صفحات ثقافية

فنانون عراقيون لاجئون في سورية يتحدثون: الفن جسر حوار مع الآخر

null
يارا بدر
دمشق – ‘ القدس العربي’ ـ منذ بداية الحرب على العراق عام 2003 تمّ تشريد أكثر من 5.4 مليون عراقي من ديارهم، غالبيتهم بعد اشتداد الانقسامات داخل الساحة العراقية عام 2006، وقد فرّ قرابة نصف هذا العدد إلى البلدان المجاورة، وتحديداً سورية.
حين اندلعت تلك الحرب لم يكن قد مضى ثلاث سنوات على تخرّج ‘ وضاح مهدي’ من أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد. وهو الآن يتحدّث كمتعبٍ من ثقل الذكريات عن تجربة سقوط النظام العراقي وتهجيره من بلده: ( كانت بداية أزمتنا الشخصية مع الحرب حين وقعت قنبلة صوتية في حديقة البيت، كانت تجربة جسّدت بشكل مباشر حالة القلق الدائم الذي كنا نعيشه، حتى وصل الأمر بنا إلى تناوب الحراسة المُسلحة على المنزل وتحوّلت من فنان إلى رجل يحمل بندقية.
لاحقاً، أتيت إلى سورية وليس في نيتي الاستقرار، إلاّ أنني لم أكن قادراً على العودة إلى العراق، إذ أنّ الأخبار التي كانت تصلني تقول بتردي الأوضاع يوماً بعد يوم.
في سورية لم يكن لدي أيّ معارف سوى صديق عراقي تشكيلي واحد لا غير، وكان ظرفي المادي سيئاً جداً. لم أكن أملك أدوات رسم، بل لم يكن لدي ثمنها. حتى كان أن قرر صديقي تجربة العودة إلى العراق، فأعارني منزله المتبقي على نهاية ثمن أجرته بضعة أيام. كان البيت فارغاً من كل شيء سوى بقايا ألوان وعدة رسم، اشتغلت منها مجموعة لوحات بأسلوب تجريدي يعكس ما خلفته الحرب في روحي ومن ثمنها عشت).
‘وضاح مهدي’ وقائمة طويلة من الفنانين العراقيين المقيمين في سورية انضموا إلى حملة ‘ عبّر’ التي أطلقتها المفوضيّة السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين UNHCR في سورية. تركز الحملة على دعم صوت اللاجئين العراقيين في المهجر من خلال مجموعة فعاليّات ثقافية وفنية هدفها دعمهم على المستويين المادي والمعنوي، عبر تنظيم معارض ومزادات فنية لبيع أعمال الفنانين من موسيقيين وتشكيليين وسواهم لتكون مصدر رزقهم الحياتي، وفنياً تقدّم هذه الأعمال إلى المتلقي من جمهور المهجر أو جمهور العالم الغربي الوجه الآخر لحكاية الحرب على العراق بعيداً عن أرقام نشرات الأخبار وتوجهاتها الأيديولوجية المُحددة سلفاً.
شكلت لوحات الفنانين والفنانات العراقيات جسر تواصل بين عالمين فرقتهما الأيديولوجيات والمصالح السياسية وجمعهما الخطاب الإنساني في أبسط وأكثر أشكاله مباشرةً. خطاب أتى ُمغايراً في توجهه إلى الآخر، خطاب إنساني غير هجومي، مُتحرر من قيود اللغات وغربتها. مما أفسح مجالا أمام المتلقي، وتحديداً الأجنبي، لاقتناء هذه اللوحات كشكل من أشكال تبرئة ذاته من خطيئة الحرب، ولإثبات تعاطفه مع الشعب المُهجّر عبر دعمه المعنوي والمادي للفنان العراقي غير القادر على تأمين مصاريف العيش في المهجر، خاصّة وأنّ الحكومة السورية منعت العراقيين الوافدين من العمل في دوائرها ومؤسساتها الرسمية.
الخاص في تجربة اقتناء اللوحات المُنتجة في المهجر أنّ المُشتري غالباً ما يختار اللوحة بعفوية التلقي الفطرية، ثمّ يطلب من الفنان شرح ما حمّلها من حكايات. فاللوحة هنا تمثّل جزءاً من رؤية شخصية للحرب، أكثر من كونها مُجرّد عمل فني بحت.
‘ جاسم محمد’ واحد من الفنانين العراقيين الذين نجحت الحرب في تغيير مسارهم الفني، فبعد أن اشتغل في النحت ورسم البورتريه بالرصاص ثمّ تخطيط وتنفيذ اللوحات الإعلانية، نراه في سورية يُكثّف العمل التشكيلي على موضوعة الحرب وتاريخه الشخصي معها، مُقدماً لوحات تتميّز بالقِدَم في مزاجها العام، قِدَم يمتزج بحضور دائم للتكسّر من حيث التكنيك.
يقول ‘ جاسم’: ‘ لم يعد باستطاعتي النظر إلى شيء ما ورؤيته جميلاً بالسهولة التي قد يراه الآخرون بها. اليوم أرسم بألوان سوداوية الشيء المعتم الذي شهدناه في العراق منذ الثمانينات وحتى الآن. ربما من استخدامي اللوني، أو ربما من توظيفي للخط العربي في اللوحة من جوانبه الجمالية كعنصر حداثوي استطعت أن أحقق أسلوبي الخاص في العمل على موضوعة العراق في ظل الحرب. أنا أرسم بلدي كما أراها بعيني مهاجر، لكنني أحياناً أرسم بغداد على عهدي بها، بزينتها، وأتفاءل دوماً بعودتها إذ لطالما دُمّرت هذه المدينة الجميلة، وعادت. هذه حكاية بغداد منذ أيام هولاكو ‘.
لا تختلف أعمال ‘ جاسم محمد’ عن نمط اللّوحة العراقية ما بعد الحرب، حيث تتعدّد الرموز على سطح اللوحة وتحضر علامات الموروث الشعبي والثقافة العراقية، بألوانٍ صاخبة، حارة، ضاربة بقسوة وأحياناً بفجاجة عين المتلقي، في كُلٍ يعكس تشوش الرؤية وقوّة الذكريات، رموز تحضر ضمن مزيج غالباً ما يتحرر من قيود الأناقة الفنية والمذاهب التشكيلية، لتبدو الأعمال وكأنها رسومات أطفال تضج بالصخب والفوضى اللونيّة، تخاطب العواطف الإنسانية مباشرة. إلاّ أنّ اللوحة العراقية، التي التقط فنانوها العشق الغربي لأيقونات الثقافة الشعبية والحرف العربي فأكثروا من العمل عليه، استفادت كذلك من الحوار الذي فرضته تجربة المهجر على الفنانين العراقيين مع نظرائهم السوريين أو الغربيين ممن استضافتهم سورية، الحوار مع ثقافة الفنان الآخر وأساليبه التشكيلية. خاصّة إذا ما استعدنا مُنعكسات الحصار الاقتصادي الذي عاشته العراق طويلاً قبل سقوط نظامها السياسي الحاكم، وانقطاعها عن حركة التبادل الثقافي حتى مع جيرانها ردحاً طويلاً. يقول ‘ مهدي’ في هذا السياق: ‘ على الرغم من التقارب الحضاري والثقافي بين شعبي العراق وسورية، فإنّ الاختلاف في الروحية التي يتعاطى بها كل من فناني البلدين مع موضعه حاضر بشدة’.
بعيداً عن سلبية الصدام الحضاري الذي أطلقته الحرب أمام العراقيين والفنانين منهم على وجه الخصوص، وجد الفنانون المتحررون حديثاً من تقييد النظام السابق لحريتهم الفنية وقد غدوا أمام قراءات مختلفة للواقع. يتحدّث ‘ وضاح مهدي’ عن تلك الأيام بسخرية تملؤها المرارة: ‘ كان حصار النظام على الشعب أقسى من الحصار الدولي على العراق، فأنا كفنان لم يكن لدي أية حرّية في العمل، حتى انحصرت تجاربي الفنية بالعمل التجاري، على الرغم من محاولاتي الشخصية للارتقاء بفني إلى مستوى الاحتراف’. ثمّ كانت الحرب التي استغلها كثيرون لفرض قوانينهم الثقافية الخاصة على الفنانين، ومنهم الفنان ‘ وسيم أحمد’ الذي كان هدفاً لبعض الجماعات المسلحة فترة الاضطرابات الداخلية في العراق، والسبب برأيه أيديولوجي وليس طائفي، إذ اعتبر العديد من المتشددين أنّ مهنة الرسم، ورسم النساء على وجه الخصوص وإن بشكل تجريدي أو بصورة مُبهمة هو أمر يُحرّض على الوثنية، وكأنه عمل ضدّ الإسلام. في عام 2006 وصل الأمر إلى حرق منزله، وبعدها تمّ اختطافه وهو عائد من مرسمه إلى منزل أخته، وبقي مُحتجزاً مدة يوم ونصف اليوم إلى أن نجح قريب له في دفع مال الفدية المطلوب، علماً بأنّ إطلاق سراحه تمّ شريطة تفتيش المرسم كل أسبوع وعلى أن يتعّهد ‘ أحمد’ بعدم رسم امرأة غير مُحجّبة!!
في المهجر امتلك ‘ احمد’ كما كل الفنانين العراقيين مطلق الحرية للتعبير عن رؤاهم الفنية تجاه أيّ موضوع كان. لكنهم هجروا مفرداتهم الذاتية طويلاً وعملوا في سياق موحّد على موضوعة الحرب أولاً وأخيراً، الموضوعة التي ضمنوها توابل تراثهم الشعبي طمعاً في مغازلة الذائقة الاستشراقية للآخر الغربي، واستقطابه مادياً ومعنوياً، استقطابه ليرى ما الذي جرى فعلاً ولم يرد ذكره في تحليلات السياسيين.
مع الوقت، وتراكم التجارب بدأ الفنانون أنفسهم يُعيدون اكتشاف ثقافتهم وموروثهم وأدواتهم الفنية، مُستفيدين من عملهم الطويل على ذات الموضوع، ومن الوسائل والأساليب التعبيرية الحديثة التي اطلعوا عليها خلال إقامتهم في المهجر، ويعمل بها معظم التشكيليين من حول العالم، إذ أنّ الأوروبي الذي أتى متعاطفاً يرغب في اقتناء اللوحة لقيمتها العاطفية قبل كل شيء، لم يعد هو ذلك المُحتل العسكري فقط، بل آخر له إنسانيته وثقافته الخاصة التي يمكن الحوار معها. ويشبّه ‘ وسيم أحمد’ هذا الحال برجل عانى الانغلاق طويلاً عن العالم أجمع، ليجد نفسه فجأةً عارياً في مواجهة كل الأشياء وكل الأفكار والجميع يحدقون إليه: ‘ تشهد بغداد اليوم موجاتٍ مختلفة من الأيديولوجيات التي تحاول فرض نفسها بالقوة حيناً وبالسياسة حيناً آخر.. كذلك تشهد العديد من الصدامات الداخلية والخارجية، فتبدو منهوكة القوى وكأنها عاصمة ترابية، لكنني أؤمن بهذه المدينة، وبقدرتها على استعادة روحها القديمة. وأياً كانت النتيجة ستبقى بغداد دوماً الحب الأوّل، بغداد حيث تركنا ذكرياتنا وطفولتنا وشبابنا وأهلنا’.
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى