هل تشي العلاقة السورية – التركية بحقيقة الإستراتيجية السورية؟
خليل زهر
لا يساعد تشابك العلاقات السورية الخارجية في استشراف توجهاتها الإستراتيجية، خاصة أن نسيجها يبدو وكأنه تمرين في ديبلوماسية جمع الأضداد والتناقضات. فسوريا قادرة، على سبيل المثال، أن توفق بين علاقتها الوثيقة مع إيران من جهة، وعلاقتها مع خصوم إيران الإقليميين والدوليين من جهة أخرى. كما يمكنها أن تسلك طريق التفاوض مع إسرائيل، وفي الوقت ذاته دعم القوى الرافضة لهذه الطريق.
غير أنه من بين العلاقات السورية المتعددة، تبرز علاقتها مع جارتها تركيا أكثرها موضوعية بانسجامها مع التوجهات والمصالح الإستراتيجية لكلا البلدين، والتي تنعكس في استقرارها ونموها لفترة زمنية معتبرة. ونعتقد أن هذه العلاقة تشي بالكثير عن الإستراتيجية السورية المجردة من ضجيج العلاقات التكتيكية، حيث أنها تتسم بكثير من الواقعية السياسية، التي سمحت للدولتين بعد انتهاء الحرب الباردة في العقد الأخير من القرن العشرين، أن تزيلا معظم أسباب التوتر الذي كان قائما بينهما.
ويعتبر اعتراف سوريا النهائي بنتائج الحرب العالمية الأولى في ما يخص لواء الاسكندرون، من أهم تلك الأسباب، فضلا عن التفاهم على تقاسم المياه. كما ينسجم هذا السلوك مع المتغيرات الناشئة بعد انتهاء الحرب الباردة، التي تعطي وزنا أكبر لقضايا التنمية الاقتصادية والاجتماعية على حساب التباينات الإيديولوجية والسياسية. ومن الأدلة المهمة على ذلك في الجانب السوري عملية الانفتاح الاقتصادي المستمرة، وان بتردد أحيانا، والتي يقودها الرئيس بشار الأسد منذ مجيئه إلى سدة الحكم في عام 2000. كذلك الأمر بالنسبة لتركيا التي تشهد مرحلة غير مسبوقة من التطور والنمو الاقتصادي فضلا عن تقدم عملية الإصلاح الإداري والمؤسسي التي يقودها حزب العدالة والتنمية منذ عام 2004.
لا تقتصر دوافع العلاقة بين البلدين على المصالح الاقتصادية فحسب، إذ تمثل المصالح السياسية جانبا مهما أيضا ومتكاملا مع الجانب الاقتصادي، حيث تمثل العلاقة مع تركيا جسرا محتملا لبناء وتعزيز العلاقة السورية الاقتصادية مع دول حلف شمال الأطلسي بشكل عام، وبشكل خاص مع كل من أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأميركية. وقد تمكّن البوابة التركية سوريا من تخفيف، إن لم نقل تجاوز الشروط الإسرائيلية التطبيعية على أي تطوير في العلاقة مع الدول الغربية. واذا كان أحد أبعاد الإستراتيجية الغربية نحو سوريا هو إخراجها من دائرة التأثير الإيراني، يبدو أن الإستراتيجية السورية تنطوي على هدف مواز لإبعاد السياسة الغربية عن دائرة التأثير الإسرائيلية. ويدعو المنظور الاقتصادي للإستراتيجية السورية إلى الاعتقاد، وبخلاف بعض المواقف العلنية والتصريحات، بأن سوريا تدرك أن أي انطلاقة تنموية معتبرة، تتطلب بناء علاقة جيدة مع الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية.
بالنسبة لتركيا فإن دورها الإقليمي المتنامي وتطور علاقاتها العربية، خاصة على صعيد القضية الفلسطينية، يعزز من فرصها في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي من خلال تعزيز دور الأخير في المنطقة. ويأتي التنسيق الفرنسي التركي في هذا الإطار حيث تحاول تركيا تذليل المعارضة الفرنسية لانضمامها إلى الاتحاد أوروبي، بينما تستفيد فرنسا، ومن خلالها الاتحاد الأوروبي، بتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط. ومن جهة أخرى، فان تزايد النفوذ التركي في المنطقة العربية، يعزز جدوى دورها في الحلف الأطلسي، بعد أن ضعفت جدواه مع انتهاء الحرب الباردة وعدم إبداء حماستها لإستراتيجية الإدارة الأميركية السابقة في حربها المزعومة على الإرهاب.
والسؤال الأساس الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: ما هي آفاق العلاقة السورية التركية؟ أو ما هو السقف المحتمل لهذه العلاقة؟
ما لم تشهد تركيا تحولا جذريا في سياستها يضعها عمليا خارج الإستراتيجية الأطلسية، وهذا أمر ممكن لكنه بعيد الاحتمال لأسباب عدة، فانه من الصعب على سوريا الاستمرار في تطوير علاقتها مع تركيا، ومن خلالها مع الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا الغربية مع الاحتفاظ بتحالفها مع إيران، خاصة إذا تطورت العلاقات الغربية الإيرانية نحو الأسوأ بسبب الملف النووي. علما بأن الأسوأ قد يكون تطبيق عقوبات محدودة ولكن فعالة على إيران، والعمل على دعم المعارضة الإيرانية.
