هاجس السلطة والعنف في الفيلم الألماني “الشريط الأبيض”
ليندا حسين
من المجحف تلخيص فيلم “ميشائيل هانيكه” الأخير “الشريط الأبيض” بأنه توصيف للظروف المجتمعية التي مهدت لظهور الفاشية الألمانية، فبهذه المقولة لا يتم فقط تضييق أفق الفيلم بل تخييب أمل مخرجه ومؤلفه الذي حاول في كل حوار أجري معه أن يصرف النظر عن التأطير التاريخي للفيلم إلى مشكلة إنسانية أبعد، بل إن هانيكه كرر أن الفيلم يصلح نموذجا لتصوير البيئة المؤهبة للإرهاب في أي بلد إسلامي أو أن يكون إطارا لحكاية عن مآل النظم الشيوعية حين تحولت إلى مجرد شعارات وإيديولوجيا. الفيلم بغض النظر عن هذا الهوس السياسي والإيديولوجي للصحافيين والنقاد عربا أو أوروبيين، هو حكاية عن القسوة والألم وغربة البشر. شخصياته مبنية بحساسية عالية عبر مشاهد أخاذة، وأسئلة وجودية موجعة. شاعرية ومحبطة.
رغم طول مدة الفيلم والإرهاق الذي يتسبب به إلا أن هناك اقتصادا في إنجازه، سواء في عناصر المشهد الواحد أو في الحوار أو في الحدث. إنه يخفي أكثر مما يظهر. شخصياته تصمت أكثر مما تفصح. ممرات موحشة وأبواب مغلقة وأزقة بالكاد يعبرها بشر. في مشهد الموت ستظهر نصف جثة لامرأة وظهر زوجها العجوز يبكي قربها في السر: نصف المشهد مغيب ونصفه الآخر حاضر. الأطفال يُضربون في غرف لن تدخلها الكاميرا، والجرائم لن تعرف تفاصيلها. قسوة ربما لا يرغب أحد بملاحقة جذورها ولا إكمال صورتها، لتبقى سؤالا معلقا وقضية مؤجلة غير مرغوب بتداولها. القسوة هنا لا تخص فقط مجتمع القرية. هناك قسوة الطبيعة والوجود حيث سؤال الموت ووطأة التعرف عليه في مشهد مؤثر لطفل يعيد سؤاله ويكرر: “كل، كل الناس ستموت؟؟”، وحين تتكرر الحقيقة على مسامعه بشكل غير قابل للشك يلقي صحنه أرضا في احتجاج علني، لكن ضد من؟
أصوات كثير من الشخصيات غائبة أو مغيبة، وهي الشخصيات التي يمارَس عليها القمع والعنف بشكل دوري وآلي وكأنه سيرورة طبيعية للحياة، في حين حضر دائما صوت السلطة عاليا ومسموعا. صوت البارون وهو يتوعد القرويين. صوت القس المتسلط. صوت الفلاح العجوز وهو يصرخ بابنه الشاب. ثم صوت الطبيب وهو يحطم بكلامه وقسوته كرامة المرأة التي تحبه. أما صوت الراوي فسيأتي متأخرا، من زمن آخر بعد مرور سنوات طويلة على تلك الأحداث.
حكاية الفيلم ليست جديدة ولا مبتكرة لا في السينما ولا في الأدب. فعنف الأطفال واستعدادهم لارتكاب الجريمة متى تهيأ المناخ لهم كان مادة إلفريده يلينيك في روايتها “المستبعدون” المأخوذة عن قصة حقيقية لجريمة قتل مروعة جرت أحداثها أواخر خمسينيات القرن الماضي في العاصمة النمساوية، حيث عرضت الرواية لعلاقات أسرية مرضية تحكمها سلطة الأب المطلقة وصمت الأم المكسورة. وقد تناولت “يلينيك” في روايتها هذه ذيول الآباء النازيين على جيل مابعد الحرب في حين تناول هانيكه في “الشريط الأبيض” ذيول العلاقات الأبوية على الجيل الذي حضن النازية فيما بعد. الروائية الفريده يلينيك هي مواطنة هانيكه وصاحبة “عازفة البيانو” التي أخذ عنها هانيكه فيلمه الشهير. فيلم “عازفة البيانو” لا يبتعد كثيرا عن “الشريط الأبيض” من حيث تناولة لسلطة الآباء على الأبناء ووطأة التربية المحافظة. هناك سمات كثيرة في “الشريط الأبيض” تتقاطع مع سرد يلينيك الموسوم بعوالمه القاسية وشخصياته الخشنة الفجة، وإيقاع أحداثه البطيء. فيه تبدو العلاقات الأسرية باردة محكومة بالظروف الاقتصادية والاجتماعية. وهذه عوالم ستتكرر أيضا في رواية يلينيك “العاشقات”.
موضوعة السلطة والعنف كانت قد طرحت أيضا وسابقا في الفيلم السوري “صندوق الدنيا” لأسامة محمد 2002، وقد تم فيه تصوير عائلة معزولة في ريف بعيد، وتناول الفيلم جذور العنف عند الأطفال وسطوة السلطة في تأسيس عوالمهم باستخدام إضاءة شديدة الخصوصية ساهمت كثيرا بتشكيل هوية مكانية وزمانية للفيلم بعيدا عن أي ذاكرة أو ربط يمكن أن يقوم به المتلقي. الصبي في فيلم أسامة محمد قام بتقطيع ألسنة الطيور وحبسها وتعذيبها، وقد صوره الفيلم دائما على هيئة مرجل على وشك الانفجار. الشخصيات معزولة في “صندوق الدنيا”، وظلت تحيا عزلتها طوال الفيلم وربطها بالعالم الخارجي خيط واه عبر شخصية وحيدة غابت ثم عادت لتجلب للمعزولين عوالم “الخارج” بهيئة خطبة مطولة وغريبة عن الحرب.
العصافير ـ مسجونة في الأقفاص ـ ستظهر أيضا في فيلم هانيكه. والفيلم كان قد طبع بالأبيض والأسود في رغبة من مخرجه لتحييد وتغريب المتلقي عن عوالم الفيلم ما أمكن. ابنة القس التي تتعرض يوميا لفظاظته وعنفه ستفرغ حقدها بذبح العصفور السجين بمقص والدها وترك جثته المذبوحة على الطاولة، والقرية الألمانية ظلت أيضا معزولة طوال الفيلم عن العالم الخارجي الذي لم يحضر إلا بهيئة أخبار عن الحرب.
الموضوع الذي يعالجه “الشريط الأبيض” ليس جديدا، إلا أن هانيكه قد طعم الحكاية بغموضه وألغازه التي نقلها حرفيا عن فيلمه الفرنسي السابق “مخفي”. المخرج النمساوي يشرح أنه إنما يفعل هذا كي يترك فسحة لخيال المشاهد وهذا برأيه شيء ممتع في الفن. وقد يختلف المتلقي في الرأي مع هانيكه، فجرعة الإثارة التي تسببها حيله تنافس أحيانا في نفورها الموضوعة الرئيسية لأفلامه. وإذا كان هانيكه قد أراد للغموض أن يكون قالبا لأعماله فإن هذا القالب أحيانا يربك المتلقي ويشوش على مقولة الفيلم كما حصل بشكل حاد في فيلمه “مخفي” وبشكل ألطف في عمله الأخير “الشريط الأبيض”.
ليندا حسين
كاتبة سورية
خاص – صفحات سورية –