الدولة العلمانية والمسألة الدينية
جاد الكريم الجباعي
ما من شك في أنّ أحد وجوه النزاع الحادّ الجاري اليوم في العالم العربي وبعض العالم الإسلامي هو محاولة “السيطرة على معنى الإسلام وتعريفه”، كما يقول الدكتور صادق جلال العظم في مقاله المهمّ المنشور على موقع الأوان بتاريخ 23 /5/ 2010، تحت عنوان “الدولة العلمانية والمسألة الدينية، تركيا نموذجاً”. ولكن ثمّة فارقٌ كبير الأهمّية يتعلّق بتعريف الإسلام ومحاولة السيطرة على رمزيته بين التجربتين التركية والإيرانية والتجارب المشابهة لها أو القريبة منها من جهة، وبين التجربة / التجارب العربية من جهة أخرى؛ يتعيّن هذا الفارق الجوهريّ في تعريف أولئك وهؤلاء لأنفسهم على نحو يتحدّد في ضوئه وعلى أساسه تعريف كلّ منهم للإسلام. وبعبارة أخرى يتعيّن الفارق الجوهريّ في مسألة الهويّة، بصفتها عَلَماً على الوعي الذاتي والتحديد الذاتي للأفراد والجماعات والأمم والشعوب.
فحجّة القائلين من المسلمين العرب أو العرب المسلمين بأنّ “العلمانية – فكرة ودولة وممارسة وتطبيقاً – نشأت في أوروبا بسبب من الحروب الدينية الدموية الشهيرة هناك، وعلى خلفية صراع المجتمع المدنيّ البورجوازيّ الصاعد وقتها وقواه مع الكنيسة والإقطاع، ممّا لا ينطبق على الإسلام وأراضيه، لأنّه ليس في الإسلام كنيسة أو ما يشابهها أصلا”. حجّة صحيحة في شطرها الأوّل وملتبسة في شطرها الثاني، لأنّها تخفي حقيقة أنّ السلطة الدينية المركزية والسلطة السياسية المركزية كانتا وجهين لحقيقة واحدة هي “حقيقة السلطة” في سائر الإمبراطوريات التي قامت على الواحدية فكرياً وعلى الاستبداد سياسياً، ولا سيما في الإمبراطورية “العربية الإسلامية” أو الخلافة الإسلامية، وكان الكواكبي سبّاقاً إلى الكشف عن هذه الحقيقة التاريخية، في العصر الحديث، حين ربط الاستبداد السياسيّ بالاستبداد الدينيّ، في كتابه المهمّ “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”. ومن ثمّ فإنّ نفوذ “الكنيسة” في الإسلام، (والكنيسة سلطة دينية مركزية)، لم يكن أخفّ وطأة من نفوذ الكنيسة في المسيحية يوم كان لها ذلك النفوذ، وأنّ الاضطهاد الدينيّ والمذهبيّ، اضطهاد الملل والنحل، في العالم الإسلامي لم يكن أقلّ منه في العالم المسيحيّ.
ومن ثمّ فإنّ المسألة لا تقتصر على تعريف الإسلام ومحاولة السيطرة على معناه، بل إنّ هذا الجانب مجرّد مظهر من مظاهر تعريف الذات أو تحديدها، ومظهر من مظاهر تعريف الدولة، وفق تعريف الذات أو تحديدها، والدولة تحديد ذاتيّ للشعب، وشكل وجود السياسيّ وحياته الأخلاقية، كما عرّفها ماركس. فلُبُّ المشكلة هو الصراع على السلطة من أجل “الغنيمة والعشيرة والعقيدة”. والعلمانية لم تطرح في الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة، ولم تحتلّ هذه الأهمّية المتزايدة في الجدل، بل في السجال الثقافي والسياسي الدائر اليوم، إلا في سياق الصراع على السلطة و”الدفاع عن الهوية”، لذلك لم تكن وليست اليوم إشكالية زائفة، كما وصفها المرحوم محمد عابد الجابري، وكما يصفها من ينهجون نهجه، وليست مفصولة عن الحداثة ولا عن الديمقراطية ولا عن حقوق الإنسان والمواطن.
