موسم الغيرة من كرة القدم
عمر قدور
في النصف الثاني من ثمانينيّات القرن الماضي بات اسم مارادونا يمثّل كرة القدم بلا منازع. فالنجم الأسطورة حاز شهرة قلّ نظيرها، ولم يغب هذا عن بال البعض من مثقّفينا فتناولوا ظاهرة مارادونا بالقليل من البحث والكثير من الامتعاض والسخرية. حجّتهم في ذلك أنّ قدَم اللاعب، ولنلاحظ مكان القدم في “أسفل” الجسم، باتت أهمّ من عقول مفكّرينا، أي أصحاب تلك الكتابات على وجه الخصوص، مع الأخذ بالحسبان الثمن الضخم آنذاك الذي دُفع مقابل تلك القدم والراتب الضخم الذي كان يتقاضاه اللاعب. وقد يكون من الخير للأخير أن تلك الأقلام لم تسع فيما بعد الى اللحاق بأزماته المتتالية في تعاطي المخدّرات والإقلاع عنها، أو ردود الأفعال المتباينة التي أثارها منذ استلم تدريب منتخب بلاده الأرجنتين.
لكنّ هذا لن يمنع، على الأرجح، بعض الأقلام من الانقضاض على نجوم اليوم ونحن في حمّى كأس العالم، وكالعادة سيجد بعض مثقّفينا الحجّة ليثبتوا لنا مرة أخرى تفاهة المناسبة وتفاهة ما يحيط بها من اهتمام جماهيريّ.
ليس من السهل على مثقّفينا أن يتجاهلوا حدثاً عالمياً بحجم المونديال، لكنّ البعض منهم ليس بوسعه التعامل مع الحدث بالروح الرياضيّة التي يقتضيها. وقد لا يكون بوسعه وضع تصوّراته الأيديولوجيّة جانباً ليستمتع بالكرنفال، هذا إن تجاهلنا أولئك الذين سيستمتعون بمتابعة المباريات سرّاً، ويجهرون باستخفافهم بها وبمتابعيها. ولأنّ سطوة الأيديولوجيا لا تحتمل اللعب لن يصعب على من يشاء تذكيرنا بمختلف القضايا العظمى التي نتشاغل عنها عندما ننجرف مع حمّى المباريات، ومع أنّ هذه القضايا حاضرة دائماً إلا أنّ هناك من يعزّ عليه أن نروّح عن أنفسنا بمتعةٍ وإن تكن عابرة.
سينبري من يذكّرنا بتهديدات العدو الدائمة، وبقضايا الشعوب التي تئنّ تحت وطأة الفقر، وباستخدام كرة القدم كأفيون جديد لهذه الشعوب، خاصّة الشريحة الشابّة منها. أمّا مناهضو العولمة على طريقتنا فلن تنقصهم الحجّة بالإشارة إلى حجم الاحتكارات التي باتت تتحكّم في مفاصل اللعبة. سيتقاطع أصحاب الأيديولوجيّات مع مدّعي حماية المستهلك في الحملة على أعلام المنتخبات التي ترفرف على شرفات المنازل أو على السيّارات، فالأوّلون يستنكرون رفع أعلام أجنبيّة في الوقت الذي تغيب فيه أعلام الوطن، والآخرون سيستيقظون فجأة على حجم ما يُهدر من أموال وأقمشة وساعات عمل.
أمّا السؤال الذي لا يُسأَل عادة فهو عن السبب الذي يدفع بهؤلاء إلى تكريس بعض من جهدهم من أجل “فضح” مؤامرة كرة القدم بدلاً من الانصراف إلى متابعة قضاياهم المهمّة! أهي حملة توعية وإرشاد لأولئك الذين أفسدت الكرة عقولهم وباتوا لا يدركون مصلحتهم والمؤامرات التي تُحاك ضدّهم، بل وينساقون وراء أعدائهم فيساهمون في التآمر على أنفسهم؟! ولعلّ السؤال الأهمّ: لماذا يغار مثقّفونا من كرة القدم ويستحضرون مختلف أنواع الذرائع من أجل إثبات ابتذالها والنيل من الاهتمام الذي ينصرف عنهم إلى تلك الكرة المنفوخة بالهواء؟
يمتلك المثقّف من العدّة اللغويّة ما يجعله يداور ولا يعلن غيرته من المجد الذي يحققه نجوم الكرة، بينما يجاهد من أجل الوصول إلى حفنة من القرّاء. ولأنّه يؤمن بأحقّيته بالنجوميّة فهو يتحسّر إذ يرى الأضواء تذهب إلى مكان آخر. ولأنّ الأمر لا يتوقّف على كرة القدم فقط سنرى الشكوى نفسها تتكرّر كلّما تركّزت الأضواء على نجم جديد. وليست بعيدة تلك المقالات أو الزوايا الصحفيّة التي تقارن بين وضع مثقّفنا المغبون مقارنة بشهرة فيفي عبده أو شاكيرا مثلاً. لا يؤمن هذا النوع من المثقّفين بأنواع من التواصل سوى ما اعتاد عليه من فنون، لذا يزدري ما يعتقد أنه تواصل من نوع أدنى. ولأنّه، غالباً، يضمر الاحتقار للجسد فهو ينظر إلى الفنون البدنيّة بازدراء، ويستنكر أن تنال هذه الفنون مكانة عالية تنافس “العقل” الذي ينبغي أن يبقى متربّعاً فوق الجسد.
