما من كبار المجتهدين المراجع بقوة الفتوى والإجازة الشرعية لما جاء في الكتاب من أفكار جريئة وراديكالية، مع أن النائيني نفسه كان يومئذٍ مجتهداً إلا أنه أقل مرتبة من اجتهاد المرجعين اللذين أجازا كتابه، وكان من فضلاء الشيخ الخراساني.
من هنا ليس من المستبعد أن الخراساني هو الذي أمر بالترجمة وبكتابة النائيني لكتابه في آن واحد، وهو ما يحتمل اطلاع النائيني على الترجمة إبانها وبعد الانتهاء منها، علماً أنها طبعت بعد سنتين من إنهاء ترجمتها، ليتزامن نشرها مع كتاب النائيني. وإذا كان المترجم عبد الحسين هو نفسه الشيخ عبد الحسين الحلّي، فإن هذا يعزز الاحتمال بشكل قاطع، إذ كان عبد الحسين الحلي من مرافقي النائيني وفضلائه حتى وفاة الأخير. وبالتالي يفسر ذلك تأثر النائيني بصياغات الكواكبي. فإذا كان الجهاز المفهومي للنائيني والكواكبي يكاد يكون واحداً بحكم أن هذا الجهاز هو نفسه الجهاز المفهومي لحركة الإصلاح الإسلامي برمتها، فإن القسم المتعلق بالاستبداد في كتاب النائيني شديد الصلة بكتاب الكواكبي، فالنائيني يعرِّف الاستبداد وما يقابله وفق تعريف الكواكبي، وأحياناً وفق صياغاته نفسها. فيقول الكواكبي “يستعملون في مقام كلمة استبداد كلمات استعباد واعتساف وتسلط وتحكم في مقابلتها كلمات شرع مصون، وحقوق محترمة، وحس مشترك وحياة طيبة. ويستعملون في مقام صفة (مستبد) كلمات حاكم بأمره، وحاكم مطلق، وظالم، وجبار، وفي مقابلة حكومة مستبدة كلمات عادلة ومقيدة والمسؤولة. ويستعملون في مقام صفة (مستبد عليهم) كلمات أسرى، وأذلاء ومستصغرين ومستنبتين وفي مقابلتها محتسبون وأباة وأحرار وأحياء”(6) في حين يقول النائيني “وهذه السلطة تسمى: المحدودة والمقيدة والعادلة والمشروطة والمسؤولة والدستورية ووجه تسميتها من هذه الأسماء ظاهر. والقائم بهذه السلطة يسمى الحافظ والحارس والقائم بالقسط، والمسؤول والعادل، والأمة المتنعمة بكل هذه النعمة، تسمى: أمة محتسبة، وأبية، وحرة، وحية”(7).
ويأخذ التناص ما بين “طبائع الاستبداد” و”تنبيه الأمة” بعداً أكثر وضوحاً في تحليل العلاقة ما بين الاستبداد الديني والاستبداد السياسي، وهو ما يستفيض به النائيني بلغة كفاحية وراقية المستوى وشديدة التنظيم، فنجد التناص بين قول الكواكبي عن أن العوام يجدون “معبودهم وجبارهم مشتركين في كثير من الحالات والأسماء والصفات وهم هم ليس من شأنهم أن يفرِّقوا بين الفعال المطلق والحاكم بأمره، وبين “لا يسأل عما يفعل” و”غير مسؤول” وبين “المنعم وولي النعم” وبين “جل شأنه” و”جليل الشأن”، بناءً عليه يعظمون الجبابرة تعظيمهم لله، وهذه الحال هي التي سهلت… دعوى بعض المستبدين الألوهية”(8) وبين قول النائيني “وأصبحت (أي الشعبة الاستبدادية الدينية) تعد سلبنا للظالمين صفات الذات الأحدية كالفعال لما يشاء، والحاكم بما يريد والمالك للرقاب وعدم المسؤولية عما يفعل منافية للدين الإسلامي”(9) والانقياد للمستبد السياسي الذي يستمد استبداده من الدين هو من “مراتب الشرك بالذات الأحدية -في المالكية، والحاكمية بما يريد، والفعالية لما يشاء، وعدم المسؤولية عما يفعل – إلى غير ذلك من الصفات الخاصة بالألوهية والأسماء القدسية الخاصة به جل شأنه”(10).
والحقيقة أن “الصفات الإلهية” التي يدعيها المستبد ضمناً هي واحدة من توصيف الكواكبي والنائيني لها، كما أن ما يفهمه الكواكبي من معنى الحكومة الدستورية وأنظمتها ومؤسساته هو على وجه الدقة ما يفهمه منها النائيني وبشكل متقارب كثيراً. ومن هنا فإن لغة الكواكبي المعادية لـ “الكهنوتية” تجد ما يعادلها تماماً في لغة النائيني، وإن كانت في لغة النائيني تأخذ أبعاداً أكثر تشخيصاً، نتيجة مواجهة النائيني للسلطة المرجعية التي يضطلع بها المجتهدون من أنصار المستبدة، فيشير إلى أن “تقليدهم” (والتقليد في المذهب الجعفري واجب شرعي على العوام) هو من قبيل اتخاذ الأحبار آلهة من دون الله. فنبرة النائيني الجريئة والكفاحية ضد “الإكليركية” تأخذ هنا في المجال الشيعي سياقاً خاصاً، كنتيجة لخصوصية العلاقة ما بين العوام والمرجع على أساس التقليد، ومن هنا فإنها تكتسب دلالات خاصة. فلا يصف النائيني وهو المجتهد تلك “الإكليركية” بأقل من صفات “الطائفة الشريرة المتلصصة المعممة” من “عبيد السلطان” و”منافقي العصر وشياطينه وعبدة ظالميه وفاسقيه” و”لصوص الدين” و”مضلي ضعفاء المسلمين”.
ويشير ذلك كله إلى التكامل الوظيفي ما بين “طبائع الاستبداد” و”تنبيه الأمة” في شروط الثورة الدستورية الإيرانية. وهو ما يقودنا إلى قراءة هذا التكامل في إطار النفوذ الهائل الذي تمتعت به أفكار الإصلاح الإسلامي في المجال الشيعي الجعفري في الربع الأخير من القرن التاسع عشر والعقد الأول من القرن العشرين، وتسليط الأضواء على طبيعة العلاقة ما بين الأفكار الإصلاحية الإسلامية لجمال الدين الأفغاني على وجه التحديد وما بين المناخ الذي تفاعلت فيه ترجمة “طبائع الاستبداد” وكتاب “تنبيه الأمة”.
•••
يشكل وصول “طبائع الاستبداد” إلى “النجف” أمراً طبيعياً للغاية، في سياق الاستهلاك النجفي الواسع لأدبيات الإصلاح الإسلامي في تلك الحقبة. فإذا كانت مجلة “العروة الوثقى” (التي كان يصدرها كل من الأفغاني ومحمد عبده من باريس) من أولى تلك الأدبيات التي كانت تصل إلى “النجف”(11) وتوزع وتناقش فيها وتجد على الدوام مشتركين فيها، فإن “طبائع الاستبداد” يبدو وكأنه من أواخر تلك الأدبيات. ومما لا شك فيه أن “طبائع الاستبداد” ونتيجةً للغته التحريضية الكفاحية قد لاقى تفاعلاً خاصاً في أوساط المجتهدين والعلماء الشباب المتهيئين للثورة الدستورية، وهو الأمر الذي دفع – كما نرجح – آية الله الخراساني إلى إصدار الأمر بترجمته ونشره مع “تنبيه الأمة”.
وإذا كان التناص في أشكاله الواضحة والظاهرة على مستوى النظام اللغوي والدلالي حاضراً بقوة ما بين “تنبيه الأمة” و”طبائع الاستبداد”، فإن “تنبيه الأمة” يضرب جذوره في الوعي الإصلاحي الإسلامي المرتبط بنشاط الأفغاني. فبقدر ما هو النائيني “كواكبي” الشيعة هنا بقدر ما أن أفكاره هي تعبير مطور ونوعي وتتسم بالأصالة، لأفكار الأفغاني. فيذهب علامتنا هادي العلوي إلى أن “النائيني كان في رسالته متكلماً بلغة جمال الدين وأفكاره السياسية، فهو لم يتكلم على الحكومة الدينية، وإنما عُني بالمطابقة بين الشريعة والمشروطة لشرعنة هذا المبدأ وتقريبه من أذواق الناس والرد على دعاة المستبدة”(12).