ما يميّز العالم العربيّ عن العالم الإسلاميّ الأوسع اليوم، وما كان يميّزه دوماً، هو ارتباط الإسلام بالعروبة، هذا الارتباط هو ما يجمع اليوم القوميين والإسلاميين، ويمنح مفاهيم الرافضة والناصبة وما في سياقها دلالات إثنية وينتج منها نتائج سياسية، وما يولد لدى النخب العربية، خاصّة، رؤى ومواقف مذهبية وطائفية أجّجتها مشاعر الإحباط والمرارة التي رافقت سيرورة إخفاق ما سمّي المشروع القومي العربي، منذ عام 1967، وكانت في أساس الموقف العربي من التجربة التركية ومن التجربة الإيرانية، وغيرهما، سواء في ذلك التيّار القوميّ والتيار الإسلامي، وإن من مواقع مختلفة، إذ تركيا حليفة للإمبريالية وإسرائيل في نظر القوميين وعلمانية ملحدة في نظر الإسلاميين، وإيران فارسية، في نظر القوميين، وشيعية رافضية في نظر الإسلاميين من أهل السنّة والجماعة.
اندماج العروبة والإسلام في هويّة واحدة، ومن ثمّ صيرورة الإسلام “هويّة” للعرب السنّة تحديداً، وتخثّر التاريخ العربيّ منذ سقوط الحكم العباسي إلى يومنا وساعتنا، تجعل التقسيم المنطقيّ الذي أجراه الدكتور صادق العظم للإسلام مجرّد تقسيم منطقيّ لا تنتج منه أيّ نتيجة سياسية، إذ يتقاطع الإسلام الرسميّ والإسلام التكفيريّ التفجيريّ وإسلام البزنس وما يسمّيه بعضهم الإسلام الشعبيّ، ونحيّي الدكتور العظم إذ أغفله أو تجاهله، لأنه انعكاس للإسلام الرسميّ، تتقاطع كلّها في بؤرة واحدة هي بؤرة الهوية. وإنّ صفتي الاعتدال والتسامح اللتين نسبهما إلى إسلام البزنس في قوله: إنّه إسلام معتدل ومحافظ، يتمحور حول عمليات البيزنس بأشكالها كافّة، له مصلحة حيوية في الاستقرار السياسي والسلم الاجتماعي، وهو بالتأكيد غير مهووس بالمشركين والكفار والمرتدّين والمجوس والملحدين والزنادقة والمنافقين والروافض والنواصب وأحفاد القردة والخنازير، أو بالحدود وقانون العقوبات الجسدية. إنّه إسلام يميل إلى التسامح الواسع في الشأن العامّ وإلى التشدّد في الشأن الشخصيّ والفرديّ والعائليّ والخاص. ولذا يجب تمييزه بدقّة عن إسلام الحكم المطلق من ناحية، وعن إسلام التكفير والتفجير، من ناحية ثانية”. إنّ صفتي التسامح والاعتدال هما بالأحرى من قبيل الحال لا من قبيل الصفة، ومن طبيعة الحال أنّها متغيّرة، فإنّ اعتدال إسلام البزنس العربي هشّ ومفتوح في كلّ حين على أحد الحدّين الأقصيين : التطرّف واللامبالاة، ما دام الإسلام والسلطة وجهين لعملة واحدة، وذلك لأنه لم ينشأ في كنف دولة حديثة راسخة الجذور وقوية البنيان، إي إنّه لم ينشأ في فضاء عامّ ومشترك قوامه التعدّد والاختلاف اللذان يضعان المساواة في الحقوق والواجبات، وينسجان الوطنية الحديثة والمواطنة. وليس تضامن إسلام البزنس والإسلام الرسمي ظاهرة عابرة في الحالة العربية، ويلاحظ الجميع اليوم ميل الإسلام الرسمي، إسلام البترودولار، ولا سيما الإسلام السعودي، الوهابي، كإسلام البزنس، إلى “الاعتدال”، لأسباب سياسية خالصة، ولدواعي براغماتية خالصة، والبراغماتية هي منهج السياسة عندنا وعند غيرنا، كما هو معروف. ولا بدّ من التساؤل : من الذي يموّل الإسلام التكفيريّ ويسلّحه ويقدّم له “مشاريع شهداء” أو انتحاريين إن لم يكن الإسلام الرسميّ وإسلام البزنس و”الإسلام الشعبيّ”، والتمويل والتسليح ومشاريع الشهداء هي قوام وجوده؟
هنا لا يكفي وصف حزب الله في لبنان وحركة حماس في فلسطين بأنّهما “البقية الباقية من حركات التحرّر الوطني التي عرفها القرن العشرون في العالم عموماً وفي العالم العربي تحديداً، لكن مع انحدار مذهبيّ ضيّق إلى مستوى أدنى بكثير من المستوى الوطني الرحب، وبنزول طائفيّ متزمّت تحت خطّ كلّ معنى من معاني التحرّر المعروفة، بما فيها التحرّر الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والعلميّ وما إليه”. مع أنّ وصفهما على هذا النحو يحتاج إلى مناقشة خاصة بدلالة ظروف نشأة كلّ منهما بنيةً ووظيفةً، فإنّ موقفهما الفعليّ، وموقف ما يسمّى المقاومة الإسلامية في العراق من مشروع بناء الدولة الوطنية في لبنان وفلسطين والعراق معيار أساسي لتحديد أي من هذه الجماعات المذهبية “المقاومة” وتعريفها. وموقف المثقفين والعوام الذين يناصرون هذه الحركات المذهبية من الدولة لا يختلف عن موقف هذه الحركات. وقد يجد بعضنا عذراً للعوامّ والمثقفين (وهما جناحا الحركات الشمولية) في أنّ “الدول العربية” استقالت أو سحبت يدها من مقاومة العدوّ، لذلك نجد شعبية حماس وحزب الله خاصة تفوق شعبية أيّ زعيم عربيّ حتى في بلاده، وتتعدّى أحياناً خطوط الفصل المذهبيّ في المجتمعات العربية التي لا تدرك غالبيتها الصراع العربي الإسرائيلي إلا على أنّه صراع إسلاميّ يهوديّ ومن علامات قيام الساعة، مثلما عرفته النخبة على أنه “صراع وجود”.
