الترجمة باعتبارها استضافة: عن ‘معجزة القديس أنطوان’ لموريس مايترلينك
عبد المنعم الشنتوف
كان عليّ أن أعثر على فصل في سيرة ذاتية للشاعر الفرنسي بول فرلين يشير إلى صداقة جمعته بشاعر وكاتب مسرحي بلجيكي اسمه موريس مايترلينك لكي يحتد فضولي. كان ذلك قبل عشر سنوات وكنت قد قررت الاستقرار نهائيا في بلجيكا. لم أكن أعرف قبل ذلك التاريخ من الأدب البلجيكي غير الكاتب العظيم جورج سيمنون، وذلك لاعتبارات لها تعلق باضطرار الأدب البلجيكي المكتوب باللغتين الفرنسية والهولندية إلى التعبير عن فرادته بلغتين كونيتين ارتبطتا بكيفية وثيقة بمصير شعبين عظيمين . أتاحت لي معرفة مايترلينك بالإضافة إلى توسيع أفقي المعرفي والجمالي تحقيق الوعي بالثراء الذي يميز العمل في المستوى الموضوعاتي والاختيارات الجمالية. وجدتني منجذبا إلى السمة المميزة لهذه التجربة والتي تتحدد في اختيار التعبير عن مضمون ذي ارتباطات وثيقة بأصوله الفلامانية باللغة الفرنسية. ينبغي التنويه في هذا الخصوص بالحقيقة التي مفادها أن الكاتب كان على وعي بالصراع اللغوي الذي تعرفه بلجيكا، وقد التزم في هذا الخصوص بموقف متميز برفضه لأية شوفينية أو وثوقية لغوية وبتوقيعه عام 1921 على بيان يرفض إسباغ الطابع الفلاماني على جامعة غاند التي كانت إلى حدود ذلك التاريخ فرانكفونية.
كشفت قراءاتي الأولى لموريس مايترلينك عن روح متمردة تهدف في المقام الأول إلى الاحتفاظ بمسافة فاصلة بينه وبين تراتبية معينة مسبقة من القيم والمعايير والرؤى. وسوف يكشف في سيرته الذاتية الموسومة ‘فقاعات زرقاء: ذكريات سعيدة’ عن مواقفه النقدية حيال النظام البيداغوجي للكنيسة باعتبار قضائه لجزء من تعليمه في مدارس اليسوعيين التابعة لها علاوة على بعض العوائد والأعراف السائدة في المجتمع الفلاماني. وهو يروي في السياق ذاته معارضته لإرادة أبيه الذي كان واحدا من كبار الملاكين في مدينة غاند بعد حصوله على لقب دكتور في القانون. وكانت المحصلة قراره السفر إلى باريس بذريعة صقل معارفه القانونية ليبدأ تسكعه بين الأحياء والمقاهي التي كان يرتادها الأدباء الفرنسيون. سوف يرتبط بصداقات مع شعراء وكتاب مثل فيليي دو ليسل آدام وستيفان مالارمي وبول فرلين. وكان من البدهي أن يترتب عن هاته اللقاءات والمسامرات التي كانت تمتد إلى الساعات الأولى من الصباح احتداد وعيه النقدي حيال نظام القيم والأعراف والمعايير السائدة في مسقط رأسه بالفلاندر. كانت مغامرة الكاتب قد أعلنت عن حضورها والحالة هاته بكيفية لا تقبل الجدل.
لقد درجنا في الغالب كلما قاربنا إشكالية الترجمة على طرح هذا السؤال: ما هي العلل التي تحثنا على اختيار ترجمة أعمال كاتب بعينه؟ ينبغي أن أشدد في هذا المعرض على أن لهاته العلل تعلقا قيما يخصني بما هو ذاتي وترتبط في المقام الأول والأخير بانجذاب خاص نحو الهجنة واستلزاماتها. لا يمكنني في هذا المقام أن أفصل تصوري الخالص لفعل الترجمة عن انشغالي بالحث عن أواصر قربى بين الثقافات والاحتجاج لفكرة قابليتها لمجاوزة سياقاتها الأصلية والحضور في سياقات مغايرة. أستند في هذا الخصوص إلى التصور الهرمنوتيقي للترجمة وخصوصا ذاك الذي دافع عنه هانس جورج كادامير وبول ريكور كي أبرز العلل التي حدت بي إلى ترجمة مسرحية موريس مايترلينك ‘معجزة القديس أنطوان’. نلمس في هذا التصور زواجا سعيدا بين الترجمة والاستضافة، علاوة على تلكم الرغبة في مجاوزة غرابة العمل الأدبي واستشراف الألفة معه. ويجلي الفيلسوف بول ريكور دلالة استضافة كاتب معين وبعضا من تحققاته النصية بقوله: ‘إن لذة الإقامة في لغة الآخر تعوضها لذة استضافة كلام الغريب عندك وفي محل إقامتك’. وسوف يقدم موريس مايترلينك المثال الجلي لذلك عام 1891 عندما عمد إلى ترجمة كتاب الصوفي الفلاماني جان دو ريسبروك الموسوم ‘مباهج الأعراس الروحية’ من الهولندية إلى الفرنسية.
يمكنني القول في هذا الصدد إن اختياري ترجمة مسرحية ‘معجزة القديس أنطوان’ نابع من رغبتي في الاحتفاء بألفة بدأت تتقوى باطراد بفعل قراءاتي المتواترة للكون الإبداعي لهذا الكاتب. وسرعان ما حصل عندي اليقين بأن هذا العمل المسرحي يستجيب لبعض من توقعاتي. ثمة بالإضافة إلى الهجنة المشار إليها آنفا استعمال دال للسخرية اللاذعة بغرض إماطة اللثام عن مظاهر السلب التي تسم تراتبية القيم والأعراف والرؤى إلى العالم الخاصة بالبورجوازية الفلامانية التي كان ينتمي إليها. يعبر مكون الانتهاك عن حضوره في هذا النص المسرحي من خلال الركون المطرد إلى المحاكاة الساخرة الراشحة بجرعات قوية من الهزل الفاضح لشخصية القديس أنطوان وأفعاله. سوف يقتحم المنزل البورجوازي الواسع والعتيق لكي يبعث الحياة في جثمان مالكته الآنسة العجوز هورتنس. وسوف يفلح في مهمته السماوية، لكنه سرعان ما يلفي ذاته مضطرا إلى أن ينزع عنها القدرة على الكلام؛ لأنها أتت فعلا متعاليا وصفيقا حياله حين نعتته بالمتسول والقذر. يفصح التطور الدرامي لهذا النص عن شخصيات حلت بالمنزل العتيق بهدف المشاركة في الغذاء الجنائزي وتتصرف تحت تأثير الجشع والنفاق والعنف. وسوف يتم إيداع القديس أنطوان، الذي أفصح على امتداد الفصل الأول من المسرحية عن بعده القدسي، السجن بتهمة ارتكاب جريمة في حق الآنسة هورتنس. لقد أتاح المزج بين المأساوي والهزلي إسباغ دينامية خاصة على هذا النص الجميل تنأى به عن أي تأويل متسم بأحاديته ووثوقيته.
تستلزم استضافة ‘معجزة القديس أنطوان’ في الكون الرمزي والثقافي للغة العربية اعترافا بقابليتها لمجاوزة ارتباطاتها الأصلية ومعانقة سياقات ثقافية واجتماعية وتاريخية مغايرة من حيث الأسئلة وطبيعة الخبرات والتوقعات الجمالية. ينبغي التنويه في هذا الصدد بأن القيم التي يدافع عنها النص أو ينتقدها تتمتع بطابعها الكوني وتجذرها في كل الآداب والثقافات وفي مقدمتها تلك المكتوبة باللغة العربية. تتعالى الموضوعات التي يقاربها نص ‘معجزة القديس أنطوان’ من قبيل الجشع والنفاق والعنف عن أية تحديدات ذات طبيعة سوسيو ثقافية وتاريخية. أعترف فيما يخصني بأنني لم أكن منشغلا بسؤال الانسجام المزعوم للنص المسرحي مع السياق الثقافي العربي، إذ كان أكثر اهتمامي منصبا على الخلوص إلى ترجمة تستضيف بشكل جيد نسبيا نص ‘معجزة القديس أنطوان’ في الكون الثقافي للغة العربية ودون أن تسيء إلى صورته في سياقه الإبداعي الأصلي.
هل يكون في مقدوري الحديث في هذا المعرض عن صعوبات اعترضت ترجمتي لنص ‘معجزة القديس أنطوان’ إلى اللغة العربية؟ ينبغي التنويه بأن الترجمة فعل يتسم بجسامته ويستلزم في المقام الأول والأخير حضورا قويا للذات وأسئلتها وخبرتها وانتظاراتها. ولا ننسى في الآن نفسه تلك المماثلة الشهيرة بين الترجمة والخيانة؛ وهو ما يضاعف من تعقيد مهمة المترجم. تستلزم الخيانة المزعومة على وجه التخصيص حتمية استشراف التماهي المطلق مع النص الأصلي؛ وهو ما يعتبر فعلا مستحيلا. أستند في هذا المقام إلى التصور الهرمنوتيقي الذي يدعونا باسم الضيافة اللغوية إلى مقاومة سراب القدرة الشاملة والمتمثل في وهم الترجمة الكاملة التي تتيح الخلوص إلى نسخة مطابقة للأصل . يمكنني أن أؤكد بالاحتكام إلى تجربتي مع نص ‘معجزة القديس أنطوان’ أن هاجس إبداع ترجمة تكون نسخة مطابقة للأصل لم يكن حاضرا على الإطلاق، ذلك أنني كنت في آن واحد واعيا بالاختلافات البديهية الكائنة بين النسقين اللغويين والثقافيين وبالمبدأ الرئيسي المتمثل في كونية العمل الأدبي وقابليته لاستشراف آفاق ثقافية مغايرة.
لا يسعني على سبيل الختام ادعاء الاطراح المطلق لقناعاتي ورؤيتي إلى العالم وخبرتي الجمالية حين ممارستي لفعل الترجمة / الاستضافة. ولا أملك غير التشديد على هذا المبدأ فيما يهم تجربتي المتواضعة والمرتبطة بترجمة ‘معجزة القديس أنطوان’؛ إذ لم يكن لي من غاية غير استضافة هذا النص المسرحي القوي الذي أمتعني بثراء عوالمه الممكنة وبنائه وشخوصه علاوة على نزعته الإنسية العميقة.
المقالة في الأصل مداخلة شاركت بها في ندوة ‘حين لا تكون الترجمة خيانة’ التي نظمها قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة بروكسيل يوم 30 نيسان ( أبريل) الفارط. يتعلق الأمر بطبيعة الحال بالنسخة العربية للصيغة الأصلية باللغة الفرنسية..
كاتب من المغرب يقيم في بروكسل
Marc Quaghebeur. Cr’ation et m’moire, in Maurice Maeterlinck. Le Miracle de Saint Antoine. Editions Labor. Coll. Archives du Futur. Bruxelles. 1991.
Richard Kearney. Vers une herm’neutique de la traduction, in Paul Ricur’: De lhomme faillible ê lhomme capable. Ed. Puf. Coll., D’bats. 2008. P, 162.
Ibid. p, 162.