أسطورة مارادونا
فيديل سبيتي
لا بد من توجيه التحية الى اللبنانيين لعشقهم لعبة كرة القدم. فهذه خصلة حميدة فيهم، كما لدى كل شعب يعشق لعبة لا يصل فريق بلاده فيها الى الدور الاول من التصفيات النهائية القارية. تعصّب اللبنانيين لفرق كرة القدم العالمية، ما هو الا سبيل لتنفيس الضدية التي يحملونها بين جنباتهم، بدءا من الضدية الفردية ثم العائلية مرورا بالضدية المناطقية وصولا الى الطائفية. فهم في الغالب يظهرون تنافسهم المضاد في “ألعاب” سياسية موزعة، انتخابية (تقاسم السلطة او الدولة) ومصائرية تتعلق بصورة البلاد في مخيلة كل فريق منهم (مقاومة، عروبة، اقتصاد موجه، علمنة، أو العكس). لكن في كرة القدم، لا بد من جعل هذا التنافس على صورته في الملاعب الخضراء، رياضي وأخلاقي يقبل فيه المهزوم بالهزيمة ويرضى بانتصار غريمه.
سلوك اللبنانيين الذين يتحولون “فوتبولجيين” عند كل مونديال، فيزيّنون شرفاتهم وسياراتهم ومقاهيهم وحاناتهم التي يشاهدون فيها المباريات بأعلام الدول المشاركة في المونديال، هو دليل حيوية ودأب في البحث عن متنفس لبؤس أحوالهم. وحدها الشعوب التي لا أمل في تبدّل حياتها ومعيشتها تستنكف عن كرة القدم او عن مشاعر التنافس التي تبثها. هوس اللبنانيين بكرة القدم يبديهم أحياء “يرتزقون”. وبما أن احوال بلادهم السياسية تُشعرهم (!) بأن هذا المونديال لن ينتهي بحرب على غرار حرب المونديال الماضي في تموز 2006، فكان لا بد لهم أن يبدأوا الاحتفال بهمة ونشاط قبل بدء المونديال بأشهر، وقبل تدفق السياح على انواعهم مالئين شوارعهم ومدنهم حياة وضجيجا، وربما سيشاركونهم انفعالهم بمجريات الاحداث التي تصنعها أجساد اللاعبين المنطلقة أمام جماهير المدرجات المثارة دائماً وأبداً. في مناسبة المونديال في 11 حزيران. هنا نص حول كرة القدم، بطله أحد أساطير هذه اللعبة منذ انطلاقها، اللاعب الارجنتيني دييغو مارادونا الذي يحضر هنا كمثال لكل اللاعبين الذين حلموا بالتحول أسطورة في الملاعب.
تصل الكرة الى قدم اللاعب القصير والمصبوب صبّة واحدة، كتلة من العضلات. او هو يركض نحوها لينتزعها ممن يستحوذ عليها، اذ لا يطيق ان يكون راكضا او واقفا في الملعب من دون ان تكون الكرة بين قدميه. وهو حيث يدحرج الكرة أمامه، قد لا يكون قريبا من المرمى وربما ليس بعيدا. يرفع الكرة عن قدمه بضعة سنتيمترات، ثم يُرجع قدمه الى الخلف بينما الكرة المطاطية والملونة بمربعات سوداء وبيضاء، تنصاع للجاذبية وتتهاوى نحو أرض الملعب، وقبل ان تصل الى العشب بقليل يتلقفها بقدمه السريعة والصلبة، فيركلها نحو المرمى من الناحية التي يقف فيها، وقد تكون مواجهة للمرمى او على يمناه او على يسراه، فتنقذف الكرة كالصاروخ نحو الشباك، فلا يراها حارس المرمى ولا اللاعبون الذين تمر بهم، سواء أكانوا من فريقه ام من الفريق الخصم، وتستقر هناك هدفا أكيدا.
لو كان في الامكان رؤية هذا المشهد على طريقة أفلام الكرتون والرسوم المتحركة، فإن الكرة في رحلتها المباغتة والقصيرة نحو المرمى، تجرّ خلفها ذيلاً من نار كالمذنّب، ناتج من احتكاكها بالهواء، ودلالة على سرعتها الخارقة (بحسب مخيلة صانعي أفلام الكرتون).
