الحجاب: تعدد الأصوات السردية والرؤى في رواية «ثلج» للأديب التركي أورهان باموق
عبدالرزاق القلسي
يظل الحجاب محور التفكير الديني والسياسي في المجتمعات الاسلامية مهما كانت درجة حداثتها وأيا كان تأثيرها في التاريخ الاسلامي. فالكلام عنه لا يكاد يخبو حتى يشتعل من جديد بحسب الظروف المحيطة به، وبحسب الآراء التي تصاغ من حوله سواء من قبل الفقهاء والمحافظين والمتدينين، أو من قبل المتحررين والعلمانيين. هو في الأصل موضوع ديني ولكنه يظل في دائرة بحث علماء الاجتماع والسياسة، بل وأمسى موضوعا روائيا تتحرك في فضائه الشخصيات متقاربة من بعضها البعض أو متباعدة عن بعضها البعض بحسب الموقف الايديولوجي منه ومن تأثيره. وأمام العودة الكاسحة لمظاهر التدين في المجتمعات العربية واكتساح الحجاب للمشهد الاجتماعي والحضري، يبدو أن التجرؤ عليه بالانتقاد، أو بالتشكيك في شرعيته أو بالتحامل على رمزيته أصبح أمرا غير ممكن أو على الأقل أمرا مكلفا بالنسبة لهؤلاء الذين خرجوا عن الوصاية الفقهية والفهم الكلاسيكي في النظر لبعض مسائل الدين الاسلامي.
الحجاب: انقلاب المسار وأيقونة المرأة المسلمة
هناك حركتان نعتقد أنهما لن تتكررا أبدا في هذا الزمن والزمن القادم، حركة المناضلة النسوية المصرية البارزة هدى شعراوي حينما عمدت إلى نزع حجابها على رؤوس الملأ وأمام المجتمع، وحركة الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة ـ في الخمسينيات من القرن العشرين ـ حينما دعا امرأة الى نزع غطاء شعرها و’سفسارها’ وتكلف هو شخصيا بذلك الأمر أمام عدسات الكاميرا. كلا الحركتين محسوبتان ـ في تلك الظرفية التاريخية ـ على تحديث المجتمع والرفع من مكانة المرأة وتحريرها من الأعراف الاجتماعية السائدة والمكبلة لكيانها، ولذلك حظيتا بنوع من القبول الاجتماعي، وأصبح نزع الحجاب وغطاء الرأس علامة من علامات الثقة بالنفس لدى المرأة، ومؤشرا على دخولها إلى الحراك الاجتماعي والفكري والسياسي، بعد قرون من الجمود والتهميش. إن نزع الحجاب في ذلك الزمن تعبير رمزي عن خروج المرأة من الفضاء الخاص الى الفضاء العام، وهو خروج لم يؤسس إلى التصادم مع مقولات إسلامية، بقدر ما كان ناطقا بالمشروعية التي تبحث عنها المرأة في أن يكون لها وجود اجتماعي وكينونة متمايزة عن كينونة الرجل. هي عملية بحث عن الذات في مجتمعات ناهضة وضمن انتظارات وبشائر التقدم والتنوير التي لطالما حرمت منها بدعوى الزامات الحجاب.
نرى الحجاب الآن طال كل الفضاءات وكل أشكال التعبير، مثل السينما والمسرح والرواية، بل ان تحجب الفنانات يعدّ في حدّ ذاته حدثا جديرا بالتّأمّل والنّظر. وعادة ما يقترن تحجّبها باعتزالها أي عودتها مجدّدا إلى الفضاء الخاصّ، وبعد أن تكون قد أوسعت الفضاء العام بكلّ الجرائر والتّهم. هذا الحجاب الذي لم يكن له أي ّوجود يذكر، أصبح الآن فاعلا من فواعل الرواية مثلما هو رمز مثير للجدل من رموز الهويّة، ومؤشّر على الانتماء السّياسي. وفي الرواية العربية تحديدا لا نقف على شخصيات نسائية محجبة، الا لدى الأديب المصري نجيب الكيلاني في روايتيه (عمالقة الشمال) و(عذراء جاكرتا) الصادرتين منذ أكثر من أربعين عاما. وتنتهي الروايتان بنصر المرأة المسلمة، وهذا النصر يتجلى في حدث وحيد، هو ارتداؤها للحجاب، والذي يغدو كما لو كان بيانا سياسيا مبشرا بانتصار الاسلام السياسي، على غيره من التيارات اليسارية والعلمانية التي كانت سائدة في حقب الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين.
إلا أن الوضع أخذ في التغير على مدى العقدين الأخيرين، اذ أصبح الحجاب ظاهرة اجتماعية بعد أن كان ظاهرة استثنائية. وأصبحت النساء من كل الفئات العمرية أكثر إقبالا عليه والتزاما به، وغدا مشكلة حقيقية أمام الأنظمة العلمانية التي نهضت أدبياتها على تحرير المرأة من لباسها القديم، وإخضاع اللباس إلى آليات التحديث والتجديد أسوة بالمرأة الأوروبية، والمرأة بوجه عام في كل أنحاء المعمورة. ولقد بات من المؤكد أن للمرأة المحجبة شخصية وملامح تميزها عن غيرها، ويبدو أن مقاومة الحجاب لم تحقق نصرا إذ تأكد للجميع أن هذا الحجاب لا يمكن أن يشكل عائقا أمام المرأة للحضور الاجتماعي، خاصة لدى الأسر التي انغرست فيها تقاليد العمل والتعليم والثقافة على نقيض النقاب مثلا، الذي نظر إليه باعتباره لباسا يعزل المرأة عن المجتمع عزلا شديدا، ويجعلها كما لو كانت خيمة سوداء، تتحرك في مجتمع تنعدم فيه أدنى درجات التواصل البصري والاجتماعي بين الرجال والنساء، فضلا على أنه يحرمها من الدخول في أي حراك اجتماعي أو سياسي ويحولها إلى كائن بلا وجه وبلا ملامح، وهو ما لا يصلح لكي تكون شخصية اجتماعية، أو إنسانا ذا نفوذ وتأثير، وهو أيضا ما يمنعها من أن تكون شخصية روائية يستوعبها نص روائي. فهامش الحركة أمامها في الواقع وفي الخيال محدود جدا. وعلى الضد من ذلك قد يبدو الحجاب دافعا للمرأة لكي تكون أكثر حضورا في المجتمع وفي التربة وفي العمل وفي المنتديات العامة. انه بهذا المعنى يمكن أن يكون ظاهرة مدينية موصولة بالمدينة وبالحضر، فيما النقاب ظاهرة بدوية وصحراوية وجبلية لا يترسخ إلا في المناطق التي يصبح دخول الأفكار الجديدة والمستنيرة فيها أمرا صعبا أو مستحيلا.
الحجاب كوحدة سيميولوجية ورواية «ثلج»
لكن يبدو أن أكثر ما يقلق القوى العلمانية في العالم الاسلامي ليس الحجاب في حد ذاته، وإنما رمزيته الكثيفة فهو ـ إلى أمد قريب ـ يؤشر إلى الانتماء الصريح الى الاسلام السياسي، كما أن صوت المرأة المحجبة هو صوت انتخابي لفائدة الاسلاميين من دون أدنى شك. وقد تضاعف هذا القلق بتحول الحجاب من رمز إلى أيقونة، لا تعرف المرأة المسلمة إلا به. فإذا ما كانت الأهرامات هي أيقونة مصر، فان الحجاب هو أيقونة المرأة المسلمة. إن المشروع الاسلامي الأصولي ينهض على تثبيت هذه الوحدة السيميولوجية بشكل نهائي عبر كل الآليات المتاحة كالفتاوى والاستشارات الفقهية والخطب الدينية التي تنهض بها نساء، فيما ينهض المشروع الحداثي على فك الارتباط بين هذين البعدين وتحريك المرأة ضمن مدارات أخرى مثل العمل والعلم والإنتاج وليس فقط ضمن مدارات اللباس والهيئة المظهرية أو مدارات الزواج والإنجاب والأمومة.
المرأة المحجبة والشخصية الروائية ذلك هو المناخ الفكري والايديولوجي الذي أنتجته لنا رائعة الروائي التركي الكبير أورهان باموق(‘ثلج) الصادرة سنة 2006، والتي تعبر بجماليات العمل الروائي عن هذا الصراع بين القوى العلمانية في المجتمع التركي، والمستندة إلى التراث الكمالي، وبين القوى الإسلامية الصاعدة في مسألة الحجاب، وفي منزلة المرأة في المجتمع على وجه أعم. تنطلق هذه الرواية بحدث غير اعتيادي، غير مفكر فيه في مجتمعات أخرى: هو انتحار أربع فتيات تركيات بسبب الحجاب. يبدو هذا الحدث ملغزا، إذ كيف يمكن أن تؤدي هذه القطعة من القماش إلى نوع من التفكير الانتحاري، ينشأ في المرأة وضد المرأة في آن؟ ولكن بتقدم الأحداث يستقر التفسير على اتجاه واحد، وهو أنهن أجبرن على خلع الحجاب بعد نفاد صبرهن ومقاومتهن، فكان الانتقام من أنفسهن ومن المجتمع على هذا النحو: الانتحار. يسميهن الكاتب أو السارد بالفتيات ذات الفولارة، لتمييزهن عن غيرهن. وبمجرد أن تحضر هذه الجزئية في عملية التوصيف الروائي للشخصية تغدو المشروع السردي الكامل بالنسبة للكاتب الروائي والسارد على حد سواء.
فالنساء اللواتي لا يلبسن الحجاب لا تشهد علاقتهن بالسلطة والمجتمع أي توتر من أي نوع ، فالدولة التركية في رواية (ثلج) تدعم مركزهن فيما تنظر للمحجبات ـ عبر نموذج شخصية قطيف هانم ـ نظرة لا تخلو من القسوة، ومن الرغبة في مقاومة حضورهن بكل الوسائل الممكنة. لقد انطلق المشروع الروائي في (ثلج) عبر التحقيق الصحافي الذي سعى السيد «كاف» (وهذا هو اسمه في الرواية) إلى إقامته حول انتحار النساء في إحدى مدن الشمال التركي. وتبدو هذه الشخصية مصنوعة من كل المقومات المعبرة عن تركيا الأوروبية. فهو شاعر وصحافي، ويتمتع بصلات قوية مع الصحافة الألمانية، ومع التنظيمات الكردية والإسلامية المعارضة. وفوق ذلك ينحدر في تربيته من أسرة تركية ‘كمالية’ عاشقة للقيم العلمانية والجمهورية التي أرساها كمال أتاتورك على أنقاض الخلافة العثمانية. ولكن في ظل هذا الواقع السياسي لاحظ السيد «كاف» حقيقة أصبحت ملازمة للحراك السياسي التركي في حقبة الثمانينيات مباشرة، بعد الثورة الإيرانية وإلى غاية فوز حزب الرفاه الإسلامي بأول انتخابات تشريعية، وقبل أن تحل الهيئة المنتخبة على أيدي السلطات العسكرية الحاكمة، وهي أن «الرجال يقبلون نحو الدين فيما النساء ينتحرن» (ص 59)، وفي الآن نفسه لا تكف الدولة عن الترويج لأيديولوجياتها العلمانية عبر المقولة الآتية: «إذا نزعت المرأة حجابها فإنها ستحظى في المجتمع بمكانة أكثر أمنا واحتراما» (ص 73)
ويصبح الحجاب هاجسا للدولة وللمعارضة الاسلامية وللمجتمع المدني على حد سواء. فالدولة تحاول أن تعزز موقعها في المجتمع وفي القلوب وفي العقول بالدعاية لنموذج المرأة الأوروبية الجميلة والعاملة والمنتجة. فيما الأحزاب الاسلامية تقابل هذا الخطاب بخطاب مضاد، ينهض في بعض تجلياته على تكفير المرأة التي خلعت حجابها، وعلى تقديس المحجبات أيا كانت فضائل الأخريات. من بين كل المحجبات عمد السارد إلى التركيز على اثنتين مثلما تركز عدسة الكاميرا على حدث مركزي بعينه: الأولى محجبة مجهولة منعت من الدخول إلى الجامعة لمواصلة تعليمها. لم تفلح كل الأوامر في حملها على خلع حجابها. صمدت إلى أبعد نقطة ممكنة. وفي الأخير وحينما نفد صبرها وبلغت معها سادية السلطات التركية حدا لا يطاق، أخذت فولارتها (شالها) وشنقت نفسها في مشهد درامي حامل لأكثر من سؤال.
يمكن أن نقرأ الحدث كيفما شئنا وبحسب نظرتنا إلى الحجاب. أول القراءات تقول: وما ضرها لو انحنت أمام العاصفة، وقبلت وان على مضض بالأوامر مقابل مواصلة التعلم والظفر بالتنوير؟ أما القراءة الثانية فهي ترى في الحجاب أكثر من رمز وأبعد من أيقونة، انه امتداد لتلك المرأة، يرافقها في حلها وترحالها، في قيامها وقعودها، لا يمكن أن تتخيل نفسها من دونه، في المناسبات العامة بل وفي الفضاء الخاص. ويولد احتمال نزعه نوعا من الهستيري، أو من الاكتئاب المؤدي الى التفكير في المناطق القصوى للوجود. هذا الحجاب ـ ضمن القراءة الثانية ـ امتداد لجسد المرأة ووجهها وشعرها. فهو جزء منها تماما مثلما أن الطين جزء من يد النحات، والألوان جزء من يد الرسام. إنه في هذا السياق يجسد الركن السادس في الاسلام، لا بل هو في مقام الركن الثاني أو الثالث. ليس له صلة بشرف المرأة الشرقية وعذريتها فحسب بل بروحها ووجودها وكينونتها.
إن الروائي التركي الكبير أورهان باموق لا يمتلك فحسب الأدوات الفنية في تشكيل عوالم الشخصيات وإنما يمتلك أيضا القدرة على صياغة تحولاتها الفكرية والإيديولوجية المفاجئة. فما يطبع سلوك بعض الفتيات هو التحجب المفاجئ إذ كن ـ مثل الفتاة هجران ـ فتيات مقبلات على الحياة ومترنمات بجمالهن، فإذا بهن ومن دون سبب مقنع يضعن الغطاء على شعورهن ويصبحن مدافعات شرسات عن الحجاب بعد أن كن يصفنه باللباس ‘القروسطي’. ان ذلك ولا شك يزعج الدولة التي لا تنفك تبحث عن النماذج المضادة لهؤلاء المحجبات. ينبغي الاعتراف بأن العثور على هذه النماذج لم يعد أمرا يسيرا كما كان الأمر في العقود السابقة، ومع ذلك فلا بد من العثور على امرأة مثقفة وجميلة يتهدل شعرها على كتفيها ويتموج مع كل هبة ريح. فمع كل امرأة جديدة تتحجب يتولد لدينا الانطباع بأن الدولة تخسر مواقع لفائدة خصومها وخاصة الإسلاميين الذين «يرتفعون بالحجاب إلى منزلة الراية السياسية للمرأة المسلمة في الأناضول» (ص.163)، فالحجاب إذن مسيس، أكثر من الإشارات الأخرى الدالة على الاسلاميين مثل اللحى غير المشذبة، وكذلك خلع الحجاب لا يخلو من تسييس، بل هو في صلب المشروع السياسي والجمهوري الذي نهضت عليه تركيا الحديثة منذ مؤسسها كمال أتاتورك.
