الحوار النقدي بين قوى مختلفة فكرياً: التجربة في المنطقة العربية
نهلة الشهال
تمهيد: ملاحظة الواقع
تكرر التقاء قوى إسلامية ويسارية وليبرالية في اطر مشتركة. أنشأت هذه الأطر على أساس برامج محددة، تضع جانبا الاعتبارات الفكرية، مغلبة التلاقي السياسي حول مواضيع ذات طبيعة ملحة، يأتي على الرأس منها مناهضة القمع، وفي مدى ابعد مجمل المسألة الديمقراطية.
الدافع
1- اعتُبر إرساء الحقوق السياسية والمدنية شرط لازم لترميم القدرة على المشاركة في الحقل العام، وغيابها يؤدي إلى شلل تام للحياة الاجتماعية والسياسية. بهذا المعنى، توصل الجميع إلى نتيجة مفادها أن النضال من اجل الحقوق السياسية والمدنية الأساسية هو أولوية، وهو استنتاج له أهمية شديدة لأنه يؤسس لبرامج توافقية.
2- ولأن الأنظمة لعبت على تناقضات القوى السياسية لتضربها ببعضها أحيانا، أو لتستفرد بها الواحدة بعد الأخرى، فقد توصلت هذه إلى ضرورة التلاقي على برنامج حد أدنى مشترك قوامه الرئيسي موضوع مناهضة القمع.
3- لم يكن تلاقي هذه قوى بديهيا، إذ هي لم تعتد على العمل معا. لذا لم يكن تحقيق ذلك ممكنا من دون الفصل بين العقائدي والسياسي، والتمييز في حركتها بين المبادئ والاستراتيجيا، بهدف تحديد أولويات مشتركة والتمكن من تلافي نقاط الخلاف.
الإشكاليات المثارة
ولكن سرعان ما يطرح هذا الاتفاق حدوده، وذلك على صعيدين:
1- أهمهما أن طرح مسألة وقف القمع يقود بسرعة إلى مجال يتجاوزه من بعيد. فتالياً على مسألة وقف القمع، تُطرح الحاجة لبنية نظام الديمقراطي: “دستور جديد للبلاد، الفصل بين السلطات، انتخابات عامة نزيهة وحرة، تحديد صلاحيات الرئيس”… ومن الملفت أن سياقا متشابها يحصل في أكثر من مكان، رغم اختلاف المعطيات، إذ بعد التصدي للبنية، تفرض نفسها مطالبة جوهرية: “الجمعية التأسيسية”. كما أن مجابهة القمع سريعا ما تقود إلى طرح مسألة شرعية النظام القائم. وفي هذا السياق، تحرص هذه القوى على التمييز بين “النظام” أي السلطة القائمة، و”الدولة” كمؤسسة عامة وموضوعية، وتحرص كذلك على التمسك بمبدأ التغيير السلمي، اللاعنفي، وغير الانقلابي، وتعتبر ذلك جزء من بلورة مقاربتها لبنية النظام الديمقراطي الذي تسعى إليه.
إن الانتقال من مجابهة القمع إلى طرح مسألة شرعية الأنظمة يعني أن درجة العطب الذي لحق بهذه المجتمعات: بحركتها، وقدرتها على التعبير عن نفسها، وعلى توليد وفرز قوى تمثلها، أو ما يمكن تسميته آليات بلورة وصياغة التوافق الاجتماعي على نظام مختلف – درجة العطب تلك إذن كبيرة إلى حد بات يحتاج من هذه المجتمعات العودة إلى مرحلة تأسيسية.
ولكن الاتفاق على الحد الأدنى يجد نفسه مهددا متى ما تطلب الأمر تفصيل هذه النقاط. هل يريد الجميع تغيير النظام أم أن بعضهم يسعى لفرض قبوله شريكا فيه؟ أي نظام مقبل؟ وما ضمانة أن كل طرف لا يستخدم الآخرين مطية للاستئثار بالسلطة المقبلة؟
2- ثانيهما أن نقاط الخلاف المتروكة جانبا تعود للإطلال برأسها، وقد تفسد الاتفاق الأصلي، حتى وإن اعتبرت غير راهنة ولا ملحة: التعددية السياسية، تعريف مدى وأسلوب تطبيق حرية التفكير، حرية أنماط الحياة، أولوية التوجهات في السياسة الخارجية، الموقف من حقوق النساء، فرض الحجاب، أو بصورة أعم الشريعة كمصدر أو أساس للتشريع (وأي شريعة؟ هنا تثار مسألة التأويل)، الخ…
هناك عوامل تضاعف من التوتر المصاحب لهذين الأمرين:
أولها الاختلال في أحجام القوى بين الحركات المشكلة لهذه التحالفات. فمنذ ثلاثة عقود من الزمن على الأقل، نمى وزن القوى الإسلامية في الشارع إلى درجة كبيرة فيما كان نفوذ القوى اليسارية والليبرالية يتراجع. ويؤدي ذلك إلى فقدان الأطراف المقابلة للطرف الاسلامي لقدرتها على إقامة توازن قوى ضابط معه، مما يفاقم من التوجسات حياله.
وبالمقابل، فربما يمكن القول أن هناك نوع من النظرة “الفوقية” التي تمارسها بعض القوى اليسارية أو الليبرالية تجاه الحركات الإسلامية، كاختصار نعتها بالظلامية، أو بالشعبوية، أو مقاربتها ككتلة صماء واعتبار الفروقات بين مكوناتها شكلية أو طفيفة، أو ظاهرية مفتعلة الخ…
وهناك الشك الدائم بوجود دافع قوي لدى الأنظمة لمحاولة استمالة الطرف الاسلامي أو أجزاء منه. في الحقيقة يتراوح سلوك الأنظمة بين القمع الشديد للإسلاميين، وإقامة هدنة معهم، واستمالة أجزاء منهم. وبكل الأحوال، فهذا يعني أنهم يدخلون كقوى فاعلة في حساب سلوك الأنظمة، إن لم نقل أنهم في مركز اهتمامها، وهذه ليست وضعية سائر القوى. إن الاشتراطات التي تواجهها الحركة الإسلامية مختلفة عما يواجهه سواها، مما يؤثر بالضرورة على سلوكها وحساباتها، العلنية والضمنية، ويزيد من اضطراب علاقاتها بحلفائها. ويمكننا رصد حالة مشابهة لدى القوى الدولية المهيمنة التي فصّلت نظرية عن “الإسلام المعتدل” وفتحت بالتالي الباب لعلاقات مع معظم القوى السياسية الإسلامية، بعضها قائم فعلا، وآخر قائم بالإمكان.
ومن جهة أخرى، تمنح “المرجعية” الدينية صاحبها نوعا من “الحصانة” التي قد تعيق في أحيان كثيرة خوض النقاش معه ونقده، والتمتع بحرية الاختلاف والصراع معه، إذ قد يسهل الخلط بين الدين وبين حركة سياسية دنيوية ذات إيديولوجيا دينية، وقد تمارس الحركة الإسلامية بسهولة ديماغوجية هذا الخلط.
وأخيرا، يفعل فعله غياب الجذر الفكري المشترك بين تلك القوى، واختلاف المصطلحات بينها (ديمقراطية لا تعادل شورى، هل “لا إكراه في الدين” يعني حرية المعتقد؟ الخ… )، وضبابية المشروع المجتمعي المعلن عنه، وتوجسات مستمدة من مرارة تجارب الحقبات السابقة، والقمع الممارس في النماذج القائمة للأنظمة الإسلامية…
التجارب العملية التي استندت إليها هذه النقاط
فكرة مثل هذه التحالفات مطروحة على امتداد العالم العربي وتثير نقاشات من طبيعة سياسية ونظرية على السواء.
هناك التجارب المتحققة :
1)المحاولات العديدة لأطراف سياسية عراقية متنوعة للوصول إلى اتفاقات تحالفية، وبخاصة بعد حرب الخليج الأولى. مسارات هذه التحالفات عند قيامها أو فشلها. التجربة العراقية من أقدم التجارب على هذا الصعيد، ولكنها تملك خصوصية شديدة، لأنها مورست من خارج العراق حيث كانت تلك القوى منفية، ولأن الأكثر شهرة من بينها – المؤتمر الوطني العراقي – ارتبط بشكل مباشر وعضوي بأطراف دولية.
2)الحركة المصرية من اجل التغيير، “كفاية”- أعلن عنها في أيلول/ سبتمبر 2004، الهدف المعلن هو مناهضة التمديد للرئيس مبارك وتوريثه الرئاسة لابنه. مذّاك أعلنت الحركة عن برنامج عمل أهم نقاطه: “الإلغاء الفوري لحالة الطوارئ، وإطلاق حق كل القوى المدنية السلمية في التنظيم وتشكيل أحزاب سياسية ونقابات وهيئات وجمعيات، والاعتراف بحق التظاهر والإضراب والاعتصام السلمي، وإطلاق حرية التعبير وإصدار الصحف”. وعلى منوالها وإن أقل شهرة منها، حركات “كفاية” في اليمن والسودان.
3) “إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي”، المعلن عنه في 16 تشرين الأول/ أكتوبر 2005، موقعا من أحزاب وشخصيات سورية، والذي حفزت للوصول إليه الأزمة المتفجرة مع اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري وانسحاب الجيش السوري من لبنان. كان قد سبق هذا الإطار، ومنذ سنوات، محاولات تلاقي بين قوى سياسية متنوعة ولكنها لم تصل إلى مستوى البيان البرنامجي المشترك وغلب عليها الطابع الظرفي. يقول إعلان دمشق أن الموقعين عليه اتفقوا على “إقامة نظام وطني ديمقراطي بطريقة سلمية وتدريجية قائمة على التوافق والحوار والاعتراف بالآخر، اعتبار الإسلام المكون الثقافي الرئيسي لحياة الأمة والشعب، بناء دولة حديثة تعتمد الديمقراطية، ضمان الحرية الفردية وحرية الجماعات والأقليات الوطنية، وإيجاد حل ديمقراطي عادل للمسألة الكردية في سوريا، إلغاء كل أشكال الاستثناء في الحياة العامة وتعليق العمل بقانون الطوارئ وإلغاء الأحكام العرفية والمحاكم الاستثنائية، ضمان حرية العمل السياسي…”
4) “حركة 18 أكتوبر للحقوق والحريات” في تونس، التي أعلن عنها في كانون الأول/ ديسمبر 2005 وتضم أحزابا معارضة، ديمقراطية ويسارية وإسلامية ومنظمات مجتمع مدني، بهدف إقامة توازن مع الحزب الحاكم المهيمن على كل مناحي الحياة السياسية منذ الاستقلال عام 1956. وقد انطلق التجمع اثر إضراب عن الطعام نفذته بشكل مشترك قيادات تلك القوى، وجاء تتويجا لصراع ضد ما يسمى ب “قانون مكافحة الإرهاب” الصادر عام 2003 والذي أطلق موجة من التدابير القمعية والبوليسية. اتفقت قوى 18 أكتوبر على ثلاث مطالب رئيسية هي: حرية التنظيم للجميع، حرية الإعلام والتعبير، الإفراج عن المساجين السياسيين وسن قانون العفو التشريعي العام، واعتبرتها الحد الأدنى الديمقراطي.
5) “اللقاء المشترك في اليمن” أو “تحالف القوى السياسية من أجل التغيير”، تكوَّن عام 2002 من التجمع اليمني للإصلاح (الإخوان المسلمين)، الحزب الاشتراكي اليمني الذي كان يحكم اليمن الجنوبي سابقاً (وكان الشريك الرئيس في تحقيق الوحدة اليمنية، وتولى رئاسة البرلمان والحكومة بالإضافة إلى شغل منصب نائب رئيس الجمهورية، ثم أقصي من الشراكة بفعل حرب 1964)، والتنظيم الوحدوي الناصري، وحزب الحق، وإتحاد القوى الشعبية، وحزب البعث العربي الاشتراكي. وقد أنتج مؤخراً “مشروع رؤية الإنقاذ الوطني” لمواجهة خطر انزلاق البلاد نحو التفكك، وتم إصدار هذه الوثيقة من خلال اللجنة التحضيرية للحوار الوطني التي تضم إلى جانب هذه الأحزاب ممثلين عن قوى سياسية واجتماعية أخرى.
5) وهناك لقاءات عملية لا ينظمها إطار معلن، كما في لبنان، حيث يعمل الحزب الشيوعي اللبناني وحركة الشعب (الناصرية) والتيار الوطني الحر (ليبرالي) ومنبر الوحدة الوطنية ( ديمقراطي) مع حزب الله الاسلامي. ولكن التحالف هنا لم يتم حول مسألة مجابهة القمع بل هو أكثر عمومية، كما انه يستند إلى تجربة تحالف” الحركة الوطنية” السابقة التي ضمت يساريين وديمقراطيين وقوميين وإسلاميين. كما انه هناك تجارب أخرى في السعودية أو كالتحالف اليساري/ القومي / الاسلامي الذي ظهر مؤخرا في البحرين.
مسالة مسار إدماج القوى الإسلامية في السلطة
وينبغي لهذه الدراسة كي تستوفي أغراضها أن تتفحص بعداً آخر للمسألة هو مسارات الإدماج الممكن للحركات الإسلامية في السلطة في العالم العربي، وفق النماذج التالية:
النموذج الأول: الديمقراطية المنجزة ورغم وجود بعض القيود، إلا أنه يمكننا أن نرى هنا دمج الحركات الإسلامية بصورة تامة في العملية الديمقراطية. وهذا هو النموذج التركي مثلاً ولا معادل له في العالم العربي.
النموذج الثاني: الديمقراطية المقيدة. هو نموذج المغرب لدمج الإسلاميين في العملية الديمقراطية، والعكس هو النموذج المصري. في النموذج الأول، يمكننا العثور على مؤسسات الدولة القوية والإرادة السياسية لدمج الحركات الإسلامية، وهو الأمر غير الموجود في الحالة المصرية. النموذج الثالث: الانتخابات الديمقراطية داخل دولة ضعيفة أو غير موجودة. وهذا النموذج تمثله فلسطين ولبنان والعراق. النموذج الرابع: نظام مغلق وغياب للمجال العام. وهذا النموذج تمثله تونس وسوريا.
خلاصة
إن دراسة أسباب استعصاء قيام تحالفات سياسية تضم حركات إسلامية، في بعض الحالات، أو امتناع إمكانية اشتراكهم في عملية الوصول إلى السلطة، يشكل أحد ميادين بحثنا هذا. وكذلك فإن تفحص مسارات حياة التحالفات التي قامت، والموضوعات التي تخترق النقاشات في صفوفها وقد تحدد مصيرها، وأخيرا المآلات الفعلية التي انتهت إليها، هي نقاط في غاية الأهمية . إلا أن الأمر الآخر المثير للانتباه هو ما يعبر عنه اللجوء إلى إقامة مثل هذه الأطر وبرامجها لجهة الأزمة العميقة للمجتمعات التي تحتضنها. فعدم توفر الحقوق الأساسية واستشراء القمع والاستئثار بالسلطة عوامل تعطل تماما الحياة العامة. ولكن المطالبة بهذه الحقوق تتكرر هي نفسها، كمطالب أساسية، منذ عقود…فهل يشكل التلاقي العريض عليها لقوى مختلفة ايدولوجيا تعديلا في توازن القوى العام يسمح بتجاوز الأزمة؟
الجانب التنفيذي
أنشأت مبادرة الإصلاح العربي مظلة لنقاش نقدي تُطرح من خلاله القضايا الشائكة في تجارب من هذا النوع. وقد كانت سيرورة الحوار النقدي هامة بذاتها في نظر المبادرة، وبمقدار أهمية الاوراق المنتجة.
فشكلت مبادرة الإصلاح العربي إطارا من مجموعة من الباحثين، جرى انتقاؤهم من عدد من بلدان العالم العربي، وبلغ عددهم 22 باحثاً: من المغرب ( عبد العلي حامي الدين، عمر أحريشان، أحمد البوز، حميد بحكاك)، وتونس (رشيد خشانة، لطفي حجي، فتحي بلحاج، رفيق عبد السلام)، ومصر (عمر الشوبكي، أحمد بهاء الدين شعبان، سامح فوزي، حسام تمام، هبة رؤوف، محمد العجاتي)، وسوريا (رضوان زيادة وجمال باروت) ولبنان (عبد الحليم فضل الله وسعد الله مزرعاني)، والسعودية (جعفر الشايب) واليمن (محمد المخلافي)، يمتازون جميعاً بأنهم يجمعون إلى القدرة البحثية التزام ميداني، فكري وسياسي، يعبر عن إحدى حساسيات هذه القوى. وقد تشكلت فرقة عمل من نهلة الشهال وعمر الشوبكي من مركز الأهرام للدراسات، وحميد بحكاك من مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية في المغرب، وهما مراكز شريكة في المبادرة، وبسمة قضماني وسلام الكواكبي من مبادرة الإصلاح العربي.
عقدت المجموعة أربع اجتماعات حوارية على امتداد عام 2009، بدأت في القاهرة في كانون الثاني /يناير، ثم في بيروت في نيسان/ابريل، وفي الرباط في تموز/ يوليو، وأخيرا عقدت الجلسة الختامية في تشرين الثاني 2009/نوفمبر في بيروت. وتعزيزاً للنقاش، دعي إلى الندوات في كل مرة باحثين من خارج المجموعة، وبالأخص من البلد المضيف، وقد قدّم بعضهم أوراقا بحثية قيمة.
دار كل اجتماع حول واحد أو أكثر من عناوين هذا المشروع. يُقدم الموضوع إلى المشاركين على شكل أوراق معدة سلفا، بحيث يتم النقاش بطريقة محددة حول بند معين، ويسعى إلى الخروج بخلاصات للبناء عليها وتعميقها.
تنشر كافة أوراق الباحثين على موقعنا www.arab-reform.net ، في باب “مشاريع بحثية”، وتحت عنوان “الحوار النقدي”. وهي تنشر حسب تسلسل الندوات الحوارية الأربع، يسبقها في كل مرة تقديم للإطار البحثي الضابط لكل ندوة، وبرنامجها. ويصدر في نهاية هذه العملية تقرير موسع.
عن موقع مبادرة الإصلاح العربي