لعبة شخصية
اللاعب القصير والمدوّر الذي يبدو كأنه عاد للتو من وجبة غداء في ملحمة لشواء اللحم على تخوم بلدة في جنوب لبنان- لشبهه بأهل الجنوب ومنهم كثر هاجروا في مطالع القرن العشرين الى الارجنتين- يروح، منذ انطلاق الطابة من قدمه، يركض نحو الجمهور محتفلاً بتسجيله الهدف. يركض نحو الجمهور في المدة الأقصر من ثانية التي تكون فيها الطابة سابحة في الهواء بين قدمه وشبكة المرمى. يركض راقصاً لانه متأكد من أن ركلته تلك لن تخطئ شباك المرمى أبدا. يتحقق ما يرجوه خلال تلك الثواني العابرة، فيسرع في ركضه نحو الجمهور ويروح يرقص محركا خصره وبطنه الكبير الذي يبديه كالكسالى من جلاّس المقاهي. يظل يرقص ليزيد في هياج الجمهور هياجاً هو فيه منذ دخوله الى المدرجات لمشاهدة مباراة يلعب فيها مارادونا. يرتفع الصراخ والتهييص واللافتات الضخمة التي كتب عليها إسم مارادونا، وتنتقل عدوى الهياج هذا الى جميع الجالسين في المدرجات الذين يبدون كأنهم مشجعون للاعب الوحيد والاوحد المشهور قبل اشتراكه في مباريات عالمية. يستفحل الصراخ والرقص على المدرجات، وتمتد شرايين الادرينالين بين اللاعب القصير الذي يرقص في الأسفل والجمهور الراقص في المدرجات رقصة النصر والنشوة.
في أثناء مسرحه الراقص هذا، يبقى مارادونا وحيدا ولا يقترب منه لاعبو فريقه المنتشرون في أرجاء الملعب ليهنئوه بالهدف الذي أحرزه كما يفعل لاعبو كرة القدم في العادة، حين يركضون نحو اللاعب الذي حقق هدفا، ليهنئوه بتتويج لعبهم الجماعي بهدف. وهم لا يقبلون عليه ليراقصوه لأنهم لم يساعدوه في تحقيق الهدف. بل هو مذ حصل على الطابة في منتصف الملعب او من لاعب الدفاع، علّقها في قدمه وراح يرسلها أمامه أمتارا عديدة، ليركض نحوها ويركلها ثانية أمتاراً عدة، منتظرا اقتراب لاعبي الفريق الخصم، فيعيد لصق الكرة في قدمه، ويمررها من بين قدمي اللاعب الاول، ومن خلف الثاني. وحين يمرر الكرة من بينهم جميعا، لا يتركهم خلفه ليذهب مباشرة الى المرمى، بل يمنحهم الفرصة لمراوغته ثانية بأن يخفف سرعته او بأن يعود قليلا الى الوراء، ثم يعود ويراوغهم مرة جديدة، والجمهور في هذا كله ذاهل ومراقب، ولاعبو فريقه يتحركون بطيئاً في الملعب، كأنهم يعرفون نهاية هذه المراوغة التي ستكون هدفا. يعرفون أن إكثارهم من الحركة في الملعب او وقوفهم في أماكن تسمح له بأن يرسل اليهم الطابة لن يكونا مجديين، اذ سيكمل لعبته وحده في النهاية، فيبدون كأنهم من طينة الجمهور.
إذلال اللاعبين
بعد أن يترك لاعبي الفريق الخصم خلفه ويصير في مساحة الارض المتبقية بينه وبين المرمى في مواجهة الحارس الوحيد، تكون تلك اللحظة أسوأ لحظات هذا الحارس. فهو يعرف ان مارادونا لن يكتفي بوضع الكرة في الشباك ثم يرحل الى جهة فريقه من الملعب بسلام، بل سيسجل هدفه بعد إذلاله. ومن واجبات حارس المرمى البديهية ان يقاوم الشعور بالاذلال حين يدخل الهدف في مرماه، بل عليه ان لا يكف عن وضع اللوم على المدافعين الذين تركوه في هذه الحالة من الوحدة والخوف والتصبب عرقا مما ستؤول اليه الاحوال. يصرخ الحارس باللاعبين لائما شاتما محركا يديه يمنة ويسرة، كأنه يدلهم الى الاماكن التي كان يجب ان يقفوا فيها كي لا يسمحوا للطابة بالمرور من بينهم.
في تلك المسافة التي يكون قد خلّف فيها مارادونا المدافعين، وفي الثواني القليلة التي يملكها قبل ان يلحقوا به، يكون قد صمم ما الذي سيفعله هو ورفيقته الكرة، التي طالما ظننا ان في داخلها قطعة من الحديد وفي حذائه قطعة من المغناطيس، تجعل الطابة ملتصقة بقدمه لا ينتزعها منه أحد. في تلك اللحظة، اذا قرر الحارس الخروج من مرماه راكضا نحو الكرة، فقد أصاب لنفسه اذلالا مسرحيا يكون فيه مشاهدا. اما اذ قرر البقاء في مرماه منتظرا وصول مارادونا وطابته، فإنه أصاب اذلالا مسرحيا يكون هو ممثلا مشاركا في صناعته.
في الحالة الاولى، اذا خرج الحارس من مرماه طالبا التقاط الكرة من قدم مارادونا، فإن هذا الاخير سينتظر ابتعاد الحارس عدداً معيناً من الامتار عن مرماه، ثم يرفع الكرة بقدمه ويرسلها بركلة خفيفة مقوسة من فوق الحارس الى المرمى. في الحالة الثانية، اذا قرر الحارس انتظار مارادونا عند خط المرمى، فإنه سيصل الى هناك وسيراوغ الحارس الذي سيرمي بجسده نحو الكرة محاولا التقاطها، ثم سيترك مارادونا الحارس خلفه كما ترك المدافعين قبله، وسيدخل مع الطابة الى المرمى ليودعها بكل طمأنينة مكانها.
طبعا يدور ذلك كله في ثوان قليلة، قد لا تتعدى الثلاث.
من الطبيعي ان يكره حارس المرمى او أي لاعب من اللاعبين المنتشرين في الملعب، مارادونا. ومن الطبيعي ان يركضوا الى جانبه أثناء المباراة ليشتموه، او يحاول واحدهم ركله على قدمه وإسقاطه أرضا في كل مرة يمر الى جانبه. لو فكر كل واحد منهم ان يجمع عصابة من المرتزقة ليلاقيه في أحد زواريب نابولي او برشلونة او بوينس أيريس ولا يتركه قبل أن يشبعه ضربا، فهذا من “حقه”. أكثر ما يخافه لاعب كرة القدم هو الاذلال، ومارادونا يتقن فن إذلال اللاعبين في الملعب.
أعتقد ان هذا ما شعر به كل لاعب واجه مارادونا او لعب معه في فريقه. هذا الشاب القصير و”المدعبل” الذي يشبه شباب ضواحي المدن الاوروبية او مدن اميركا اللاتينية “الزعران”، تمكن من تحويل لعبة كرة القدم لعبة شخصية هو مركزها. هذا ما سيحاول ان يفعله اللاعب الارجنتيني الجديد ميسي في مونديال جنوب إفريقيا، ولكنه لن ينجح. فميسي تدرب على لعب كرة القدم منذ طفولته في المدارس الاوروبية التي تعتمد على اللعب الجماعي، بينما تدرب مارادونا في شوارع بوينس أيريس الفقيرة. وشتان ما بين اللعب المهذب واللعب “الازعر”.
دكتور جيكل ومستر هايد
قدرة مارادونا على تشتيت اللاعبين الذين يلعبون الى جانبه او ضده، ليس مردّها الى قدرته على اللعب فقط، بل الى الشهرة التي جلبها معه الى الملعب منذ مباراته الاولى خارج وطنه في فريق برشلونة وبعده نابولي. كان الجمهور يحتفي بمارادونا منذ مبارياته الاولى كأنه يعرفه منذ زمن بعيد. فهذا اللاعب عرف كيف يستغل آلة الاعلام والباباراتزي. وجعل من حياته خارج الملعب محط اهتمام الجميع، ومثّل عليهم كما يمثّل في لعبه الكرة ومراوغته بها. نقشه صورة غيفارا على كتفه، خروجه مع زوجته الجميلة الى المناسبات العامة، فضائح تعاطيه الكوكايين، وخروجه ثملاً من الحانات في اسبانيا ونابولي وبوينس أيريس، كلها سبل تساهم في نجاح “رقصه” أمام آلة الاعلام التي تشتهي الرقص. كان يعرف تماما كيف يجعل من نفسه نجما إعلاميا. تارة بفن الكرة، وأخرى بفن الكاميرا المتخفية (الباباراتزي) التي ينزع عنها تخفيها باستدعائها.