لقد كانت السلطة ولا تزال هي التي تحدّد وظيفة الدين، وكان الدين منذ نشأته تابعاً للسلطة وأداة من أدواتها ووجهاً من وجوهها، ولا يزال كذلك، والاستثناء الذي يؤكّد القاعدة هو ذلك الحيز الضيّق من الدين، الذي كان ولا يزال يتقاطع، بما له وما عليه، مع الفلسفة والفكر الحرّ، ويكتسي في الحالين طابعاً أخلاقياً مردّه إلى الرسالة الأخلاقية للأديان كافّة، قبل أن يتحوّل أيّ منها إلى سلطة أو إلى أيديولوجية سلطة، أو قبل أن تبتلعه السلطة. والفارق هنا هو بين فكر ينتج الحقيقة النسبية ويتجاوزها وبين حقيقة مطلقة ومتعالية تنتج الفكر وتعيد إنتاجه. اليهودية والإسلام من بين سائر الأديان ينتميان إلى النوع الثاني، لأنّ السلطة أو الملك، كانت أساس نشوئهما، وكانت ولا تزال غاية كلّ منهما وهدفه. فقد كان حسن البنّا، مؤسّس جماعة الإخوان المسلمين، على حقّ حين قال إنّ “الإسلام دين ودنيا ودولة، مصحف وسيف”، واليمين الإسرائيلي الذي يطرح اليوم شعار “الدولة اليهودية” أو “يهودية الدولة” يكشف عن عنصر أصيل في الديانة اليهودية في هذا المضمار. ومن ثمّ فالتجربة التركية ليست تجربة إسلامية بل تجربة سياسية أوّلاً وأخيراً، تجربة دولة وطنية حديثة، علمانية، لا تناصب الدين أيّ شكل من أشكال العداوة، ولا تستمدّ منه أيّ عنصر من عناصر المشروعية، ولا تفرض على مواطنيها ديناً بعينه أو تجبر أيّاً منهم على التجرّد من دينه أو التخلّي عنه. العرب غير مرشّحين بعد لمثل هذه التجربة، والمقارنة بين كمال أتاتورك وعبد الناصر، أو بين الكمالية والناصرية، ليست خارج السياق. أما القومية البعثية في سورية والعراق فخارج السياق كلياً.
قد يكون العرب مرشّحين لحروب أهلية قادمة في الدول الهشّة والدول الفاشلة، وإلا ما معنى أن تفوز أكثرية معيّنة في انتخابات تشريعية متوافقة مع المعايير الدولية ولا تستطيع أن تحكم؟ لبنان والعراق مثالان فقط. وما معنى هجرة المسيحيين أو تهجيرهم من المشرق العربي خاصة؟ ما يعني أنّ المسألة هي مسألة الدولة الوطنية الحديثة أوّلاً وأساساً، وهذا ما ذهب إليه الدكتور صادق جلال العظم، لا مسألة الدين بوجه عامّ ولا مسألة الإسلام بوجه خاصّ، وقبل ذلك هي مسألة وعي النخب الثقافية والسياسية “العربية الإسلامية” الذي يتناسب تراجعه طرداً مع تعمُّق الانحطاط السياسي والاجتماعي والثقافي والأخلاقي، الذي اتّخذ لنفسه اسم الصحوة الإسلامية وقوامها “حاكمية الله” و”ولاية الفقيه”، الوعي المستلب في أيديولوجية الماضي، ولا يدرك الماضي، المعادل عنده للتاريخ، إلا بصفته ماضياً أيديولوجياً.
موقع الآوان