الأزمة اليونانية: الحلقة الأضعف بوابة لتّغيير
معتز حيسو
أعادت الأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة الاعتبار لدور الدولة في تحديد السياسات الاقتصادية، وضبط آليات حركة السوق والرساميل المنفلتة من عقالها، لتخفيف الآثار السلبية التي يتعرض لها الاقتصاد والمجتمع. وقد أحدثت الأزمة الاقتصادية الراهنة آثاراً سلبية على مختلف مستويات التطور: ارتفاع معدلات البطالة والفقر والجوع، وانخفاض مستويات النمو، انكماش اقتصادي، تناقص الإيرادات الضريبية، تراجع حركة التجارة الدولية .. هذا العوامل وغيرها انعكست سلباً على موازين التجارة والمدفوعات، والاستثمارات، وأسعار الصرف، والاعتمادات المخصصة لتمويل برامج مستقبلية في الصناعة والزراعة وتحفيز التنمية الاقتصادية .كما ساهمت في تزايد تقلبات أسعار السلع الأولية، ونقص التحويلات، وانخفاض العائدات، انعكاس حركة رأس المال الخاص وتبدل مواضع الاستثمار والتشغيل، وحدّت من مستوى الائتمان والتمويل التجاري، وساهمت في تراجع دور شبكات الأمان الاجتماعي، لينتقل تأثير الأزمة من المجال الاقتصادي إلى المجال الاجتماعي.
انطلقت شرارة الأزمة اليونانية مطلع التسعينيات. وظهرت تأثيراتها السلبية بوضوح على خلفية الأزمة المالية العالمية. وقد عانت اليونان في السنوات الأخيرة من تفكك الإنتاج ودمار البنية التحتية، وتصدير الصناعات لأسباب تقنية، وقد استعاضت عن السلع المنتجة محلياً بالسلع المستوردة، والاستثمار في المشتقات المالية،تراكم المديونية. وقد حاولت الحكومة عبثاً تغطيتها عبر الاقتراض وإصدار سندات سيادية. هذه العوامل وغيرها بينت حجم تخلف الاقتصاد اليوناني، حتى قبل انكشاف العجز المالي، إلا أنه بحلول تشرين الثاني 2009 بدأت الأرقام الحقيقية لمؤشرات الاقتصاد اليوناني بالظهور، كاشفةً أن نسبة عجز الموازنة إلى الناتج المحلي بلغت 12.9% و نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي وصلت إلى 115%. في وقت حددت فيه اتفاقية /ماسترخت/ شروط عضوية الاتحاد الأوربي عدم تجاوز عجز الموازنة على الناتج المحلي الإجمالي أكثر من 3%، وألاّ يتعدى حجم الدين على الناتج المحلي الإجمالي أكثر من 60%. ويجب التنويه بأن الاقتصاد اليوناني يقوم على ثلاث دعامات أساسية هي: قطاع الخدمات ويساهم بنحو 75.5% من الناتج المحلي الإجمالي ويستوعب 68% من قوة العمل. قطاع الصناعة و يساهم بنحو 20.6% من الناتج المحلي الإجمالي ويستوعب نحو 20% من قوة العمل. قطاع الزراعة الذي يساهم بنحو 3.7 من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي ويستوعب 12% من قوة العمل.
تؤكد التقارير بأن ديون اليونان التي تقارب 300 مليار يورو دين عام واجب دفعه لدائنين غير يونانيين، فـ95.5% منها يعود إلى الدول والمصارف الأوروبية والأجنبية، مع العلم أن 70% من الديون المستحقة على اليونان تعود لألمانيا وفرنسا، بالتالي فإن إفلاس اليونان يعني ضربة قوية للبلدين. ورغم خطة التقشف التي تتبعها الحكومة لتخفيض نسبة العجز إلى 8.7% مع نهاية 2010، و دون 3% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2014، فعلى اليونان أن تفي بالتزاماتها تجاه قروض صندوق النقد الدولي التي تبلغ قيمتها الإجمالية 40 مليار دولار خلال ثلاث سنوات من استحقاق السداد، وقد اتخذت الحكومة جراء ذلك مجموعة واسعة من التدابير التقشفية التي تتماشى مع وصفات صندوق النقد الدولي: بيع الأملاك العقارية العامة،خفض الإنفاق الحكومي بنحو 18 بليون دولار، خفض رواتب المتقاعدين وتجميد التوظيف والأجور وإلغاء المكافآت والعلاوات الفصلية، زيادة الضريبة على القيمة المضافة وعلى مبيعات السلع الكمالية، زيادة الرسوم على البنزين والمازوت – مكافحة التهرب الضريبي- خفض الإنفاق العسكري وتقليص النفقات العامة بنسبة 10%، من بينها تخفيض100 مليون يورو من موازنة التعليم، تقليص نفقات الاستشفاء، زيادة سن التقاعد عامين بحيث يصبح 63 عاماً. ويجب عليها بالتوازي مع هذه الإجراءات تجنب زيادة حدة التوتر الاجتماعي التي تنبئ بانفجار اجتماعي يمكن أن يفضي لتغيير آليات عمل النقابات والأحزاب الاشتراكية، وتحديداً بعدما بات يطرح الحزب الشيوعي مسألة الاستيلاء على السلطة السياسية لتجاوز التناقضات السياسية والاقتصادية المتفاقمة.
حسب التقديرات فقد بلغ انكشاف المصارف الأجنبية على ثلاث دول من منطقة اليورو (اليونان والبرتغال وإسبانيا) أكثر من 1,6 تريليون دولار، حصة إسبانيا وحدها 908 مليار يورو، واليونان 164 مليار يورو، والبرتغال 198 مليار يورو. وهذا ما يلقي أعباء كبيرة على الميزانية نتيجة النسبة المرتفعة التي يجب على الدولة دفعها كأقساط لهذه الديون. وهو الأمر الذي قاد اليونان للوصول إلى حالة العجز عن سدادها.
وتعاني إسبانيا عجزاً في موازنتها يقدّر بـ 11.4 % و الدين العام: 66,3%، و معدّل البطالة 19.5 %. ــ إيرلندا بلغ عجز الموازنة: 12 %- الدين العام: 66 % – معدّل البطالة 13.3 %. ــ إيطاليا- عجز الموازنة و الدين العام من الناتج المحلّي الإجمالي على التوالي 5.3 % ــ 116،1% – معدّل البطالة 7.8 %.
ــ عجز الموازنة في البرتغال : 9.3 %- الدين العام: 91.1 % من الناتج المحلّي الإجمالي للعام 2009.- معدّل البطالة عام 2009: 10.4 %.
إن الأزمة اليونانية بشكلها الراهن تمثل اختباراً حقيقياً لواقع الاتحاد الأوروبي وسياساته المستقبلية، إما إنقاذ اليونان من أزمتها المالية، بالتالي الحفاظ على تماسك الاتحاد الاقتصادي والسياسي، والحد من انتقال الأزمة إلى باقي الدول الأوربية، أو يتخلى عن تقديم المساعدات المالية لليونان وباقي الدول المهددة بالأزمة، الأمر الذي يمكن أن يفضي لتخلي الدول المأزومة عن العملة الأوروبية وانفصالها عن الاتحاد الأوروبي والتوجه إلى صندوق النقد الدولي،بالتالي التحاقها بسياسات الولايات الأمريكية بشكل مباشر، مما يشكل ضربة قوية للاتحاد الأوروبي اقتصادياً وسياسياً، و يزيد حدة التوترات الاجتماعية والسياسية .
إن تراكب الأزمات النقدية والمالية والاقتصادية تضع أوروبا على مفترق طرق. إمَّا أن تختار المزيد من الاندماج بتسريع انجاز آليات الخطة الإنقاذية وتوجهاتها، أو أن الاتحاد سيتعرَّض لاحتمالات التفتت و التقشف والانكماش و التضخم، مما يخلق توترات اجتماعية تزيد من حدة الصراع الطبقي في المراكز الرأسمالية. لكن مع تتالي الأزمات واستمرارها، وزيادة حدة التفاوت والتناقض الطبقي، هل ستبقى العلاقة بين الرأسمال وقوة العمل في إطارها التفاوضي السلمي، أم تنتقل إلى مستوى يفتح إمكانيات قيام انتفاضات عمالية تهدف إلى تغيير نمط الإنتاج الرأسمالي؟ هذا التحول يتوقف على عوامل متعددة أولها الأوضاع الطبقية والسياسية، وآليات تعامل الدول الرأسمالية والنقابات والأحزاب مع الأزمات.
وإذا تم ضبط التحركات والإضرابات الشعبية أو حتى قمعها في إطار تخفّض فيه الحكومات الأوربية مستوى الممارسة الديمقراطية و إعادة ضبط معاييرها مفاهيمياً وسياسياً، يعني بأن آليات اشتغال نقابات عمالية و أحزاب سياسية ستفرّغ التحركات الطبقية من أي مضمون ثوري جذري لينحصر نشاطها في تحقيق بعض الإصلاحات الاقتصادية، دون المساس بنمط علاقات الإنتاج الرأسمالية، وشكل العلاقة بين رأسمال وقوة العمل.
لقد بات من الواضح بأن تأثيرات الأزمة اليونانية ستطال البرتغال وإسبانيا وايرلندا وإيطاليا، وربما فرنسا وبريطانيا واليابان وحتى الولايات المتحدة، بحكم ترابط الاقتصاد العالمي. لكن من غير المعلوم أين وكيف ستنتهي في ظل تفاقم مؤشرات الأزمة الأوربية المرتبطة بنيوياً مع الأزمة الاقتصادية العالمية بكونها أحد تجلياتها. ومن الممكن أن تمنى الخطط الإنقاذية بالفشل لأسباب متعددة، أولها تأزّم الاقتصاد العالمي عموماً والأوربي على قاعدة الأزمة العالمية.
إن احتمال تفاقم الصراعات الطبقية وحدوث تحولات جذرية في الحلقات الضعيفة من دول أوروبا (اليونان- اسبانيا- البرتغال وايرلندا…) نتيجة تفاقم أزمة المديونية والانهيار المالي، قد يكون أوسع وأعمق من تداعيات أزمة الاقتصاد العالمي. حيث أن الضغط الشديد على الوضع المعيشي يمكن أن يولد انفجارات اجتماعية تلغي كل سياسات التقشف التي تفرضها الحكومات، وهو ما يعني رفض سداد الديون مما يهدد بانتقال الأزمة إلى المصارف الكبرى، وهذه الاحتمالات تتحد في إطار الشرط الموضوعي لانجاز التغيير الذي لن يتم فقط عبر توافر الظروف الاقتصادية والاجتماعية الموضوعية، بل لا بد من تبلور قوة سياسية راديكالية تقود التحركات الاجتماعية / الطبقية باتجاه أهدافها النهائية.أما احتمال الحل السلمي نتيجة لسيطرة القيادات النقابية والأحزاب الانتهازية على التحركات الجماهير العمالية والكادحة،فإنه سيقود إلى تصعيد عمليات غزو الأسواق الطرفية، وزيادة حجم تصدير رؤوس الأموال للعالم الثالث، لاستمرار نهب فائض القيمة على صعيد عالمي، ونقله من الأطراف إلى المركز. وعبر سيطرة المراكز الامبريالية الاحتكارية على التكنولوجيا، والأسواق المالية، والحصول على الموارد الطبيعية للكوكب، ووسائط المعلومات والاتصال، وأسلحة الدمار الشامل ،وسيطرة الشركات العابرة للقوميات والمتعددة الجنسية، فإنه يتم اكتشاف طرق جديدة لرفع الإنتاجية وتخفيض التكاليف في القطاعات الاقتصادية لتحقق معدلات ربح مرتفعة.
ومن الملاحظ بأن حجم التراكم المالي بات أكبر من قدرة الاقتصاد الرأسمالي على استيعابه في القطاعات المنتجة أو في الاقتصاد الحقيقي. فقد أصبح حجم الرأسمال الثابت يفيض عن حاجة القطاعات الإنتاجية الحقيقية الزراعية /الصناعية لإنتاج السلع الضرورية والكمالية . بالتالي فإن أية زيادة في التوظيف الإنتاجي سوف يزيد من مشكلات فيض الإنتاج، وبالتالي زيادة ميل معدل الربح إلى الانخفاض. وهذا ما يوضح نسبياً هروب الرساميل إلى التوظيفات المالية التي بلغت ألفا تريليون دولار، في وقت لا يتجاوز فيه إجمالي الناتج الوطني على الصعيد العالمي 44 تريليون دولار. لذلك فإن زيادة التوظيف في القطاعات الصناعية المنتجة، من أجل توسيع السوق عبر خلق مستهلكين جدد يقود إلى تعميق الاختلال القائم نتيجة فيض الإنتاج و ازدياد معدلات الإفقار، وهذا يفضي إلى كساد سلعي.
إن تخبط الدول الرأسمالية في سياق إدارة أزماتها، لا ينفي وعي حكوماتها لخطورة التوترات الاجتماعية داخلها، لذلك فإن الانهيار المالي في سياق تمييل رأس المال الذي أصبح السمة الرئيسية لحركة اشتغال رأس المال القائم على الاحتكار، أفرغ الديمقراطية البرجوازية من مضمونها، ولم يعد يؤدي لمجرد تراجع أو ركود أو كساد مؤقت، بل بات يعبر عن عمق الأزمة البنيوية للرأسمالية الاحتكارية القائمة على التناقض في سياق سيرورتها العولمية الاستقطابية. لذلك فإن تجاوز الرأسمالية لن يكون إلا بالتقاء نضال البروليتاريا مع نضال شعوب الأطراف المسودة التي تشكّل 85% من البشرية. إن تقاطع مستوي النضال عالمياً يتشكّل بكونه أحد نتائج السمة التراكمية التي تشكّل أساس استمرار نمو الرأسمالية المرادف لعملية الإفقار العالمي الذي يحدد الإطار الموضوعي للصراع ضد الرأسمالية. لذلك فإن إمكانية تعمّق الأزمة في ظل استمرار سيطرة رأس المال الاحتكاري شبه مؤكد. وفي هذه الحال لا يمكن استبعاد تجذر أشكال النضال، رغم ما قد يواجهه من ازدياد تناقضات داخلية، إذ لا يمكن صياغة حلول لأزمات النظام الرأسمالي إلا بتجاوزه وتجاوز تناقضاته التي يمكن أن تولد ترتيبات جديدة لموازين القوى الاجتماعية على قاعدة مشروع سياسي بديل قد يكون تغيّر أشكال السلطة السياسية الراهنة وآليات عملها أحد المخارج من الأزمة البنيوية المهيمنة عالمياً.
الحوار المتمدن