انتفاضات الخبز في مقابل الثورات المخملية
مازن كم الماز
اتخذ الحراك الجماهيري في مجتمعاتنا أشكالا مختلفة , لكن أبرزها كانت انتفاضات الخبز التي اندلعت منذ أواخر السبعينيات إلى أواخر الثمانينيات ملقية بظلالها على تطور الأنظمة الحاكمة و سياساتها , أما الشكل الأكثر حداثة و الذي يعود إلى فترة صعود الموجة النيوليبرالية أو تمددها خارج مجالها الحيوي المتمثل في الدول الرأسمالية المتقدمة و الذي اقتصر عمليا في منطقتنا على لبنان ( انتفاضة الاستقلال ) و إيران هو ما جرى التعارف على تسميته بالثورات المخملية . من الواضح أن هناك فارق رئيسي بين الشكلين يعود إلى الخلفية الطبقية للقوى التي تقوم بها و للأسباب التي تستفز كلا منها . ليس هذا فقط بل يمكن التأكيد أن كل انتفاضات الخبز دون استثناء كانت عفوية تماما , كانت نتاج اندفاع الجماهير لتتخلى عن سلبيتها السابقة و تنزل إلى الشارع , بينما كانت كل الثورات المخملية بلا استثناء مخططة سلفا من قبل نخب سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية بهدف تحقيق غرض محدد , غالبا ما كان إيصال تلك النخبة إلى السلطة , و حالما تنجز هذا الهدف كانت النخبة ذاتها التي خططت لها تعلن انتهائها على الفور . ينحصر هدف الثورة المخملية في إنتاج رأس جديد للنظام , لكن هذا لا يعني أن الثورات المخملية لم تكن ثورات جدية , ففي صربيا و لبنان مثلا أدت إلى انقلاب حقيقي في رأس النظام و سياساته . و هي رغم ذلك تبقى ذات تأثير محدود و قصير الأمد في نفس الوقت , إنها أكثر من ذلك لا تشير إلى تصاعد جدي في مزاج الجماهير الثوري بل إنها تشير إلى انتقال مركز الثقل من نخبة لأخرى بفعل عوامل مختلفة , كما أن قدرة النخب على تجييش كتلة هامة من الطبقة الوسطى ( أو البرجوازية الصغيرة و هي القوة الأساسية في الثورة المخملية ) قام على العامل الطائفي في الحالة اللبنانية و على مجموعة عوامل منها المادي و منها قيام تحالف غريب بين جزء من البرجوازية الموجودة في النظام ( موسوي – رفسنجاني – خاتمي – كروبي ) و التي كانت حتى وقت قصير تحتل مراكز حاسمة فيه و بين خطابات الموجة النيوليبرالية التي استخدمت لتحشيد البرجوازية الصغيرة في الحالة الإيرانية . هل استنفذت الثورات المخملية دورها و إمكانياتها ؟ يمكن الجواب بنعم استنادا إلى العزلة التي تعانيها النخب المرشحة للعب هذا الدور في الدول العربية الكبرى كمصر و سوريا و دول المغرب العربي و محدودية تأثيرها ليس فقط على الجماهير العريضة بل على البرجوازية الصغيرة نفسها ( بينما كان قسما هاما من البرجوازية الصغيرة الإيرانية يقع تحت تأثير شعارات الموجة النيوليبرالية رفضها أكثرية فقرءا الريف و ضواحي المدن و بقوا تحت تأثير الشعارات الشعبوية لخطاب أحمدي نجاد و كان شيئا مشابها قد جرى أيضا في فنزويلا عندما حاولت النخب الاقتصادية المعادية لنظام تشافيز القيام بثورة مخملية ضده ) و تضاؤل أهمية هذه الطبقة عدديا و سياسيا و حتى اجتماعيا في هذه الدول أمام الحضور الطاغي للجماهير الأكثر فقرا و الذي يمنحها , حتى بموقفها السلبي فقط , تأثيرا أكبر في مجرى الأحداث ( نسبة البرجوازية الصغيرة إلى الجماهير الأشد فقرا أقل بكثير في مصر منها في لبنان ) , إضافة إلى عودة المسألة الاجتماعية بقوة أكبر على جدول الأعمال .
انتفاضات الخبز
إن انتفاضات الخبز هي الشكل النضالي الذي أبدعته الجماهير العربية للجم نهب الأنظمة المنفلت و إعادة التوازن للتوزيع غير العادل للثروة , كما أن طابعها العفوي ( حتى شعب مسيس بدرجة عالية كالشعب الفلسطيني فجر بشكل عفوي تماما انتفاضتين كبيرتين ) لا يقلل من أهميتها , إنها هزة جدية لمجمل النظام السياسي و الاقتصادي , إنها لا ترقى إلى ثورة اجتماعية لكنها تركت رغم آنيتها تأثيرا أعمق و أبعد في الحالة السياسية خاصة في بنية النظام الحاكم و سياساته . لقد كشفت انتفاضات الخبز عن عمق الأزمة و التهديد الجدي بتحويل سلبية الشارع في مواجهة سياسات الأنظمة الحاكمة إلى مقاومة فعالة . بعد انتفاضة يناير 1977 سرع السادات من وتيرة التفاوض على صفقة معاهدة السلام مع إسرائيل و زاد بالتالي من توطيد علاقاته بالولايات المتحدة و النظام الرأسمالي العالمي , بعد هبة نيسان 1989 في الأردن سيختار الملك حسين إعادة النظام البرلماني و سيتخذ النظام الجزائري نفس القرار بعد انتفاضة الخامس من أكتوبر 1988 و سيتخذ الملك المغربي نفس الإجراءات في بلده بعد انتفاضة جانفي 1984 بعد مماطلة و بحذر شديد و ستفتح انتفاضة 1984 في تونس الطريق أمام تغيير من أعلى يقوده زين العابدين تحت شعارات الدمقرطة و الإصلاح . اكتشفت الأنظمة العربية أن التغيير المحسوب من أعلى أقل كلفة من تغيير مفروض من الأسفل , و تكفلت الحياة البرلمانية و المشاركات المؤقتة في الحكومات المتعاقبة بتدجين النخب و مشاركتها النظام في مسؤولية القرارات خاصة أكثرها لاشعبية
انتفاضات الخبز القادمة
إن تفاقم أزمة الرأسمالية العالمية من جهة و الأنظمة الحاكمة على اختلافها و تصاعد النضال المطلبي و الجماهيري في العالم وصولا إلى مجتمعاتنا يشير بقوة إلى أن فترة نجاح هذه الأنظمة في احتواء عوامل السخط الجماهيري تقترب من نهايتها . استنادا إلى وضع هذه الأنظمة اليوم فإن الانتفاضات القادمة ستكون أكثر جذرية و تأثيرا , لأن الأشكال الصورية الجوفاء من الديمقراطية الشكلية التي أقامتها الأنظمة منذ أكثر من عقدين بعد موجة انتفاضات الخبز الأولى تقترب من استنفاذ كل إمكانياتها في تدجين الجماهير مما يجعل هامش مناورتها على صعيد تعديل بنيتها شبه معدوم ( ليس أمام هذه الأنظمة سوى الحركات الإسلامية بما تمثله من شعبية حقيقية في الشارع خاصة الأكثر فقرا , طالما أن هذه الأنظمة استندت طويلا إلى ساقها اليمنى * قبل أن تقوم في الثمانينيات و التسعينيات بنقل ثقلها إلى قدمها اليسرى , ربما حان الوقت للعودة من جديد للاستناد إلى القدم اليمنى و ستلعب هنا نواقص هذه الحركات الإسلامية التي تكاد أن تتطابق مع نواقص النخب و الزعامات “اليسارية” من إيمان بالحراك الفوقي و مرحلية التغيير و الخوف من نشاط الجماهير المستقل لتسهل عملية توظيفها من قبل هذه الأنظمة كما جرى مع النخب اليسارية من قبل ) , كما أن هامش مناورتها فيما يتعلق بالسياسات الاقتصادية محدود جدا أيضا على ضوء محدودية خياراتها المتاحة في مواجهة الضغط الهائل من حكومات الدول الرأسمالية الكبرى و مؤسساتها المالية الدولية , كما أن طابعها العائلي و المافيوي المتزايد يجعل من شبه المستحيل القيام بأي تغيير مهما كان في بنية النظام . كما أن عزلة النخب عن الجماهير و الآثار الجانبية غير المقصودة للموجة النيوليبرالية التي تحدثت عن الحرية ( و لو بشكلها البرجوازي الفارغ ) ستضع الانتفاضات القادمة في مواجهة أهداف أكثر تسييسا و جذرية و استقلالا عن النخب مما سبق في مواجهة أنظمة فاسدة عصية على أي إصلاح و لو شكلي و نخب معزولة . الشيء الوحيد الذي قد يوازن نقاط الضعف هذه هو قوة ممنوحة من الخارج , من الرأسمالية العالمية تحديدا , فأعداد لا تتناهى من الثورات المخملية المحسوبة أقل تكلفة بما لا يقاس بالنسبة لها من انتفاضة خبز واحدة خاصة في أوقات صعود النضال الثوري لأن هذا النضال ( و المزاج الثوري ) معدي , و حكم نخبة ما أيا تكن أفضل بالنسبة لها من أي واقع سياسي واقتصادي تفرضه الجماهير و تتمتع فيه بتأثير حاسم
* إلى أين يسير المغرب ؟ جون دوفال من موقع ماركسي على الإنترنيت
– صفحات سورية –