كان الأفغاني نفسه دارساً في النجف، أقام فيه منذ عام 1850 أربع سنوات. وكان الشيخ محمد كاظم الخراساني الذي يصغره بسنة زميلاً له في هذه الحقبة، إلا أن الأفغاني الذي كان يحركه هاجس النشاط العملي لم يكمل دراسته ولم يصل تاليا إلى درجة الاجتهاد في حين أتمها الخراساني إلى أن أصبح مجتهداً – مرجعاً.
فعرف الأفغاني في المشرق العربي من المغرب الأقصى مروراً بتونس إلى مصر وغيرها بصفته مصلحاً إسلامياً، طغت شخصيته على حركة الإصلاح الإسلامي برمتها، وعُرف في مدينتي النجف وكربلاء بشكلٍ خاص بهذه الصفة. وبهذا المعنى كان الأفغاني هو الشخصية الكبرى التي توحدت فيها حركة الإصلاح الإسلامي للأمة بشيعيّها وسنييّها، وفي حين كان نفوذه على العلمانيين في المشرق أكبر بكثير وأوسع فاعلية فإن نفوذه في النجف كان في أوساط رجال الدين. وكان من تلك الشخصيات الشيعية التي احتقرت باستمرار الانقسام المذهبي للأمة وترهاته، ونجد تواصلاً عميقاً لهذا الاحتقار وترفعاً على المذهبية بأقصى أشكاله وأشدها وضوحاً لدى النائيني في “تنبيه الأمة”.
وارتبطت بإقامة الأفغاني الثانية في العراق رسالته الشهيرة التي وجهها مع المجتهد السيد علي أكبر الشيرازي، واللذين كانا قد أبعدا من قبل الشاه من إيران إلى البصرة، إلى المرجع الأعلى الإمام السيد حسن الشيرازي، حيث استصدرا بنتائجها فتوى “التنباك” الشهيرة، مما دفع الأفغاني إلى مطالبة المرجع الأعلى بإصدار فتوى بخلع الشاه إلا أنه لم يستجب للطلب الأخير، فبادر أحد مريدي جمال الدين وكان ينشئ على ما يبدو نوعاً من الحلقات التنظيمية أينما حل، إلى اغتيال الشاه ناصر الدين مطلقاً كلمته الشهيرة “خذها من يد جمال الدين”، مما أدى إلى احتجاز السلطان عبد الحميد للأفغاني في الآستانة بشكل ضيف معزز مكرم.
تأثر علماء النجف وشخصياته بنشاط جمال الدين، وكان زميله الخراساني الذي لا يقل أصالة عنه في طليعة هؤلاء المتأثرين إلى جانب النائيني الذي كان في المحيط الإصلاحي للمرجع الأعلى الشيرازي. وترجمت الحركة الإصلاحية عن نفسها سياسياً بشكل حركة دستورية أرغمت الشاه القاجاري مظفر الدين على تشكيل برلمان منتخب وإعلان الموافقة على الدستور في آب 1906. إلا أن ابنه الشاه محمد علي القاجاري تنكر للبرلمان والدستور مدعوماً في ذلك من بعض رجال الدين أو المجتهدين – المراجع وهم الذين يصفهم النائيني بـ “الشعبة الاستبدادية الدينية” مما أدى إلى اندلاع “المشروطة” التي هدفت إلى إرغام الشاه على السماح للبرلمان بإعلان الدستور. ولم يكن أمر “الحكومة الدينية” وارداً لا من قريب ولا من بعيد في مطالب “المشروطة” وهذا ما يؤكده بشكل حاسم منظرها النائيني حين رفض أن تكون الشريعة بتفاصيلها من مهمات الحكومة بل اشترط في التشريعات ألا تكون معادية للإسلام. وبمعنى آخر لم يدعُ النائيني وثوار “المشروطة” إلى حكومة دينية من الطراز الذي نلقاه حالياً في إيران بل إلى حكومة مدنية دستورية تحترم الإسلام وتقر بحمايته، وهو نفسه برنامج الكواكبي في “طبائع الاستبداد”.