الخيال الروائي يجعل المرأة تعيش تجربة الحجاب بقدر كبير من الحرية، بل وباعتباره تجربة شخصية لا تنهض على الفتاوى وعلى الالزامات الفقهية وقواعد السلوك في المدونة الفقهية والسلفية، الحنبلية منها بوجه خاص وإنما على تقدير شخصي وعلى وعي نوعي بالحجاب ومكانته في المجتمع وتحديده لنظام العلاقة مع الرجل والتي هي في الغالب علاقة غامضة وسرية ومفتوحة على كل الممكنات وتستمد جماليتها من الصمت ومن الكتمان. ان لباس الحجاب بهذا المعنى هو شكل من ممارسة الحرية الشخصية ولكن هذا الشكل لا يتسنى له الظهور إلا في مجتمع ديمقراطي يقر بالاختلاف وبتعدد المذاهب. ان المجتمعات الشرقية ـ ومن بينها المجتمع التركي ـ لم تصل بعد الى هذا المستوى من الوعي اذ أنه يرحب بالمحجبة الجديدة كما لو أنها دخلت الى الاسلام حديثا فيما ينظر إلى غير المحجّبة نظرة موسومة باللّوم والانتقاد. أمّا الدّولة فإنّها تنظر بعين الرّيبة إلى المحجّبات خاصة أنّ البيت الذي تؤسسه قد يكون فضاء لتربية الأطفال على قيم الكراهيّة للدّولة العلمانيّة وأدلجتهم في اتجاه أكثر راديكاليّة وتطرّفا. في رواية (ثلج) تتحرّك الشّخوص النّسائيّة بحريّة في مجتمع شرقيّ يشتدّ فيه الصّراع بين القوى الجمهورية والعلمانيّة وبين القوى الإسلاميّة الصاّعدة حول اكتساب موقع المرأة. المرأة هي ‘ساحة حرب’ بين هاتين القوّتين. وتضع الحرب أوزارها بظفر إحداهما بعقلها وقلبها وأيضا وقبل ذلك، بلباسها.
ليست المرأة هي نقطة التبئير الوحيدة في النّظام السّردي والرّوائي فحسب من لدن القوى المذكورة، وإنّما أيضا الأسرة أصبحت هي بدورها مركزا للتّجاذبات وللصراعات الإيدولوجيّة العاصفة. فأسرة درغوث باي تعدّ نموذجا للأسر التّركيّة والعربيّة التي تزدحم فيها الأفكار المتعارضة: فالأب مناضل شيوعي قديم أمّا ابنتاه، قطيف فهي تجسّد نموذج فتاة الإسلام السّياسي، وسيكون لها دور حاسم في بنية الرّواية كلّها سنوضّحه فيما بعد، أمّا أختها إيبك فإنّها تعبّر عن الفتاة التّركيّة الحديثة المثقّفة والعاشقة للسيّد «كاف»، بل وتقبل معه علاقات جسديّة ضمن شروط تحدّدها هي. ففي هذه الأسرة تتعايش ثلاث أيديولوجيات يصعب أن تجتمع في فضاء خاص واحد: الشّيوعيّة، الإسلام السّياسي، والليبراليّة الأوروبّية. وتكمن عبقريّة باموق في أنّه لم ينحز إلى أيّ واحدة منها، وهو ما جعل الحواريّة في روايته ذات مستوى عال جدّا يندر مثله في المتن الرّوائي العربي.
الدّولة أيضا تحشر أنفها في الأسرة ويبدو أنّها تستلهم من التّراث الكماليّ العريق ما تدعم به الرّوح الحديثة في تكوّن الأسر الّتركيّة. وفي رواية (ثلج) تبدو أسرة سنان الزّعيم وزوجته فوندا آزر نموذجا للأسرة التّركيّة الحديثة. فهما يشكّلان زوجا فنيّا ناجحا في الحياة وفي المسرح، وفكرهما قد تشرّب بالتّقاليد الكماليّة الأصيلة التي تبدأ باللّباس الأوروبي، وتنتهي بالإيتيكيت الاجتماعي الغربي. وهذه الأسرة هي التي تدافع عن الجمهوريّة التّركيّة الحديثة، ولأجل ذلك منح هذا الرجل ثلاثة أدوار خطيرة واحد منها سيكلفه حياته: كان له شرف تجسيد شخصية كمال أتاتورك على خشبة المسرح، وهذا الدور يعد بمقاييس المجتمع التركي اعتراف الدولة به وبفنه ما بعده اعتراف. أما الدور الثاني فهو تفكيره في تجسيد النبوة بأسلوب مسرحي وهو ما ألّب ضدّه الرأي العام. أما الدور الثالث فهو تمثيله لمسرحية كتبها هو شخصيا، وسيدعو في إحدى فصولها المحجبة قطيف إلى خلع حجابها أمام الجمهور الحاضر وأمام الشعب التركي المتابع للمسرحية على الهواء مباشرة على التلفيزيون. وهذا الخلع للحجاب سيكون في إطار صفقة سياسية خفية، بموجبها تفوز الدولة بصورة شعر قطيف، وهو يستعيد ألقه وحريته، مقابل العفو عن ملاحقة أبرز معارض سياسي إسلامي كانت قطيف تكنّ له مشاعر خاصّة. إن هذه الصفقة ستمثّل الأساس البنيوي الذي ستنهض عليه الرواية ككلّ، والأساس الايديولوجي الذي يعبّر عن ذروة الصراع بين الكماليين وبين الإسلاميين في تركيا ما قبل حزب العدالة والتنمية، وما بعد الانقلاب العسكري الذي حدث في أوائل التسعينيات.
في الصمت وفي الكلام
تنهض بنية العمل الروائي في (ثلج) لأورهان باموق على حوارية بين الأصوات لا تناظرها ـ في حدود اطلاعنا على المتن الروائي ـ سوى حوارية دستويفسكي في رائعته (الأخوة كرامزوف)، حيث تنطوي تقنية تعدّد الأصوات على معنى تصالب الايديولوجيات، ومواجهتها بعضها لبعض، ضمن سنّة التعايش والصراع. وفي هذه الرواية يمنح باموق المرأة المحجبة المساحة اللازمة لكي تتحدّث. هي إذن عبر ـ نموذج قطيف يلدز هانم ـ صورة لآلاف النساء ممّن اتين الى الحجاب بعد أن تشرّبن بالقيم العلمانية في المدارس والكلّيات. فأمهاتهنّ كنّ ـ كلهنّ تقريبا ـ غير محجبات. ولكّن العودة الكاسحة للتديّن قد غيّر المشهد برمّته فأصبحن يرين في الحجاب رمزا لمقاومة العلمنة، ورسالة للتعبير عن الخصوصية ازاء الغرب والنساء المتغرّبات. هناك وعي خفيّ في انّهنّ يمارسن ـ عبر الحجاب ـ السياسة. فالتحجب هو بلسانها «حدث اسلاموي موجّه ضدّ الدّولة». (ص.170) وبالإضافة الى ذلك فإنّ هناك طريق اللاّعودة أي إلى خلع الحجاب مهما كانت الضغوطات التي ستمارس عليهنّ في العمل وفي الكلية وفي المجتمع.
إنّ حرفيّة أورهان باموق العالية في الصّنعة الروائيّة قد جعلت روايته مساحة مثلى لممارسة الدّيمقراطيّة في مستوى حرّية التّفكير والتّعبير في آن؛. فللمحجّبات خطابهنّ الذي امتدّ على عشرات الصّفحات؛ مثلما أنّ لدعاة العلمانية الحضور البارز والمتوازن في صلب العمل الرّوائيّ، وكلا الخطابين يتطوّران بحسب تطوّر الصراع، وليس وفق رؤية أكاديميّة للحجاب. غير أن ّما يمكن استنتاجه يتمثّل في أنّ باموق قد منح الخطاب للمحجّبات المقتنعات بالحجاب، ولكن أيضا لمن هنّ أقلّ اقتناعا، فقط ارتدينه لأنّهنّ لم يعدن يملكن حرّية اللباس أمام المدّ الاسلامي المتصاعد، ودخول التشادور الايراني على خطّ الموضة المنمّطة والفقيرة الأفكار المفروضة على المرأة المسلمة. وتجسّد هند، وهي الفتاة الجامعيّة، هذا النموذج، فهي لظروف ما غطّت شعرها أسوة بمئات الطالبات ولكنّها لاحظت أنّ هذا الحجاب يقاوم ويقهر في المرأة أعزّ ما تملك، وهي أنوثتها، فهي قد لا تصبح موضوعا للرغبة من جانب الرّجل، مما يخلق تعقيدات نفسيّة رهيبة، كما يتولّد في نفسها شعور بالخوف من هذا الرّجل الذي يبدو أن التربية والأخلاق الفاضلة غريبة عنه. فبالحجاب وبالحجاب فحسب يمكن أن تأمن شرّه وشرّ نزواته. ولأجل ذلك أصبح التفكير في خلعه حدثا شخصيّا عظيم الأهمية أحاطه الروائيّ بكلّ ما يقتضيه من وصف وتحليل.
إنّ هذه الخطوة ـ في مجتمع غير ديمقراطيّ ـ تبدو من الصعوبة بمكان، بل هي خطوة تتطلّب جسارة هدى شعراوي وإقدامها على خلق حالة اختراق في جسد المجتمع ككلّ. مع تأكيدنا على القياس الناقص بين الحالتين. خلع الحجاب يجب أن يكون ضمن طقوس جماعية، كما كان الأمر في ارتدائه. فالحالات الفرديّة مهمّة ولا شكّ بالنسبة للدولة التركية، ولتراثها الكمالي والحداثي، ولكنّ للضّغط الجماعي سحره ومفعوله المباشر. وقد أدركت الدولة ما للمسرح من تأثيرعميق في نشر القيم العلمانية والمثل الجمهوريّة، ولأجل ذلك لم تكفّ منذ الثّلاثينيات عن نقد الحجاب نقدا لاذعا عبر مسرحيات تنتهي كلّها برمي العباءة أرضا، أو بإحراقها أو بتمزيقها إيذانا بتحرّر المرأة، وبوضعها ضمن جدليّة «الوطن أو الحجاب» (ص.217 ). إن النظام العلماني يحاول جاهدا في موفى الألفية الثانية استعادة تلك اللحظة بكلّ الوسائل الممكنة وبكلّ الآليات المتاحة عدا القوّة المادّية لأنّ ‘مجرّد التفكير في نزع الحجاب بقوة الدولة كما كان الأمر في بداية الجمهورية الكمالية لم يعد يخطر ببال أحد، فأقصى ما تفكّر فيه الدّولة ألاّ يقع إجبار النساء على التحجّب بالقوّة أو بالعنف ،كما يحدث في إيران بعد الثورة (ص.217) ولأجل ذلك كان البحث عن النموذج المتكلّم للمحجبات عمليّة مرهقة للدولة ولأنصارها من العلمانيين. انّ ما تبحث عنه الدولة أن يكون خلع الحجاب في المسرح، من قبل فتاة محترمة، محافظة وذات عراقة اجتماعية ونسب يمتدّ الى النسب العثماني الأصيل، لا أن تكون راقصة أو سكّيرة أو عاهرة مجهولة النسب هي التي تقوم بهذا الدّور الخطير.
والواقع انّ المتغيّر الكبير الذي سيحسب له ألف حساب هو أنّ للحجاب لسانا لم يكن له في العقود السابقة بعد أن وجد في الاسلام السياسي نصيرا قويا له، ومدافعا شرسا عنه. ففي رواية (ثلج) يدخل الإسلاميون المسرح، وليس من عادتهم الدخول الى مثل هذه الفضاءات، فقط لإدانة مشهد خلع الممثلة التركية للحجاب الأسود ثم نعتها بكل صفات الكفر والفجور والعلمانية. هناك مشهد في الرواية ناطق بحدّة الصراع بين الرافضين للحجاب وبين المدافعين عنه، وهو ينهض على حركتين، الأولى على لسان ممثلة تقول «لماذا تخلّيت عن الحجاب الأسود… ولماذا تهفو نفسي الى أوروبا حيث الشعوب المتحضّرة والحديثة … متحرّرة من هذا الوشاح، وهذه الفولارة، هذه قطعة القماش رمز التخلّف الذي تسودّ به أرواحنا»، ويكون ردّ الجمهور الحاضر وأكثرهم من الشّباب الملتحي، «وما ذا تنتظرين أنت الآن؟ فلتجري نحو أوروبا من الآن عارية، نعم عارية كما ولدتك أمّك» (ص.223). في العقود السابقة كان الجمهورمن طينة واحدة، الآن أصبح الجمهور منقسما إلى فئتين أو حزبين: العلمانيون من جهة، والإسلاميون من جهة ثانية، ومدار الصراع بينهم سيكون حول شعر الطالبة قطيف هانم وسيتخذ هذا الصراع أبعادا إيديولوجية تبدأ بالحوار وتبادل الرأي في الحرم الجامعي، وفي المنتديات وتنتهي بالعنف والدماء. هذا الصراع لا يمكن ـ مع الأسف ـ أن يكون ديمقراطيا لا من جهة السلطة، ولا من جهة المعارضة الإسلاميّة. فأدبيّة السلطة لا تكفّ ترى في الحجاب رمزا للماضوية وحاجزا يمنعها من التقارب مع أوروبا، فيما الأدبيّات الإسلاميّة لا تكفّ تقرن الحجاب بالشّرف وبالأمومة وترى في كشف الشّعر الكفر البواح. هنا يبدو المسرح كفضاء فكريّ وتربوي المكان الملائم للتبشير بالقيم العلمانيّة والحداثيّة، والحكومات التّركيّة في رواية (ثلج) تدرك أنّ صلة الإسلاميين بالفنون صلة تكاد تكون معدومة، إذ لا وجود للفنون في تفكيرهم وعلاقتهم بالفن. ويبدو أنّهم لا يعترفون بقيمة التربية الجمالية في تكوين الفرد والأمّة، ولأجل ذلك وبسببه تسود صورة نمطيّة للإسلاميين كونهم دائما متجهّمين، ولا تعلو الابتسامة محيّاهم. فيما الابتسامة محرّمة أو تكاد لدى المحجبات اللاتي هن مطالَبات بأقصى درجات الانضباط والجدّية في التعاطي مع الآخرين والأخريات في الفضاء العام.
الدولة التركية ستختار مكان الصراع مع الاسلام السياسي، أي المسرح حتّى يكون الفضاء الذي يشهد إخراجا مسرحيا محترفا ومبرمجا لأهم حدث في الرواية: حدث خلع الآنسة قطيف هانم للحجاب وإلقائه أرضا. هذا الحدث يبدو حقّا مخيفا لكل الأطراف، خاصة اذا ما خرجت حيثيّاته عن السيطرة. ومع ذلك فانّه بالنسبة للدولة يعدّ نصرا ما بعده نصر. ففي تلك الليلة انتظمت عقدة القصّ في حدث هو روح الرواية: خلع قطيف للحجاب، مقابل الكفّ عن ملاحقة الزعيم السياسي لكل التنظيمات الاسلامية الأصولية. في لحظة من اللحظات الدرامية القصوى الواقعة على تخوم المنطقة التي يتقاطع فيها المسرح مع الحياة، النّشاط الفنّي مع الالتزام السّياسي، الموقف الايديولوجي المرن مع الموقف السّياسي البراغماتي، ستتجلّى لنا الآنسة قطيف على خشبة المسرح من دون حجاب أمام الأمة التركية قاطبة، مقايضة شعرها بإنقاذ حياة حبيبها. هذا الاتفاق يحصل بين أطراف المجتمع الواحد تتعايش فوق وطن واحد عريق وذي حضارة ألفية، ولكنّها تنظر إلى بعضها البعض نظرة الشكّ والريبة. وحينما تسود هذه النظرة، تصبح العلاقات مشرعة على خيار واحد، هو خيار العنف. وبالفعل سيتحوّل هذا المشهد الدرامي ـ السياسي الى نقطة تفجير لأقصى العنف، بين رموز أطياف الشعب الواحد، حيث ستخلّ الدولة بالاتفاق بأن تقتل الزعيم الاسلامي، وتتراجع قطيف عن خلع حجابها، بل وتقتل الممثل الذي أدّت معه الدّور، وتنتهي المسرحيّة على مشهد دموي من العنف والصراخ والفوضى، يؤشّر إلى طبيعة المشهد السياسي في تركيا في العقد الأخير من الألفية الثانية.
إن الشخصيات في رواية (ثلج) كلها كائنات سياسية، وعلاقاتها بعضها ببعض محكومة بالبعد السياسي. فالشخصيات الاسلامية ليست شخصيات دعوية، بل هي تمارس تنظيم الفعل السياسي، والشخصيات الكمالية تسعى إلى الحفاظ على مواقعها، باعتبار أنّ في ذلك حفاظا على الدولة، وتأكيدا على ‘تحضّر’ الشعب التركي. فيما لا تكـفّ بقيّة الشخصيات عن البحث عن ذاتها في ذروة الصراع الايديولوجي الذي اتّخذ من الحجاب وفي الحجاب عنوانا له. والواقع أنّ فرادة هذه الرّواية تكمن أيضا في هذه الاقتدارات الفكرية الفائقة التي اتصف بها أورهان باموق والتي تذكّرنا بالكاتب الروائي الخالد الذكر نجيب محفوظ ، فروايته فضاء تلتقي فيه الأفكار الكبرى والرّؤى المتعارضة. هي، بهذا المعنى، نصّ أو بيان ديمقراطيّ لكلّ من يهمّه الأمر: للإسلاميين، للماركسيين القدامى، للحداثيين، للمحجبات وللمستنيرات على حدّ سواء.
الرواية فضاء ديمقراطيّ
اننا نعتقد أنّ أورهان باموق ـ وهو يكتب رواية (ثلج) ـ لا بدّ أن يكون قارئا ممتازا للرّوائي الروسي ‘دستويفسكي’. فالخيال الروائي قد سمح بما لم يسمح به الواقع، أو يسمح به الإعلام. لقد سمح بأن تلتقي الايديولوجيات وتتحاور من دون تحديد سقف لحريتها. إن الرواية ـ في هذا المعنى ـ أكثر تعقّلا من الواقع، وأكثر حلما بالزمن الديمقراطي الذي ـ فيما يبدو ـ ستنعم به تركيا قريبا. لقد منح باموق للاسلام السياسي كل المجال اللساني والفكري للتعبير عن نفسه. فهناك صفحات يتوقّف فيها السّرد والوصف، ليحلّ محلّهما الخطاب السياسي الاسلامي بكلّ قوّته وعنفوانه وبكلّ طموحاته في تغيير العالم، وفق الرّؤية الاسلامية للحياة وللمرأة. وهذه الرّؤية مطبوعة في الغالب بنوع من الحنبلية التي لا يتّسع أفقها لاحتواء المخالف وللضدّ وللهامشيّ في كلّ الموضوعات، وخاصّة في موضوع حجاب المرأة. هناك راديكالية توصف بها التنظيمات الاسلامية وهو ما يجعلها ـ وهي تبلغ صوتها وخطابها – تبدو كما لو كانت تحاور نفسها في مونولوغ لا نهائيّ. ففي حديثه مع السيد «كاف» الذي هو الشخصية الرئيسية، يبدو الزعيم الاسلامي كما لو كان يحيا في جزيرة معزولة، لا تقبل التأثير. وهو لا يستحضر العلمانيين إلا في أشنع صورة ممكنة، والمبنية على ثوابت ثلاثة وهي: الإلحاد، والتغريب، ونفي الحجاب. الآخر بالضرورة تغريبي، يضمر الشرّ للإسلام، ويخطّط لكشف شعر المرأة المسلمة. فليس هناك قيم مشتركة ممكنة تمثّل فضاء للفعل الثّنائي، إلا أنّ الرّوائي التركي الشّهير قد قدم هذه التنظيمات الاسلامية وهي تشتغل تحت الأرض. فهي ممنوعة من العمل العلني، وتصدر صحفا وبيانات سرّية، رغم الثّقل التنظيمي والسّياسي الذي تحظى به في المجتمع، وفي الجامعات العلميّة بوجه خاصّ.
والواقع أنّ الاسلام السياسي ليس هو فحسب الممارسة الدينية الوحيدة في تركيا، بل انّ الدولة التركية تسعى إلى إحياء الاسلام الصوفي في التكايا والمساجد والأضرحة. مستلهمة من التراث العثماني العريق ما يعزّز حضورها في أكثر المواقع تديّنا. وقد كان الشّيخ صفيّ الدّين في رواية (ثلج) نموذجا لهذه المدرسة في التدين. إن المؤكّد أنّ الدولة تنتصر وتنحاز لحلقات الصوفية، باعتبار أنّ التصوّف حركة غير سياسية. ويبدو أنّه في تركيا يوفر أجواء روحية خالصة، ويلبّي في المجتمع التركي والمشرقي حاجته وأشواقه نحو الماوراء. وإذا ما كانت علاقة الدولة العلمانية بالحلقات الصوفية قوية ومتينة، فان علاقة التنظيمات الاسلامية بها معدومة. فأحد الطّرفين قد أصدر حكمه على الآخر. إن ما نستوحيه في رواية ‘ ثلج’ أنّ الاسلام واحد ومتعدّد وهذا ما يفسّر في تقديرنا حيويته البالغة في المجتمعات الشرقية. الاّ أنّ المتغيّرات السياسية قد منحته أفقا جديدا. فالإسلام هو بامتياز دين موصول بالشأن السياسي ومنخرط الى أبعد الحدود في السجال من أجل السلطة والمجتمع والمرأة. ان ما يشير اليه باموق يتمثل في خطورة ألاّ يستوعب العقد الاجتماعي تلك التنظيمات الاسلامية وأن تظلّ تعمل تحت الأرض. فإلزامها بالعقد الاجتماعي هو تجريدها مما توصف به أي من العنف ومن الاحتجاج ومن التكفير. إننا نرى أنّ موجة التدين قد عمّت الفضاء الاسلامي والفضاء المسيحي على حدّ سواء. وأصبحت له أشكال مظهرية لا تخطئها العين، ويمكن اعتبار الحجاب المظهر الأقوى والمنمّط بالنسبة للمرأة. ويبدو لنا أنّ باموق لم يشر إلى أيّ تحامل او انتقاد له، بل قدم الأفكار المناصرة والمعارضة له في سجال على امتداد الرواية كلها. ولكن يستوقفنا موقف إحدى الشخصيات وهو درغوث باي أبو قطيف وهو ماركسي قديم بقوله «إننا بحاجة إلى تدين مرن ومعتدل». هو الاسلام المعتدل، سواء لبست المرأة الحجاب أم لم تلبس، التحى الشباب ام لم يلتحوا. و قد سعى هذا الأب إلى ممارسة هذا الاعتدال في بيته ومع بناته رغم الاختلاف بينهم.
وصفوة القول أنّ هذه الرواية لا تحيل إلى ظاهرة الحجاب في التسعينيات فحسب، وإنما الى مستقبلها في المشهد الحضري والاجتماعي. هناك وزير مثقف قال إن النساء غير المحجبات لما كن يملأن الفضاء الاجتماعي، كنّ كالورود المفتّحة. ونعتقد أنه لو واصل كلامه لقال: إنهن الآن كالورود التي لا تنفذ اليها أشعة الشمس. لقد أثار كلامه موجة من المعارضة لم تخب بسهولة، فيما يرى آخرون أن للحجاب جماليته التي لا يمكن إنكارها. وقد يكون أضفى على المرأة ملمحا جديدا. يبدو أنّ الحجاب سيواصل اكتساحه لشعر المرأة، وإن بإيقاعات مختلفة. أمّا غير المحجبات فقد يصبحن في مجتمعاتنا أقلّيات، وربّما أقلّيات مضطهدة من قبل المجتمع، ومن قبل المحجبات. كما كانت المحجبات مضطهدات قبل عقدين أو ثلاثة. النساء اللاتي يتمسكن بحقهن في عدم الالتزام به يتبوّأن مناصب رفيعة في المجتمع، وهنّ ينتمين إلى النخب المميزة، مما يجعلهن صامدات أمام الانتقاد والمحاصرة من النساء قبل الرجال. إنهن يصبحن متفردات في زمن يعمّ فيه التّماثل. ومن يدري فقد يأتي المثل الحسن منهنّ.
صفاقس ـ تونس
http://alkalimah.net/article.aspx?aid=176