صبحي حديديصفحات ثقافية

شاعر درويش المفضل

null
صبحي حديدي
ذات يوم سألني محمود درويش: مَن أفضل شعراء الإنكليزية الأحياء؟ فقلت، دون أدنى تردد: إنه ليس ابن اللغة الإنكليزية، وإنْ كان سيّد شعرها الراهن، الكاريبي ديريك ولكوت، وفي رأس فضائح جائزة نوبل للآداب أنها لم تُمنح له حتى اليوم. وبالطبع، كنت سعيداً بإعارة الراحل بعض ما في مكتبتي من أعمال ولكوت، وخاصة عمله الملحمي الفريد ‘أومـــيروس’، الذي يباري أوديسة هوميروس، فيــضع الرحلة المجازية الكبرى ضمن خلفـــيات كاريبية، وباستلهام المشهدية الجغرافية الفاتنة لجزيرة سانتا لوشيا، مسقط رأس الشاعر.
ولقد اكتشفت، بعد أيام قليلة، أنّ درويش ـ وكان يقيم آنذاك في باريس، بصفة دائمة ـ أوصى صديقه عبد الباري عطوان، رئيس تحرير هذه الصحيفة، بأن يرسل له من لندن جميع أعمال ولكوت، فعكف على قراءتها، وإعادة قراءتها، طيلة أشهر. ولأنه الشاعر المعلّم، المتمرّس في فنون اجتراح القصيدة، الخبير بمشاقّ ولادتها على النحو الذي يجعلها شعراً عظيماً، تنبّه درويش إلى الكثير من تفاصيل عبقرية ولكوت، وهضم العديد من خصوصيات تميّزها. وذاك إحساس لم يتولد عندي جرّاء نقاشات مطوّلة حول قصيدة ولكوت، فحسب؛ بل لأنّ الراحل زوّدني بدليل قاطع، دراماتيكي، وبالغ النزاهة في آن، حين أسرّ لي بأنه امتنع عن كتابة الشعر طيلة ثلاثة أشهر، كان خلالها يقرأ ولكوت، خشية أن يتغلغل شعره، عفو الخاطر، في أيّ جديد يكتبه درويش!
بعد أقلّ من سنة، عام 1992، كان ولكوت قد نال نوبل الآداب، وحملت محاضرته عنوان ‘الأنتيل: شظايا ذاكرة ملحمية’، وفيها تحدّث عن الشتات الأفريقي والآسيوي كما تختصره ملحمة ‘رامايانا’ الهندوسية، وعن الذاكرة التوّاقة إلى الإلتحاق بمركزها الخاص بها، تَوْق الضلع إلى استذكار الجسد الذي بُتر عنه. كذلك أشار إلى حقّه، كواحد من أبناء هذا الشتات، في الإنتماء إلى طبول إفريقيا، وعاشوراء الحسين، ورقصة التنين الصيني (بعض شظايا الأصيص العبقري الذي سعت الهيمنة الإمبريالية ـ الكولونيالية إلى تحطيمه، كما قال)، وذلك قبل، وفي أثناء، وبعد الإنتماء إلى وليام شكسبير.
ومنذ بداياته الشعرية المبكرة أدرك ولكوت جدل التحرّك في هوامش منفى اللغة هذا، وانخرط في معضلات ذلك الموقع الحرج بين مطرقة الإحساس بالواجب السياسي الشخصي حيال موطنه وثقافته، وسندان المصير التمثيلي والتعبيري للغة الكولونيالية (الإنكليزية) التي يكتب بها. كذلك ناقش مأزق الشاعر المطالَب بالدفاع عن الوطن (وبالتالي عن حقّه في استخدام لغته القومية)، والشاعر المنفيّ في ذات لا فكاك لها عن جوهر النفي. وهكذا، استخدم ولكوت لغة الـ ‘باتوا’ الكاريبية على نطاق واسع في مسرحياته، كما استخدم إنكليزية أدبية (بريطانية) رفيعة للغاية في أشعاره الأولى، ثم بدا أشبه بمَنْ يحاول تفجير هذه اللغة من داخلها بحثاً عن تلك الطاقات الدلالية الثمينة التي يحتاج إليها في عمليات تجميع شظايا الأصيص التعبيري الجميل الذي كسره الخطاب الكولونيالي. وفي قلب تلك السيرورة، غير الخالية البتة من ألم جمالي شديد وقلق تعبيري عميق، كانت ثنائياته تتصالح: الذات الوطنية الكاريبية، مقابل التربية الأدبية البريطانية؛ وآدم العالم الجديد، أمام أفعى العالم القديم.
ولقد حوّل ذاكرته إلى أدراج متراصّة، يفتحها شاعر كبير بلغت مخيلته حدّ الفيضان الإنفجاري، فقرأناه يعبث بالأدراج على هواه ويطلق محتوياتها في عراء غنيّ، فيختار مسمّيات جديدة لأقاليمه ومشاهده وأصدقائه: إنه اليوم قبالة زيتون غرناطة الذي ينزّ اللغة العربية ويذرف دموع لوركا، وهو غداً في عباب اللغة اللاتينية التي تلهث مثل كلاب بُنّية في روما، ملقياً التحيّة على نهر الغانج في الهند، أو على تلال النمل في مصر، منتصباً ‘مثل إشارة تعجّب في صفحة بيضاء’، واجماً ‘أمام حباحب لا تكفّ عن إشعال الثقاب’، غامراً ‘بهيم الفضاءات، ليس بالنجم أو بالجذوة أو بالشهاب، بل بالدموع’…
كلّ هذا كان يضيف بُعداً خاصاً، ثقافياً وسياسياً، إلى ولع درويش الفنّي بقصيدة ولكوت، الأمر الذي سيتناقشان فيه ملياً عندما التقيا في قرطبة، بعد سنوات طويلة، ضمن أمسية شعرية مشتركة وحافلة. وفي مجموعته ‘أثر الفراشة’، 2008، في نصّ بعنوان ‘في قرطبة’، سوف يكتب درويش عن ذلك اللقاء، وكيف أبلغ ولكوت أنه الشاعر المفضّل لديه، وكيف تمازحا طويلاً عن الشعراء ‘لصوص الاستعارات’، وعن مغازلة القرطبيات، والحقّ في القــدس، ومعرفة الشعر العربي.
وأستعيد ولكوت، اليوم، بمناسبة مجموعته الشعرية الجديدة ‘طائر البلشون الأبيض’، التي صدرت قبل أيام، كان الراحل درويش سيطرب وهو يقرأ قصائدها بصوت عال، جهراً، كعادته عند قراءة قصائد ولكوت المحببة إلى نفسه، لا سيما تلك الملحمية، والغنائية، والرثائية التي تودّع خواتم العمر على نهج مالك بن الريب، وتلقي تحيات أخيرة، ثاقبة بصرياً وشعرياً وإنسانياً، على المكان والزمان والتاريخ. وإذْ يخطو ولكوت في السنة الثمانين من عمر صاخب، مترع باستجلاء الهوية وجدل البقاء والرقيّ بالفنون، في الشعر والمسرح والتشكيل، يودّع ولكوت بعض أصدقائه بأن يعدهم بـ’تشييد أضرحتهم في الباصرة’؛ ويخاطب نفسه هكذا: ‘كنْ ممتناً لأنك كتبتَ جيداً في هذا المكان/ وتركتَ للقصائد الممزقة أن تحلّق من داخلك/ مثل سرب من طيور البلشون البيضاء/ في تنهيدة ارتياح طويلة أخيرة’.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى