اسرائيلصفحات العالم

الدولة العبرية وقد دخلت عصر العقائد منذ سنوات

محمد الحدّاد
على مدى قرون، حظيت إسرائيل بنوع من التعاطف من لدن كثير من شعوب العالم، بل في بواطن جزء من العرب أيضاً، لأنها بدت دولة صغيرة تصمد أمام رياح عاتية ومخاطر جمة، تمارس الديموقراطية والحرب في آن واحد، وتطور التكنولوجيات المعــــلوماتية المتقدمة مع إنشاء المزارع في المناطق الصحراوية، تربح المعارك التفاوضية والديبلوماسية كما تربح المعارك الأمنية والاستخباراتية. صورة مبالغ فيها لا شك، بل أسطورة غلفت الواقع الحقيقي لدولة تعيش الأرق والخوف من المستقبل.
لكــــن إسرائيل خســــرت فــــي السنوات الأخـــــيرة هذه الصـــــورة التي جلبت لها بعض التعاطف سابقاً، والسؤال المطروح هل حقـــــاً أصيب القائمون على أمرها فجأة بالغباء فراحوا يفرطون في أحد مكاسبهم الرئيسية؟ بالتأكيد لا. الحكام الإسرائيليون والجزء الأكبر من الطبقة السياسية المتنفذة ومن صناع القرار يعلمون جيداً أنهــــم يخسرون هذه الصورة، لكنهم يعتبرون أنهم لم يعودوا في حاجة إليها وقد أصبحوا أقوياء بما فيه الكفاية ويمكن لهم أن يفرضوا قواعد اللعبة بالشكل الذي يبدو لهم مناسباً. بعبارة أخرى، لم تعد القضية مطروحة من وجهة نظرهم على أساس الدفاع عن إسرائيل، بل قابلية ممارسة الهيمنة، لأنهم أصحاب الدولة الأكثر قوة وتقدماً وديموقراطية. وعلى هذا الأساس ينبغي أن نفهم الاختيار الإسرائيلي في عملية قرصنة أسطول الحرية: كان يمكن للجيش الإسرائيلي، على الأقل، أن يخفف من اللوم عليه ومن إحراج حلفائه فيترك الأسطول يدخل مياهه الإقليمية ليتسنى له شكلياً الحديث عن دفاع عن النفس أو دفاع عن الحدود أو تطبيق القانون الإسرائيلي على متسللين. لكنه اختار استعمال القوة في المياه الدولية التي ليست ملكه، إصراراً منه على تأكيد رسالة واضحة: نحن الأقوى ونضرب بقوة ونفعل ما يروق لنا. المنطق ذاته دفع إسرائيل قبلها بأيام إلى الردّ العنيف على الدعوة الناعمة التي وجهها المؤتمر الدولي مقترحاً عليها بأدب وحياء فائقين أن تنضم إلى المعاهدة الدولية لحظر انتشار الأسلحة النووية. ويمكن أن نواصل سلسلة الأمثلة طويلاً إلى أن نبلغ حرب 2006 على لبنان، فهي تاريخ الانعطاف الحاسم في الموقف الإسرائيلي. لنتذكر أنه كان من الممكن آنذاك استرجاع الجنديين الإسرائيليين المختطفين بواسطة المفاوضة وتبادل الأسرى، كما حصل أكثر من مرة في المنطقة، لكن إسرائيل اختارت آنذاك طريقة أخرى لتوحي بالقوة وترهب كل من تسول له نفسه التفكير في الاعتداء عليها.
لا يدرك الإسرائيليون إلى أي مدى هم واهمون في تصوراتهم، فهم لا يخسرون حلفاءهم التقليديين وحسب، بل يخسرون أيضاً معسكر الاعتدال العربي الذي لم يعد قادراً على رفع صوته بسبب الصلف الإسرائيلي المتكرر، ويخسرون بخاصة، وهذا الأهم، صورة القوة التي اكتسبوها في السابق، فلا بطولة في الاعتداء على المدنيين العزل، من أطفال الحجارة إلى المتظاهرين بغزة، مروراً بالمزارعين اللبنانيين والمناضلين الإنسانيين على مراكب أسطول يطالب برفع حصار هو من الأصل حصار غير شرعي.