ما يهمنا هنا هو أن الموقف من “المشروطة” شق المجتهدين ومن خلفهم الشعب الإيراني والمؤمنين إلى “دعاة مستبدة” و”دعاة مشروطة”(13)، وكان على رأس “دعاة المستبدة” مرجع كبير هو آية الله السيد كاظم اليزدي في حين كان على رأس “دعاة المشروطة” مرجع لا يقل مقامه عنه هو آية الله كاظم الخراساني. ولقد كان عاما 1908 و1909 عامي هذا الانقسام القطبي الحاد، الذي مارس فيه “دعاة المستبدة” أعمالاً يصفها السيد هبة الدين الشهرستاني أحد تلاميذ جمال الدين بـ “منتهى الوحشية” مما أدى بتحريضٍ من الخراساني والنائيني وترجمة الكواكبي على حد سواء، الخراساني بصفته قائداً والنائيني بصفته منظّراً والكواكبي بصفته داعماً إيديولوجياً، إلى مهاجمة منزل المجتهد فضل الله النوري الذي كان يساند الشاه وإلى شنقه، وانتهى الأمر بخلع الشاه محمد علي في نهاية عام 1909م. وخلال العام الذي سبقه، كان آية الله الخراساني وعدد من كبار المجتهدين قد وجهوا رسالتهم الشهيرة إلى السلطان عبد الحميد لإعادة الدستور. ويكشف ذلك عن هؤلاء، وضمنهم النائيني في كتابه وبشكل صريح، اهتمامهم بالدستورية في العالم الإسلامي، وعن تعاملهم مع الدولة العثمانية كدولة إسلامية يرتبط بها حماية الإسلام.
ونجد في كتاب النائيني بشكلٍ غير مباشر أي من دون تسمية عرضاً لموقف فضل الله النوري وتفنيداً كفاحياً له، تعكس لغته القاسية والحاسمة حدة الانشقاق(14).
في هذه الظروف تحديداً أمر كاظم الخراساني بترجمة وطبع كتاب “طبائع الاستبداد”، وكأن “طبائع الاستبداد” لم يعد صرخة في وادٍ بل ذهب بالأوتاد.
•••
غير أن الحركة الدستورية خبت بعد مقتل قائدها آية الله الخراساني في ظروفٍ غامضة، يرجّح هادي العلوي أن آية الله اليزدي الذي كان على رأس المستبدة وراءها(15)، فانزوى النائيني، وبدأت صفة رجل الدين تطغى على الرجل الدستوري فيه. وتتوج هذا الطغيان بانفراده بالمرجعية الدينية بدءاً من عام 1920، حيث قام نفسه بهدف صد مهاجمة خصومه له، بمحاصرة كتابه “تنبيه الأمة” وجمع نسخه وإتلافها. وبذل الإمام النائيني على ما يقال يومذاك لشراء كل نسخة ما لا يقل عن ليرتين ذهبيتين لإتلافها وهو ثمن هائل(16)، في حين يشير البعض إلى أن ثمن النسخة قد وصل إلى خمس ليرات ذهبية(17) وحال دون إعادة نشرها بالعربية في مجلة “الفجر الصادق” بواسطة الضغوطات التي بذلها الشيخ عبد الحسين الحلي (هل هو عبد الحسين مترجم “طبائع الاستبداد” ورفيق النائيني في المشروطة؟)، إلى أن تجرأ الشيخ عارف الزين على نشر ترجمة صالح الجعفري لها بشكل حلقات في مجلة “العرفان” الصيداوية. وقد أغري الزين بالمال وبطبع مجلة “العروة الوثقى” مجدداً في مطابع مجلته بغية عدم نشر الترجمة، إلا أن نشر هذه الترجمة كان يهم في الآن ذاته المرجع السيد أبو الحسن الأصفهاني الذي كان من خصوم النائيني، والذي كان نشرها بالنسبة له يمكن أن يساعد على حملة “ديماغوجية” ضد ماضي الشيخ النائيني، وسط العوام الذين يمكنهم حينئذ التوقف عن تقليده وتقليد مرجعٍ آخر، بحكم تعددية المراجع وحرية تقليد من يراه المؤمن مناسباً من المراجع، في المذهب الشيعي.
واستكمل الانتصار السياسي والمؤسسي لنظرية “ولاية الفقه” كما صاغها الإمام الخميني، وهي نظرية، وبالشكل الذي صاغها فيه الخميني تفتقد إلى الأصالة وإلى السند الفقهي المعتبر وإلى التواصل مع حركة الإصلاح الإسلامي في الفضاء الشيعي، وتؤسس لنظام كهنوتي أدانه النائيني وثوار “المشروطة” بحزم وبشكل نهائي واعتبروه من الأضاليل، كما أدانه الكواكبي نفسه في حديثه عن الاستبداد في “طبائع الاستبداد”، فاستكمل ذلك حصار نظرية النائيني وإقصاءها وتهميشها إلى أن أعاد الشيخ محمد مهدي شمس الدين إنتاجها وتطويرها في صيغة “ولاية الأمة على نفسها”(18).

(1) عثر الدكتور عبد الرحمن الكواكبي حفيد الكواكبي وحافظ تراثه على صورة هذه الترجمة وزودنا بنسخة عنها.
(2) من مقدمة عبد الحسين مترجم “طبائع الاستبداد” إلى الفارسية، المكتبة العلمية الإسلامية، طهران، سيد حسين، منطقة جلوخان، شارع شمس العمارة 1327.
(3) الطبعة المزيدة لـ “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”، منشورات رياض كيالي، ط2، دمشق 1973.
(4) حسين النائيني: تنبيه الأمة وتنويه الملة، ترجمة صالح الجعفري، أعادت “الغدير” اللبنانية نشرها في الأعداد 10 و11 و12 – 13 (كانون الثاني – آذار) 1990 – 1991، على حلقتين.
(5) محمد جمال باروت: يثرب الجديدة – الحركات الإسلامية الراهنة، دار الريس، لندن 1994، ص62.
(6) الرحالة ك: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، المكتبة التجارية الكبرى، مصر 1931، ص7.
(7) النائيني، تنبيه الأمة، “الغدير” العددان 10 و11 ك1 1990، ص63.
(8) الرحالة ك، المصدر السابق، ص14-15.
(9) النائيني، المصدر السابق، ص86.
(10) المصدر نفسه، ص67.
(11) هادي العلوي: لاهوت التحرير الإسلامي، التجربة والمرتقب، “الحرية” عدد 255، 27 آذار-2 نيسان 1988، ص42.
(12) المصدر نفسه، ص43.
(13) تجد تفصيلات جيدة عن المشروطة في، عبد الحليم الرهيمي، تاريخ الحركة الإسلامية في العراق، الدار العالمية للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، بيروت 1985، ص 112 – 113 و145 – 147.
(14) هو ما يناقشه النائيني تحت عنوان المغالطة الثالثة، “الغدير” عدد 12 – 13، ص 108.
(15) من المعروف أن الخراساني قد توفي عام 1911 أي بعد مقتل الشاه محمد علي القاجاري بعامين واعتلاء ابنه العرش خلفاً له، بينما يؤكد العلوي أن الخراساني قتل على الأرجح بمؤامرة دبرها اليزدي، في اليوم الذي حدده الخراساني لقتال الشاه محمد علي القاجاري. غير أن هذا لا ينفي أن اليزدي ظلَّ يعتبر كتاب النائيني بدعة منكرة.
(16) جعفر الخليلي: “العرفان”، المجلد 43، ص1032، 1956، أوردته “الغدير” 10 و11 عام 1990، ص58.
(17) الشيخ علي الخاقاني، موسوعة شعراء الغري، ج4، المطبعة الحيدرية، النجف الأشرف 1954، ص301-302، أوردته “الغدير” عدد 10 و11، ص 58.
(18) انظر تحليلنا المفصل للقطيعة ما بين نظرية “ولاية الفقيه” في صياغتها الخمينية ونظرية “ولاية الأمة على نفسها” في بحثنا، التشيع السياسي بين نظريتي “ولاية الفقيه” و”ولاية الأمة على نفسها” في، يثرب الجديدة – الحركات الإسلامية الراهنة، دار الريس، لندن 1994، ص 49 – 94.
– حلب
( باحث سوري)
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى