«الثقافة الإلكترونية» تدفن «ما بعد الحداثة»
جيل الديجيتال «واي» يخلف «إكس» وميزته التفاؤل
واشنطن: محمد علي صالح
انتهى عصر «ما بعد الحداثة»، وحل عصر «الثقافة الإلكترونية». وهو عصر له ملامحه ومبادئه، وأخلاقياته. وعلى الرغم من أن كل هذا لا يزال في طور التشكل والتحول، فإن كثيرين يرون أننا ندخل أكثر العصور ديمقراطية في التاريخ. ما سمات العصر الجديد الذي نعيشه؟ وبماذا يختلف عن عصري «الحداثة» و«ما بعد الحداثة» اللذين يطلب منا، اليوم، أن نودعهما بكثير من التفاؤل بما هو قادم؟
في آخر عدد من دورية «بوبيولار كلشر» (الثقافة الشعبية) الأميركية، كتب البروفسور بريان كوغان الأميركي، وأستاذ موسيقى في جامعة نيويورك، ومؤلف كتاب «دائرة معارف الموسيقى والثقافة»، بحثا عنوانه: «نهاية ما بعد الحداثة وصعود الثقافة الإلكترونية». وهو تعليق على بحث بالعنوان نفسه كان كتبه البروفسور كيم لوثر الأميركي الكندي، وأستاذ كومبيوتر في جامعة تورنتو.
ما هي «ما بعد الحداثة»؟ وما هي «الثقافة الإلكترونية»؟
خلال أكثر من 400 سنة، تطورت الثقافة الغربية من «كلاسيكية» (تقليدية) إلى «رومانتيكية» (خيالية) إلى «ريالست» (واقعية) إلى «مودرنيزم» (حداثة) إالى «بوست مودرنزم» (ما بعد الحداثة).
ظهرت الرومانسية في فرنسا، كامتداد لأفكار اعتقدت أن الثورة الفرنسية ستحقق الحياة المثالية. وركزت على جمال الطبيعة وجمال الإنسان، وفتحت آفاق رسم الطبيعة، وكتابة تأملات فيها، والبحث عن معاني للحياة. وصار الجمال الفردي (خاصة جمال المرأة) محور تأملات وفلسفات.
في فرنسا، صورت ذلك لوحة «الحرية تقود الشعب» (سنة 1833) للفرنسي دو لاكروا، وفيها امرأة تقود مظاهرة، وتكشف عن صدرها، وترفع علم فرنسا. وفي أميركا، صورت ذلك روايات وقصائد ريتشارد ألان بو، مثل قصيدة «ادا» عن ريفية حسناء (سنة 1845).
وإذ تأثرت «الرومانسية» بمثالية الثورة الفرنسية، تأثرت «الواقعية» (ريالزم) بتشدد الألمان. وحد الألمان وطنهم، وأعلن المستشار أوتو فون بسمارك نظرية «ريال بوليتيك» (السياسة الواقعية). وانعكست السياسة على الثقافة. ومالت الثقافة الواقعية نحو المنطق، والعقلانية، وابتعدت عن العاطفة.
وتمثلت هذه في لوحات مثل «صلاة لمحصول البطاطس»، والقصد هو أن الواقعية صارت واقعا حقيقيا، عن حياة الناس، خاصة المزارعين والعمال. وتمثلت في رواية الفرنسي هنري بالزاك «الكوميديا الإنسانية»، عن الحياة في فرنسا بعد سقوط نابليون بونابرت سنة 1815.
مع نهاية القرن التاسع عشر، بدأت الثقافة الحديثة. وكانت رد فعل للتطور الصناعي. كانت تلك سنوات ماكينة البخار، والسكة الحديدية، والجسور، وصناعة الصلب. وبعد بداية القرن العشرين، ازدهرت الثقافة الحديثة. وتمثلت في قدرة الإنسان على أن يبدع، ويبتكر، ويغير المجتمع حوله. وانعكس تطور العلوم والتكنولوجيا على الفنون والآداب.
وخلال المائة سنة الأخيرة، شهدت ثقافة «الحداثة» تمردا متواصلا، وذلك لأنها تأثر بأسئلة القرن العشرين: هل الحقيقة حقيقة؟ وهل الطبيعة طبيعة؟ تأثرت بتمرد ماركس (دكتاتورية الطبقة العاملة)، وتمرد داروين (تطور الإنسان). وتمرد فرويد (الإيمان بالعقل الباطني)، وتمرد الإسباني بيكاسو الذي رسم «فتيات افينيون»، شبه عاريات، وتمرد الفرنسي ماتيس الذي رسم «العارية المستلقية».
ثم جاءت ثقافة ما «بعد الحداثة». فقبل نصف قرن تقريبا، حلل مثقفون فترة الحرب العالمية الثانية، وقالوا إنها خيبت آمالهم، لأنها برهنت على أن «الشر جزء من الإنسان»، وأشاروا إلى قنبلة «هيروشيما» ومحرقة الـ«هولوكوست». هذه نظرة تشاؤمية، اشترك في نشرها فنانون ومثقفون يهود. ونسيت هذه النظرة أن أهم إنجازات الحرب العالمية الثانية كان انتصار الدول الحرة على الدول الدكتاتورية والعنصرية.
وصار واضحا أن ثقافة «ما بعد الحداثة» تميل نحو التشاؤم، والسأم. بينما تميل ثقافة «الحداثة» نحو التقدمية والإبداع والتفاؤل. وظهرت أفلام مثل «صديقتان» (عن امرأتين تمثلان دوريهما بطريقة معقدة تكاد تخلو من معنى)، وروايات مثل «بريكفاست أوف شامبيونز» (فطور الأبطال) التي كتبها الأميركي كيرت فونيغوت، وفيها تهكم على الحياة، ورواية «آيات شيطانية» التي كتبها الهندي البريطاني سلمان رشدي، وفيها تهكم وصل إلى درجة الإساءة.
تمردت ثقافة «ما بعد الحداثة» على نظريات عريقة مثل الديمقراطية، والليبرالية، والتقليدية، وتأثرت بالتقدم السريع في العلوم والتكنولوجيا، وفي العولمة، وفي العالم الذي أصبح مثل قرية. وسئلت أسئلة مثل: «هل كل ما نراه حقيقة؟» و«هل نحن نتقدم أو نتأخر؟» ودعت إلى تفكير جديد، ونظريات جديدة.
قبل بحثي «نهاية ما بعد الحداثة» و«صعود الثقافة الإلكترونية» اللذين كتبهما مؤخرا بريان كوغان وكيم لوثر، وخلال العشرين سنة الماضية، صار واضحا أن ثقافة «ما بعد الحداثة» لم تجب عن الأسئلة التي طرحتها، وذلك لأنها ابتعدت عن القضايا الأساسية، قضايا الحرية والعدل.
ومنذ ذلك الوقت، بدأ مثقفون ينتقدونها أو ينعونها مسبقا، مثل: ألان كيربي، بريطاني يدرس الأدب الإنجليزى في جامعة اكسفورد، كتب في دورية «الفلسفة الآن»: «ماتت فلسفة ما بعد الحداثة، ونحتاج الآن إلى ما بعد بعد الحداثة. نحتاج إلى فكر جديد يناسب التقدم التكنولوجي، والعادات الاجتماعية الجديدة». ونعى «ما بعد الحداثة» أيضا مثقفون مسيحيون متدينون قالوا إنها تشجع الانهيار الأخلاقي (نسبة كبيرة من اللوحات فيها نساء عاريات أو شبه عاريات). وتشجع الأخلاق النسبية (أي إنه لا توجد قيم أخلاقية محددة).
ونعى ما بعد الحداثة نعوم تشومسكي، أستاذ الرياضيات في معهد ماساجوستس للتكنولوجيا (إم آى تي)، وهو مفكر سياسي تقدمي، لا يتردد في نقد السياسة الخارجية الأميركية (خاصة الانحياز نحو إسرائيل، وهو اليهودي). وكتب: «ما بعد الحداثة هي جهل بكل شيء. ولهذا، لا تعني أي شيىء، ولهذا، لا تقدر على أن تفسر أي شيء. فكيف يفسر من لا يعلم؟» وأضاف: «أقول لهم ما قال ديفيد هيوم (فيلسوف بريطاني في القرن الثامن عشر) لأعدائه: اذهبوا إلى الجحيم».
ومثل: آل غور، نائب الرئيس الأسبق بيل كلينتون، الحائز على جائزة نوبل لدوره في نظافة البيئة. وقال: «ليست ما بعد الحداثة إلا خليطا من «ناريسيزم» (حب الذات) و«نيهيلزم» (العدمية)». وقال إنها ليست واقعية، وطبعا، يرى نفسه واقعيا حقيقيا.
مؤخرا، نعى البروفسير لوثر «ما بعد الحداثة»، وأعلن ميلاد «الثقافة الإلكترونية». وربما كان مؤهلا لذلك لأنه حاصل على دكتواره في الفلسفة، ثم ماجستير في التكنولوجيا. وأيضا، بدل الحديث عن نظريات وفلسفات، تحدث عن حياته الخاصة.
قال إن والده (جيل الحرب العالمية الأولى) عاش سنوات الحداثة، وهو (جيل الحرب العالمية الثانية) عاش سنوات ما بعد الحداثة، وحفيده (ولد سنة 2000) يعيش سنوات «الثقافة الإلكترونية». سماه «كولم»، وقال إنه رمز «الثقافة الإلكترونية».
كان والده كنديا، وهو كندي أميركي (والدته أميركية)، وحفيده خليط أميركي وكندي وأسكوتلندي وأيرلندي (بسبب خلفية أمه). عاصر والده الرئيس روزفلت، وعاصر هو الرئيس كيندي، ويعاصر حفيده الرئيس أوباما. وحكى له والده أنه كان يتلصص ليذهب إلى ملاه ليلية يغني فيها سود أغاني الجاز، عندما ظهر الجاز أول مرة، وعندما كان المغنون السود يصعدون إلى المسرح، ويغادرونه من الباب الخلفي. وها هو حفيده «كولم» يقول إن أوباما، أول رئيس أسود، «كول» (رائع).
ربت حفيده «كولم» مربية مهاجرة من المكسيك، وتتكلم الإسبانية. وكان والدا حفيده يعرفان أنها تنتمي إلى ثقافة غير الثقافة الأميركية، ويسمعان أن المكسيكيين يضربون أولادهم. لهذا، وضعا كاميرا في غرفة الحفيد لمراقبة المربية حتى لا تضرب «كولم»، وقالا للمربية مرات كثيرة ألا تتكلم معه باللغة الإسبانية. لكن، الذي حدث هو أن «كولم» صار يتكلم كلمات إسبانية، وتعلم المسيحية على الطريقة الكاثوليكية، مذهب أغلبية المكسيكيين، وصار، وهو في سن مبكرة، يهتم بنظافة البيئة، وموجة الدفء المناخية، وثقب الأوزون، وارتفاع سطح المحيطات تدريجيا.
سمى لوثر جيل «كولم» أكثر من اسم: «جيل إلكتروني»، و«جيل رقمي» (ديجيتال)، و«جيل الإنترنت»، و(جيل «واي») (إشارة إلى الحرف الإنجليزي، الذي جاء بعد الحرف «إكس» وهو اسم الجيل الذي سبق جيل «واي»).
عكس ثقافة «ما بعد الحداثة»، وربما مثل ثقافة «الحداثة»، تميل «الثقافة الإلكترونية» نحو الموضوعات الجادة، وترى نفسها ثقافة من نوع جديد. وتميل نحو التفاؤل. وتريد نسيان سلبيات الماضي. وأيضا، مثل الحداثة، وعكس ما بعد الحداثة، تميل الثقافة الإلكتروننية نحو الليبرالية، أو «نيوليبراليزم» (الليبرالية الجديدة). وتراها فلسفة يمكن أن تطبق على السياسة والاقتصاد والمجتمع. ولا تذكر الثقافة الإلكترونية إلا وتذكر ثقافة «إم تي في» (قناة التلفزيون الغنائية) التي، على الرغم من اتهامات الإباحية والتعري في شرائط الفيديو التي تقدمها، فإنها صارت تلفزيون الجيل الإلكتروني المفضلة، غير أنها تطورت، ولم تعد تقتصر على الأغاني، وصارت تقدم الأخبار والتحليلات، وتشترك في الحملات الوطنية، مثل تشجيع الجيل الجديد على التصويت في الانتخابات.
ومؤخرا، ظهرت علامات ثقافية أخرى لهذ الجيل الإلكتروني: موقع «يوتيوب» لشرائط الفيديو، وموقع «فيس بوك» للاتصالات الاجتماعية. وصارت ماكينة البحث «غوغل»، ودائرة المعارف الإلكترونية «ويكيبيديا» عماد هذه الثقافة الجديدة.
وعكس ثقافات سابقة، لم يعد الغرب هو عمادها، ذلك لأن الإنترنت جعل العالم قرية، وجعل نفسه حلقة الاتصال. وتقول آخر الأرقام إن 500 مليون شخص يشتركون في الموقع الاجتماعي «فيس بوك»، ويكتبون بأكثر من مائة لغة.
وعكس «ما بعد الحداثة»، وعلى طريق «الحداثة»، يبدو أن «الثقافة الإلكترونية» تتجه نحو مفاهيم تقليدية، مثل حب الوطن، وجمع شمل العائلة والدفاع عن الحرية ونشر العدل. ولأن كل واحد صار صحافيا على الإنترنت، فإنه يبدو أن الثقافة الجديدة ستكون أكثر ديمقراطية من أي ثقافة سبقتها.
الشرق الأوسط