ومن المرجح أن تواصل إسرائيل هذا السلوك فترة طويلة أخرى، ولذلك سبب ينبغي أن يدرك جيداً. إن طبيعة المجتمع الإسرائيلي قد تغيرت كلياً عما كانت عليه في فترة التأسيس، وأصبح للعقائد الدينية حضور قوي، وتراجع عدد الإسرائيليين الذين يصنفون أنفسهم علمانيين، وتدينت الأيديولوجيا الصهيونية وتهودت بعد أن نشأت علمانية، وأصبح جزء مهم من الإسرائيليين ينظرون إلى الصراع على انه امتداد لتدمير الهيكل سنة 70 ميلادي وليس نتيجة إعلان قرار التقسيم عام 1948. لقد أصبحت العقيدة هي المحرك الأول بدل المصلحة السياسية، وباختصار، دخلت إسرائيل نادي الدول العقائدية. وعليه، أصبح كل شيء جائزاً بحسب المنطق الإسرائيلي، كما تطورت جاهزية للتضحية وسلوك المسالك الوعرة ولو توافرت طرق أكثر يسراً لتحقيق الغاية نفسها.
صحيح أن على الجبهة المقابلة خضعت القضية الفلسطينية «لأسلمة» قسرية، ويكفي أن نتمعن في ردود الأفعال لنتأكد أن محور الممانعة تحوّل حصرياً إلى الخط «إيران»/»حزب الله» من جهة و «الإخوان المسلمين»/»حماس» من جهة أخرى، وأسطول الحرية كان يتكون في جزء كبير منه من «الإخوان المسلمين»، سواعد بشرية وتمويلاً على حد سواء. من هنا نفهم لماذا كانت ردود الفعل العربية فاترة، لأن توجس الأنظمة العربية من «الإخوان المسلمين» أقوى من توجسها من إسرائيل، ولنفس السبب شعر الأوروبيون بالحرج لأنهم لا يودون أن يجدوا أنفسهم في خندق واحد معهم، والولايات المتحدة لا يمكن بدورها أن تلوم إسرائيل وهي تمارس عنفاً وعنجهية من نفس القبيل في أفغانستان، دفعا أقرب حلفائها الرئيس حميد كارزاي إلى السخط المعلن عليها، عدا ما ارتكبته سابقاً بحق العراقيين بعد الاحتلال. وأخيراً، لقد أصبح مجلس الأمن مثل الجامعة العربية، فهو هيئة جديرة بالشفقة والرثاء، يدعو إلى تشكيل لجنة تحقيق وهو يعلم مصير اللجنة السابقة التي تشكلت بعد حرب غزة ويحتفظ في أروقته بتقرير القاضي غولدستون الذي لم يطبق شيء من توصياته، وهل ترضى إسرائيل على نتائج تحقيق يتعارض مع ما تعتبره عقائدياً الحقيقة المطلقة؟
كأن الشرق الأوسط يختزل لنا اليوم كل قواعد «اللاحضارة» في الوجود الإنساني: القاعدة الأولى، إذا كنت قوياً جاز لك أن تفعل ما تريد (الولايات المتحدة). القاعدة الثانية، إذا أردت أن تصنف بين الأقوياء عليك أن تثبت بكل صلف وعنجهية أنك قادر على أن تفعل ما تريد (حكومتا ناتانياهو وأحمدي نجاد). القاعدة الثالثة، إذا وجدت نفسك مغلوباً على أمرك عليك بالصبر الجميل (البلدان العربية). القاعدة الرابعة، إذا تدخلت بالحسنى والوساطة في صراعات العقائديين كنت أكبر ضحاياهم (تركيا). خامساً، القوانين والمواثيق الدولية لا تطبق إلا على الضعفاء ولا تنطلي إلا على السذج (الضمير الإنساني العالمي).
الشرق الأوسط الذي شهد ميلاد الحضارات قبل آلاف السنوات مهدّد اليوم بوحشية العقائديين، وإسرائيل تبدو فيه مثل المارد في مسرحية فاوست المشهورة، دعمها الغرب لتكون نموذجاً للديموقراطية والحداثة في المنطقة ولم يعد اليوم قادراً على ضبط مسارها أو كبح جماحها، مع أننا نعلم أن في إسرائيل أناساً كثيرين مغلوبين هم أيضاً على أمرهم، كما نعلم أن في أقوامنا من لو توافرت لهم قوة إسرائيل لصنعوا نفس صنيعها، ولا نملك إلا أن نصرخ مرددين عنوان رواية أخرى، عربية هذه المرة: «الحضارة، أماه!»
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى