المواطنة و- هيبة الدولة – والرعب
إن المراقب للأوضاع السورية ، منذ انقلاب 8 آذار 1963 وما تلاه من انقلاب على الانقلاب في 16 تشرين ثاني 1970 ، وصولاً إلى الوقت الراهن ، يستطيع الجزم ، بأن الدولة السورية التي جاء بها الاستقلال عام 1946 ، المؤسسة على الشرعية الديمقراطية والعقد الاجتماعي المعبر عنه بالدستور ،
الذي يوفر العدل والمساواة وسيادة القانون ، حسب الظروف السياسية والاجتماعي السائدة آنذاك ، قد موهت أو أذيبت قسرأً في السلطة التي أتت بها قوة الانقلابين الآذاري والتشريني الآنفي الذكر . وأن كل ما يتعلق بالدولة من صفات ومضامين وقيم قد تم تكييفها عن عمد بما يتناسب مع السلطة ، التي احتوت الدولة المنقلبة عليها ووضعتها في خدمة أهدافها .. وخاصة آلياتها القمعية ، التي صارت منذ ساعات الانقلابين الأولى ، تمثل ما تفرضه حالة الطوارئ والأحكام العرفية من عسف ، مرآة وقبضة السلطة بوجه المجتمع والآخر المعارض .
وكان من الطبيعي أن تتكيف وتنتقل القيم المعنوية مع القيم المادية ، التي كانت قد تضمنتها أطر الدولة الأولى إلى السلطة ” الدولة ” الجديدة ، ومنها ما يسمى ب ” هيبة الدولة ” . على أن التكيف الذي طاول ” هيبة الدولة ” وانعكاسه على حقوق المواطنة ، كان أكثر فجاجة وتشويهاً مما جرى من تكييف لقيم الدولة الأخرى ، وذلك من خلال شرعنة احتكار وشخصنة الدولة ، حيث تركزت ” هيبة الدولة ” وفق المادة 8 من دستور 1972 ، ليس ب ” هيبة الحزب القائد ” فحسب ، وإنما بصورة أكثر تركيزاً بشخص أمينه العام الذي هو في الآن نفسه رئيس الدولة ، إذ أصبحت هيبة الدولة هي ” هيبة الرئيس ” . وهكذا أصبحت ” هيبة الدولة ” هرمية مقلوبة البنية والحضور والمسؤولية ، حيث صارت ” هيبة الدولة ” تستمد قيمتها من قمة هرم السلطة وليس من الشعب الذي يمنحها الاحترام والرضى الطوعي عبر آليات التعبير الحر الديمقراطي ، وأصبح معيار التعاطي معها يبدأ ويتحدد أولاً بمصالح وأهواء رئاسة الدولة .
—————-
وعنمدما غدت ” هيبة الدولة ” فئوية حزبية وشخصية ، على هذا القدر من المحدودية ، تهمشت تجليات الدولة القيمية الأساسية ، وتحولت من اعتباراتها الوطنية العامة إلى محدودية الخصخصة ، حيث أدى استخدامها الخاص إلى نخر وهشاشة ما تبقى لها من أطر عامة ، وإلى تعرضها لمخاطر جدية جمة . وبذا انقلب مفهوم ” هيبة الدولة ” من العام ” الاحترام ” إلى الخاص ” القمع ” .. إلى الرهبة والرعب ، وضاعت المواطنة بكافة مضامينها الوطنية والحقوقية والإنسانية .
وقد دفع الشعب السوري ثمن هذا التشويه لبنية وهيبة الدولة إهدار نحو نصف قرن من تاريخه المعاصر ، تميز بإحكام قبضة الاستبداد على الدولة والمجتمع ، أمنياً وسياسياً واقتصادياً ، وتعرض عشرات آلاف المواطنين للاعتقالات والسجون السياسية التعسفية ، واحتكار السياسة والسلطة بشكل حديدي وشمولي ، وتمايزات اجتماعية طبقية إرادوية سلطوية ظالمة ، وسيطرة الطبقة السياسية الحاكمة على الهرم الاقتصادي ، وانتشار الفساد والغلاء وتجميد الرواتب والأجور ، وانحدار مستويات معيشة أكثر من 60 % من المواطنين إلى ما دون خط الفقر ، والسير باتجاه خصخصة القطاع العام وبقية مؤسسات الدولة الانتاجية والخدمية ، وإدخال البلاد في مضمار اقتصاد السوق وتداعياته الحاملة للآلام الاجتماعية للغالبية الكبرى في المجتمع .
——————
بعد ممارسات طوال عقود من السنين ، لم يعد يتطلب كبير جهد التوصل إلى أنه ، لما تنقلب ” هيبة الدولة ” من معناها العام ” الاحترام ، الذي يسوغه فقط تمتع الدولة بالشرعية الديمقراطية المستمدة من الشعب ، إلى المعنى الخاص المعبر عن المصالح الفئوية والشخصية على حساب المجتمع ، عبر آليات رعب ناتج عن القمع اللاقانوني واللاأخلاقي ، تفقد مثل هذه ” الهيبة ” شرعيتها ، التي تشكل خلفية التهم التي يعتقل ويحاكم بذريعتها المعتقلون السياسيون على اختلاف أطيافهم ، وتفقد معها حقها باحترام المواطن لها وبالتزامه الطوعي بها ، وتتكرس ” هيبة الدولة الملتبسة ” هذه جزءاً أساسياً من الأزمة البنيوية في المجتمع ، وينفتح في المجال لمفاعيل الصراعات الداخلية السياسية والاجتماعية ، دون أي ضمان للسيطرة عليها عندما تبلغ تداعياتها الحدود المأساوية ، وتبرز ، تعبيراً أصيلاً عن ذلك ، في المشهد العام ، شرعية المعارضة و” هيبة المعارضة ” التي تبشر بعودة المواطنة المفعمة بحقوق الإنسان ، والتي تعلو على شرعية هيبة الخوف والرعب . بل إن ذلك يعطي المعارضة شرعية مضاعفة ، لاتتأتى من حق الاختلاف وحق التعبير والاعتراض فحسب ، وإنما من حق الوطن عليها ، أن توقف الانحدار الوطني العام ، وتعيد بناء البلاد على أسس عقد اجتماعي جديد يعبر عنه د ستور ديمقراطي يؤمن العدالة والمساواة وسيادة القانون ، وينبني عليه عهد جديد تكون من أولى مهامه بناء هيبة للدولة ، تأتي عبر الآليات الديمقراطية ، من رضاء الشعب وقناعاته وإرادته ، بحيث تشكل قيمة وطنية عامة تمنح الوطن الهيبة بوجه أعدائه وتمنح المواطن الأمان والدفء والثقة بالمستقبل .
————–
على أن المآلات الموضوعية للتداعيات الانحدارية المتواصلة على كل الصعد ، إذ وضعت المعارضة في مكانتها الشرعية المضاعفة ، فإنها تحملها مسؤوليات مضاعفة أيضاً . وذلك بأن ترتقي بمستوى بنائها الفصائلي والتحالفي إلى مستوى المهام الكبرى المطروحة أمامها ، فتعف عن السجالات العلنية اللامسؤولة المعبرة عن انقساماتها المؤسفة وعن حساسياتها إزاء بعضها البعض ، وخاصة السجالات التخوينية والتبخيسية ، وتتجه لترسيخ تقاطعاتها تمهيداً لبناء تحالفات نوعية نضالية جديدة ، وأن يكون خطابها شفافاً موجهاً للعقول وليس للعواطف ، بحيث يطاول المضامين السياسية الداخلية والخارجية على مستوى عال من المسؤولية الوطنية والديمقراطية ، ويطاول بعدالة المضامين الاجتماعية عامة ، وخاصة ما يتعلق بحقوق ومقومات المعيشة الكريمة للطبقات الشعبية بصورة مواكبة للتغيرات الاقتصادية الاجتماعية المتسارعة .
—————
وعود على بدء ، إذا كان التسليم الجدلي يسمح باعتبار أن فعل ” النيل من هيبة الدولة ” يستوجب محاسبة المواطن الذي يقوم بذلك قضائياً ، فإن من العدل أولاً محاسبة من شوه وأضعف ” هيبة الدولة ” وعرضها لقلة الاحترام . وبالتالي فإن من حق هذا المواطن أن يقاوم الرعب القمعي غير المبرر قانونياً وأخلاقياً ، الذي يمارسه القيمون على الدولة و ” هيبتها ” لحرمانه من حرياته وحقوقه الدستورية الديمقراطية ، وأن يقف القضاء إلى جانبه ، الذي يتعين عليه أن يثبت هرم الدولة على قاعدته ، بمعناها الوطني الشامل ، وأن يصون هيبة الشعب ، التي هي وحدها تمد هيبة الدولة بالاحترام .. وبذا فقط تستحق هيبة الدولة عدم النيل منها ، حسب ادعاء السلطة ، وتستحق الاحترام .
والسؤال هنا ، أليس من حق المواطن ، قبل الجهات الرسمية ، أن يقيم الدعوى على المسؤولين في الحكم ، الذين وظفوا الدولة وهيبتها بأفعال فساد مشهودة سافرة ومارسوا جرم ” النيل من هيبة الدولة ” من خلال تسخيرها لخدمة سياسات لادستورية ولاعقلانية على كل الصعد ، ما أدى إلى فلتان القمع والقهر والنهب والفساد وإلى ضعف الوطن وتعريضه للأطماع الأجنبية ؟
الجواب يستدعي لائحة طويلة من الأسئلة .. من .. ومتى .. وإلى أي قضاء يوجه مثل هذا الادعاء المشروع
الحوار المتمدن
2008 / 2 / 5