حاولت زوجة اللاعب الانكليزي بيكهام، وهي مغنية معروفة من فريق “سبايس غيرلز” spice girls، أن تجعل من زوجها نجما بالطريقة نفسها. لكن يا للفشل. بيكهام انكليزي بارد، يلعب كرة القدم كما يحترم الوقوف أمام الاشارة الحمراء عند مفترق الطرق. أما مارادونا فأرجنتيني “أزعر” صعد من أحياء الفقر سريعا الى عالم الاثرياء وعلى كتفه نقش لغيفارا. كان الكوكايين يعينه في حياة الشهرة والثراء الجديدة والمرعبة، كما كان يعينه غيابه عن الوعي في حياته خارج الملعب. مارادونا كان دكتور جيكل في الملعب ومستر هايد في الشوارع. وقس على ذلك.
الهوس المبكر
منذ عام 1965، أي بعد بلوغه سن الخامسة، راح الولد الصغير يبدي هوسا بالكرة المطاطية. الكرة المدوّرة نفسها. يضعها على رفّ الخزانة قبل نومه، ويدهنها بالزيت صباحاً كي يحافظ على لمعانها. ويمنع إخوته من اللعب بها وهم صاروا أيضا لاعبين محترفين. كان في الحي الارجنتيني الفقير في ضواحي بوينس أيريس يلعب مع أقرانه في العاب طفولية، كان يبدو فيها متقنا لعب الكرة كما لو انه يتدرب خفية عنهم. وهؤلاء راحوا يرفضون مشاركته في اللعب طالما أنه يسبقهم جميعا ويبقي الكرة بين قدميه، يركلها ويلحقها من أول الملعب الى آخره، قبل ان يحقق هدفا. رفض الاولاد أن يجعلوه ولدا مثلهم لأنه لا يحقق التوازن في اللعب بين فريقين، بل يقلب اللعبة الجماعية لعبةً خاصة به. كان عليه أن يلعب وحده بطابته في البورة قرب منزل أهله حين ينتهي من نقل المياه الصالحة للشرب والطبخ في براميل ثقيلة الى المنزل. كان يراقص الكرة ساعات فوق قدمه ورأسه وصدره وبلا انقطاع. يكبر وينمو والكرة بين قدميه وفوق رأسه وعلى صدره. وكانت تراوده احلام عن ركضه في ملعب واسع يملأ الجمهور مدرجاته، وأن ملاكا يوقظه ويدعوه الى القفز من نافذة غرفته الى الأرض البور في الحي الفقير، كي يلعب بالكرة تحت الشجرة اليابسة العالية. وهو في إحدى المرات- كان في السادسة من عمره- جاوب الصوت الذي يناديه، فاستيقظ من نومه، وقفز من النافذة والسماء تدلق ماء كأنه يهطل من مزراب. نظر الى الشجرة اليابسة التي كان في أعلاها غصنان متباعدان كأنهما مرمى، فركل الكرة ليمررها بين الغصنين. فرح لتحقيق هدف في الشجرة، ولكن الطابة ذهبت بعيدا. حين همّ بالبحث عنها، سقط في حفرة القاذورات التي تصبّ فيها كل المياه القذرة المطرودة من بيوت الحي الفقير. بقي في الحفرة يقاوم الغرق صارخا في طلب المساعدة التي أتته بعد ساعات من الجيران الذين سمعوا صراخه. ركله والده ركلات عدة لخروجه ليلا من المنزل في هذا الحي الخطر. كان بقاؤه في الحفرة كل ذلك الوقت وهو معلق على شفير الموت، معلما من معالم حياته المقبلة. سيقاوم ذكراها في ما بعد بالكوكايين وبالكثير من الكوكايين.
كان والده عنيفا، فقد أنجبت له زوجته عددا كبيرا من الاولاد لم يتمكن من اعالتهم من أجر عمله في طحن العظام الذي يستعمل في صناعات مختلفة. كان الأب يصل الى المنزل بعد انتهائه من عمله المتعب، فيجد أن أولاده راسبون في المدرسة والبنات منهم لا يساعدن والدتهن في اعمال المنزل لانصرافهن الى مغازلة الفتيان في الحي، والصبيان لاهون عن فقر والدهم وتعبه، بلعبهم كرة القدم. كان عليه ان يصبّ جام غضبه على أصغرهم دييغو، فيذيقه من أنواع الضرب ألوانا، حتى تركه مرة مغشياً عليه على الارض حين سخر الصغير من الحساء الذي تصنعه أمّه له ولأخواته كل مساء، فيما تنقص كمية الملح فيه يوماً بعد يوم. كان يمكن الوالد أن يقتل إبنه بين يديه لولا تدخل أمه لتخليصه من براثن الغضب التي تنقض على جسده.
قتل الاب
كانت كرة القدم في أوائل السبعينات من القرن المنصرم، قد وصلت الى قمة جماهيريتها. تتسابق الامم والشعوب لتشكيل افضل الفرق للوصول الى المشاركة في نهائيات كأس العالم، والحصول على الكأس الذهبية. كان ملعب كرة القدم ساحة معركة الامم والشعوب بعد عقدين على انتهاء معاركهم في الحرب العالمية الثانية. وكانت الشعوب الفقيرة التي اتفق على تسميتها بشعوب العالم الثالث، تجد في كرة القدم متنفسا لتحقيق العظمة والانتصار والفخر. وكان للعبة جنرالاتها. باكنباور الالماني والبرازيلي بيليه والهولندي كرويف والبرازيليان زيكو وسقراط في ما بعد، وغيرهم كثر. وسيرثهم مارادونا بعد سنوات.
في لحظات هدوئه كان الاب يراقب ابنه الذي يلعب في الساحة الترابية قرب المنزل. انتابه شعور بأن هذا الطفل يملك موهبة يجب ان لا تضيع سدى، فحمله الى المدينة حيث تتبارى فرق الصبيان في مباريات يراقبها صانعو اللاعبين. وهؤلاء ينتقون بعد تلك المباريات الفتيان الذين يجب تدريبهم وتعليمهم فنون اللعبة لإطلاقهم في عالم الكرة الواسع.
في الملعب لم يصدّق المدرّب عينيه وهو يشاهد مارادونا يلعب. “هذا الطفل الذي يبلغ العاشرة من العمر يلعب كما لو أنه في العشرين”، قال المدرّب لوالده. حين قرر تبني تدريب هذا الولد في مدرسة تدريب حقيقية، رفض والده بادئ الامر. فقد كان يرغب أن يمنح أولاده فرصة التعلم، تلك التي لم يمنحها له أهله. لكن الأم المتشددة تدخلت سريعا، وقالت إن ابنها لن يتعلم لأنه مهووس بالكرة، وان العمل لن يوصله الى أي مكان، وكان مثالها اقرانه في الحي الذين ما إن انهوا تعليمهم حتى سحقتهم البطالة الشنيعة. أطرق الوالد ثم قال للمدرّب: خذه حيثما تشاء.
انتقلت العائلة كلها الى بوينس ايريس، الى قلب العاصمة، حيث مدرسة لاعب المستقبل. كان البيت الجديد أفخم من أن تتكيف معه تلك العائلة الفقيرة، على رغم انه سيبدو في ما بعد منزلاً عادياً، مقارنةً بالمنازل التي سيشتريها مارادونا بعد أن يصبح نجما عالميا. لم تتمكن الأم في البداية من ان تجاري اسعار الغذاء في هذا الحي الفخم، ولكن لم تطل بها هذه الحال، فسرعان ما وقّع ابنها عقدا مع فريق “ارجنتينوس”، مما رفع العائلة درجة على سلّم الثراء. وفي هذا الحي أحب مارادونا زوجة المستقبل، التي سيذيقها طعم الشقاء الذي يتركه الكوكايين في جسده، وعلى رغم ذلك ستبقى الى جانبه حتى اليوم.
منذ سنوات مراهقته صار الولد المهووس بالكرة معيلا لعائلته. وهو انتظر فرصة وقوفه مع والده يتأملان البحر القريب من المنزل الجديد، ليقول له فجأة: “يا أبي أريدك أن تترك عملك”. أجاب الوالد: “أوتخجل من عملي في طحن العظام؟”. أطرق الشاب اليافع قبل ان يجيبه انه بات يتمكن من إعالة العائلة وأنه يجب ان يرتاح بعدما أفنى حياته في العمل من أجل تربيته وأخوته. وهكذا كان.
يد الله
منذ لعبه مع فريق “أرجنتينوس” راح مارادونا يلفت الانظار. كل المهتمين بكرة القدم في الارجنتين راحوا يتهامسون: “ما الذي يفعله هذا الشاب”. في عام 1977، وكان في السابعة عشرة من عمره، تقرر إشراكه في المنتخب الارجنتيني الوطني في دورة كأس العالم، الا ان المدرب تراجع عن قراره في اللحظة الأخيرة خوفا من قلة خبرة الفتى وصغر سنه. لكنه في السنة نفسها لعب مع منتخب بلاده للشباب في دورة طوكيو، وحمل فريقه الى منصة التتويج بطلاً لفرق الشباب على مستوى العالم.
حينها اشتراه فريق “بوكا جونيورز” الارجنتيني الشهير، الذي طالما حلم مارادنا أن يلعب في صفوفه، فقد كان مهووسا بهذا الفريق منذ طفولته. كانت تلك المليون دولار الاولى لمارادونا الشاب. كان عليه ان ينتقل من فريق الى آخر، مرةً لأن فريقه يبيعه بسعر مرتفع، ومرةً بسبب سوء سلوكه. انتقل من الارجنتين الى اوروبا، إيطاليا اولا في نابولي، ثم اسبانيا ليلعب مع فريق برشلونة، وساعد كلا الفريقين في الوصول الى منصات التتويج المحلية والاوروبية. كان يصنع أسطورته بسهولة كبيرة، وربما ساهم في صناعتها الكوكايين والليالي الحمراء. وكان خلال تلك السنوات يلعب لمنتخب الارجنتين الوطني، وفي عام 1986 حصل لفريقه على كأس العالم، وفي ذلك المونديال أحرز هدفا بيده. لم يرَ الحكم يومها ذلك الخطأ فاحتسب الهدف، ولكن حين سأل الصحافيون مارادونا عن هدف اليد الواضح، الذي التقطته كل كاميرات العالم، أجاب على طريقة الممثلين الهوليوديين: “إنها يد الله”.
يد الله فوق الجميع، ومارادونا يستخدمها ليرعب بها الاعداء. كان لسان حاله يقول: “لعبتكم الجماعية هذه فلتذهب الى الجحيم. أنا ربّها الاعلى”. وهو لم يكن يظن بالتأكيد انه سيكون في سنة 2010 مدرب الفريق الارجنتيني، وبالتأكيد لم يدر في خلده ان صورته ستطبع على العملة الارجنتينية، وانه لو أراد الترشح الى منصب رئاسة الارجنتين لفاز بالمنصب. لم يكن ليتوقع ذلك لأنه قرر منذ البداية ان شهرته التي تبث في كل مكان سيطفئها هو نفسه بالكوكايين والنساء.
لذا لم يكن مستغربا توقيفه في مطار بلاده لحمله كمية كبيرة من الكوكايين. كان من الصعب حينذاك اخفاء الامر وطي صفحته من قبل الشرطة، ولو كان الفاعل شخصا مشهورا ومحبوبا، فقد طفح الكيل. ولم يكن غريبا عليه ايقافه عن اللعب في مونديال 1990 بسبب تناوله الكوكايين والمنشطات قبل نزوله الى الملعب. كانت شهرته قد سبقت طموحه. لقد بات مشهورا في وقت مبكر، وما الذي يفعله في الوقت المتبقي؟ إطفاء الشهرة. هكذا أمضى في عام 2000 أسابيع في المستشفى في حالة الغيبوبة بسبب تناوله كمية مفرطة من المخدر. وحين استيقظ من غيبوبته ونظر من نافذة غرفته في المستشفى الى الجمهور الذي يقف في الساحة يحمل الشموع ويتضرع الى الله من أجل إيقاظه، استشاط غيظا: “ما الذي فعلته كي يفعلوا بي هذا كلّه”، راح يتساءل. بعد سنوات قال صديقه الحميم، الذي بقي الى جانبه طوال تلك الفترة العصيبة، وفي معرض حديثه عنه: “بعضنا تؤذيه الشهرة”. ما كانت لتؤذيه فقط بل لتقتله لو لم يتطوع القطاع الصحي الارجنتيني بأكمله لرعايته أثناء غيبوبته، التي كانت أحلامها كلها تدور حول سقوطه في حفرة القاذورات صغيرا، كما صرح في ما بعد لكوستاريكا، مخرج الفيلم الشهير “مارادونا يد الله” ¶
النهار الثقافي