أما السقف التقليدي للعلاقات العربية الغربية بشكل عام والاميركية بشكل خاص، وهو شرط تطبيع العلاقة مع إسرائيل، فقد تتمكن سوريا من تجاوزه لعدد من الاعتبارات أبرزها انخفاض الدعم العالمي للسياسة الإسرائيلية وتطور الإستراتيجية الأميركية في المنطقة بعيدا عن التماثل شبه الكلي مع الإستراتيجية الإسرائيلية الذي كان سائدا من قبل. كما يبدو أن سوريا نجحت إلى حد ما في إقناع القوى المؤثرة من عدم جدوى محاولة تطبيع العلاقات مع إسرائيل قبل انسحابها من الجولان وتوقيع معاهدة سلام دائم معها قد تتزامن مع الوصول إلى اتفاق على حل شامل للقضية الفلسطينية.
تمثل العلاقة اللبنانية السورية عاملا آخر في تحديد سقف العلاقة السورية مع الدول الغربية، خاصة مدى تعاون سوريا في تطبيق القرار الدولي 1701 وتطبيع علاقتها مع جارتها الشقيقة. إلا أنه، وفي ضوء التطور الايجابي الذي تشهده العلاقة بين الدولتين اخيراً، قد يكون مسار تطبيع العلاقة وترشيدها مع لبنان هو الأكثر انسجاما مع الإستراتيجية السورية للرئيس بشار الأسد، التي شهدت ارتباكا بدأ مع الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب اللبناني في العام 2000، وتفاقم بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وعدد من الشخصيات المعارضة للوجود السوري. كما يعتقد أن طبيعة النظام السياسي السوري القائم على حكم الحزب/ الجبهة السياسية الواحدة يساهم في إبطاء عملية التغيير الاستراتيجي السياسي والاقتصادي.
أما العوامل التركية التي قد تضع سقفا فوق تطور العلاقة السورية التركية، فبعضها داخلي والآخر خارجي. فعلى الصعيد الداخلي، يعتقد أن التحول الايجابي نحو الأنظمة الإسلامية والتقارب مع دول الجوار والانتصار لقضاياهم محكوم ببقاء الالتزام بالمبادئ الأتاتوركية، وبشرط أن لا تسيء هذه السياسة إلى فرص تركيا في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وجدير بالملاحظة في هذا الإطار أن السياسة الداخلية لحزب العدالة والتنمية كانت أكثر وفاء لمبادئ مصطفى كمال أتاتورك الإصلاحية من الأحزاب الأتاتوركية القومية، التي توالت على حكم تركيا منذ وفاته. فقد قام حزب العدالة والتنمية منذ استلامه الحكم بعدد من الإصلاحات السياسية والمؤسسية المنسجمة مع فكر أتاتورك وتمثل في ذات الوقت جزءا من شروط عضوية الاتحاد الأوروبي كما حددتها معاهدة ماستريخت. غير أنه بدت اخيراً بعض علامات التململ في أوساط الرأي العام التركي عاكسة الخوف من احتمال ذهاب الحزب بعيدا في سياسته الإسلامية وإلحاق الضرر بعلمانية النظام. حيث أشار استطلاع للرأي أجرته مؤسسة “سونار” في نيسان الفائت إلى أن حزب العدالة والتنمية، الذي كان قد وصل إلى الحكم في عام 2002 بنسبة تأييد شعبية قدرها 34% وتمكن من رفع هذه النسبة إلى 48% في انتخابات عام 2007، تراجعت شعبيته إلى نحو 30% في الانتخابات البلدية لعام 2008. وفي حال استمر التراجع في شعبية الحزب فان بقاءه في السلطة يصبح مهددا في الانتخابات البرلمانية خريف العام المقبل.
أما العوامل الخارجية المقيدة للسياسة التركية، فان أبرزها هو خضوع إستراتيجيتها الإسلامية لقانون تناقص العائد (Law of Diminishing Returns) الذي يضع حدا لتقاربها مع الإسلام السياسي، حيث يبدأ العائد، في ما يخص علاقاتها الغربية، بالتناقص بعد تجاوزها هذا الحد. فمثلا لا يمكن تركيا التوفيق بين موقعها في حلف شمال الأطلسي والاحتفاظ بعلاقة وثيقة مع تحالف خصم. كما سيختم أي موقف تركي ملتبس حيال الإسلام السياسي المتطرف سعيها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بالفشل، في وقت يعتبر انضمامها حيويا لكي ترسخ انجازاتها التنموية وتضمن تقدمها واستمرارها، كما سيهدد ذلك علاقتها الإستراتيجية مع الولايات المتحدة الأميركية.
أما العامل المهم الآخر، فهو قدرة إسرائيل على تعطيل التقارب التركي-العربي، والتركي-الإيراني، حيث لا يخدم هذا التقارب إستراتيجيتها، كما قد تصبح العلاقة التركية –الأميركية من أولويات الاستهداف الإسرائيلي في ضوء التطورات السلبية الأخيرة في العلاقة بين تركيا وإسرائيل. وقد بدأت إسرائيل بالفعل ممارسة الضغوط المختلفة على تركيا، سواء بقيام مؤيديها في الكونغرس الأميركي بإثارة القضية الأرمنية في وقت كانت تشهد العلاقات التركية مع أرمينيا تحولا ايجابيا قد يفضي إلى تسوية مرضية لهذه القضية، أو بدء جماعات الضغط ومراكز الدراسات الموالية لإسرائيل بتصعيد حملاتها على سياسات حزب العدالة والتنمية متهمة إياه بمولاة التطرف الإسلامي ومعاداته للغرب والتحول عن المسار الليبرالي الذي أسس له كمال أتاتورك.
( كاتب في شؤون التنمية)
النهار