من جهة أخرى، وفي الوقت الذي يحاول هذا النوع الإيهام باهتمامه بقضايا الجمهور فإنّه يتعالى على جمهوره المفترض، ويضع نفسه في موقع المعلِّم الذي يعرف مصلحة الجمهور السامية أكثر ممّا يدركها الأخير، ولا يرى حرجاً في أن يقرّع أولئك الرعاع الذين لم يتعالوا على حواسّهم الدنيا وغرائزهم البدائيّة. بل إنّ الجمهور الموصوم بتدنّي المستوى قد يكون هو الجمهور الأمثل لهذا النوع من المثقّفين؛ إذ يبرّر مختلف أنواع العثرات والإخفاقات التي تعترض الثقافة اللغويّة. وإذا كانت مقولة “الجمهور عاوز كده” مقولةً استهلاكيّة، فهذا أدعى إلى أن يكمل البعض بأنّ المستهلك محض مغفَّل، دون أدنى اكتراث بالمصادرة التي تتمّ على حقّ الآخرين بالمتعة كما يرغبون فيها، خاصّة إذا كانت متعةً من أجل المتعة لا غير.
المثقّف، في حالتنا هذه، يقرّ من حيث يدري أو لا يدري بأهميّة النجوميّة، ويعترض فقط على أحقّيّة البعض بها، أو بالأحرى يرى أنّها حقّ مسروق منه، ويأسف على فقدان دوره الرسوليّ وعلى انهيار التراتبيّة التي اجتهد أسلاف له في بنائها. لذا سيتمّ تجاهل الجهد الذي يبذله هؤلاء النجوم في الوصول إلى الأضواء، والجهد المضاعف المطلوب منهم للحفاظ على مكانتهم؛ سيبدو نجوم الكرة مجرّد أشخاص منحتهم الطبيعة هبة، وشاء الرأسمال العالميّ بنوايا ذميمة أن يستثمر في أقدامهم. لا حديث عن برامج التدريب المضنية التي يخضع إليها هؤلاء، أو اللياقة الذهنيّة التي يُفترض أن يتحلّوا بها، ولا عن الإرهاق البدنيّ والنفسيّ الذي يعانونه في مواسم طويلة من اللعب. وما يضع هذه الكتابات في موقع الغيرة أنّها لا تصل إلى تفكيك آليّات اصطناع النجوميّة، والمتطلّبات التي تقتضي عمراً معيّناً لها، بل تتناول بالنقد المنتَج النهائيّ “وهو هنا النجم”، وفي أحوال أفضل قد تتناول الحقل الذي ينتمي إليه النجم، وغالباً ما يُنظر إلى هذا الحقل كفعاليّة شعبويّة قليلة الشأن ثقافيّاً.
في هذا السياق تظهر عقدة بعض المثقّفين من الإعلام. ففي الوقت الذي ينظرون فيه إلى دور الإعلام بتشكّك وريبة، ويتشكّون من سطوة القوى المحرّكة له، تراهم لا يفصلون بين الحقل الثقافي الفكري أو الإبداعي وبين الحقل الإعلامي بوظيفته متعدّدة الأوجه، ويتمنّون لو أتيح لهم، أو لما يمثّلونه، أن يحتكر وسائل الإعلام. وعدم التمييز هذا يقود غالباً إلى عدم استيعاب ظاهرة النجوميّة كتعبير يفترق قليلاً أو كثيراً عن المعايير النقدّيّة، إذ ليس بالضرورة أبداً أن تتطابق مواصفات النجم مع الممثّل الأفضل، أو اللاعب الأمهر، أو المثقّف الأكثر عمقاً. مع الأخذ بالحسبان تغيّر مواصفات النجوميّة من زمن إلى آخر، وأيضاً قدرة وسائل الإعلام على اصطناع النجم وترويجه، وذلك ما تفتقر إليه وسائل الإعلام العربيّة مقارنة بمثيلاتها العالميّة. إنّ عقدة المثقّف/النجم التي تطلّ برأسها من تحت قناع التعالي تخالف التبجّح الذي تعلنه إذ تضع منتَج المثقّف في منافسة مع قدم لاعب أو خصر راقصة، وفي صورة هزليّة سيبدو المثقّف مغبوناً لأنّه لم يوهب قدم ميسّي أو صوت وخصر شاكيرا.
في صورة هزليّة من نوع آخر؛ يروى أن الرفاق الشيوعيّين تابعوا مباريات الفريق السوفييتي في كأس العالم عام 1982 كواجب حزبيّ، وعندما سجّل البرازيليّ إيدر هدفه الشهير في مرمى داساييف صفّق الرفيق القياديّ ابتهاجاً، لكنّه شعر بالخزي الشديد عندما لكزه رفيق آخر منبّهاً إلى أنّ الهدف سجّله الفريق الخصم.
المستقبل