صفحات ثقافية

شاعر غرناطة لويس روساليس في مئوية ولادته

null
رسول الهواء وصديق غارثيا لوركا يخرج من المطهر
يتقدّم لويس روساليس الأخبار في مسقطه اسبانيا في ضوضاء مئوية ولادته حاملا لطخة ذنب بعيد ودانٍ ووشيكٍ وماضٍ. لا يفلح الصوت الشعري المستتر خلف عنوان “البيت الملتهب” في لملمة اصابعه المتوترة في شريط فيديو بالأبيض والأسود فيما يستعيد في مقابلة مطوّلة في عام 1977 بثّها التلفزيون الاسباني، الظروف السابقة لاعتقال صاحب “شاعر في نيويورك” فيديريكو غارثيا لوركا، واغتياله. في الحوار الذي تم ترقبه طويلا، يروي روساليس بعد صمت دام اعواما، رجل الدماثة العنيفة والكئيبة والحماسة الفيّاضة والملجومة الذي كانه لوركا، ناهيك بمجريات يوم قاتم في منزل ذويه المسؤولين الرفيعين في حزب الكتائب بزعامة فرنكو اليميني.
لجأ فيديريكو غارثيا لوركا الى غرناطة طلبا للحماية، والمدينة لا تزال قبل الثامن عشر من حزيران من عام 1936 خارج حظوة اليمينيين، بيد انه اعتقل فيها بعد شهر على احتمائه في مسكن عائلة مناصرة لـ “ايل كاودييو” فرنكو، استحال ملاذا لحامل راية اليساريين الجمهوريين. في جو من التوتر الخانق وعلى رغم انف معارضة آل روساليس، اقتيد ابهى شعراء القرن العشرين الى درب الموت رميا بالرصاص. تقاسم روساليس ولوركا الصداقة وادارا الظهر لاختلاف التوجه العقائدي، بيد ان الرابط الودّي قصّر ازاء الرغبة في اعتاق حياة صاحب “عرس الدم”. يغرف روساليس في المقابلة التلفزيونية الأثيرة من خراب خلّفته تلك اللحظة ويفصح: “واجهتُ الحياة الى عام 1936 (عام قتل لوركا) غير اني عجزت بعدذاك عن النظر اليها مباشرة على المستويات الثقافية والاجتماعية والسياسية”.
والحال، ان الشاعر والباحث الاسباني لويس روساليس، اسمه الكامل لويس روساليس كاماتشو، يفصّل ميله صوب تلقّف حياة متروكة الى المصادفات الطارئة والأقدار العاصفة في قصيدة “سيرة ذاتية” حيث يذكر: “عشتُ حذرا/ كفارس من الكرتون يستحمّ/ ادركت اني لم اقترف اخطاء في اي سياق/ خلا في الامور الأعز على قلبي”. لن يتحفّظ روساليس عن رفع الذاكرة الى مصاف كلمة الروح، فيما نفض عنه تهمة انتهاك الصداقة في اعقاب اصدار وثيقة رسمية في شأن وفاة لوركا، ليختبر بعدذاك ذنوب الحرب الاسبانية المفتقرة الى كل اهلية، ناهيك بقرن كامل من التجاوزات الثقافية والانسانية.
من الكئيب ان تمرّ مئوية مبتكر على حدة مثل لويس روساليس (غرناطة 1910- مدريد 1992) من دون اهتمام الاجيال الشابة بها، في حين خاطبها في الدرجة الاولى وضمّها من طريق الشوق الى مستقبل سيحين. قبل عام على اغتيال لوركا، انتشر اسم لويس روساليس كشاعر مستحق بعد اصدار مجموعته الأولى “نيسان” (1935). من طريق بساطة العنوان، عبّر روساليس عن حيوية شبابية واستعادة  للاشكال الكلاسيكية وعودة الى التيار الطبيعي التعبيري في التقليد الكلاسيكي. كانت مجموعة “نيسان” الشعرية عملا عبقريا في سياق ثلّة اعمال لشعراء عمّدتهم الحلقات النقدية لاحقا ابناء “جيل 36” (اي 1936)، ضمّ الى روساليس، نماذج ادبية من قامة ميغال ارنانديث ولويس فيليبي فيفانكو وليوبولدو بانيرو ورافاييل ديوس وسواهم في الشعر، وميغال ديليبس وآخرين في الرواية. انتمى روساليس الى جيل 36، وليس من الإفراط الاضافة انه كان الرأس المدبّر لذاك الجيل. خرج صوت روساليس الشعري في ركاب جيل رافق النزاع الاسباني الداخلي في زمن اربك الشعراء الشباب، حيث رصدت التعريفات لتبويب الأصوات الأدبية النامية فيما لم يفسح لسوى خيارات محدودة.
سطّر روساليس كلمة على ايقاع مذهل ستتأخر لتنهي كلامها، ذلك ان المادة التي نحتت منها موسيقى القصيدة وصاحبها ايضا، لن تكون عابرة في مضمار الشعر. اوكل ذاك الزمن المستبدّ بإغلاق الجنّات، وإن اجتازته عيون ثاقبة كعينيّ خورخي غيين اللتين رأتا عالماً يمكن ادراكه بفضل الضوء. كانت تلك ثلاثينات القرن العشرين حيث التفّت اطياف الطغيان على التاريخ لتمدّه بأيام عصيبة. فهم الشاب روساليس منذ البدء ان ثمة إمكاناً لملء الخواء الذي لاحظه في محيطه.
حاولت قصيدة روساليس النظر الى الداخل في مسار احتماء باطني يبحث عن الارتقاء. خلّف الاسباني ارثا خصبا ولمّاعا على المستوى الشعري في منطقة وسطى بين عمق الشعور الديني والانهماك باللغة. نسج الشاعر، في وصفه ابرز ممثلي الشعر “المتجذّر”، رؤياه حول الأسرة والصداقة والمنزل والعادات والروتين، لتغرف اصوات الشعراء الشباب في الأجيال التي لحقته من تركته الوفيرة. جاء روساليس بمركّب شعري على غنائيّة ونقاوة، وانتفض على مغالاة بعض ممارسي هذا النوع الأدبي ليدنو من تقشّف القوالب الكلاسيكية ايضا. بدءا من شعور خاص يمكن معاينته حناناً، يستخدم روساليس في القصيدة وفي نطاق احادي ومكتمل، صوراً دقيقة تتغيّر بالتواتر وتعتمد على الاهتمامات اليومية من دون ازدراء المضمون الشعري المولود من الألم والنأي، في صيغة تجيء بعمق روحاني احيانا.
أوحت نبرة الباكورة بشعر يلبّي شرط الشعر النقي الأساسي من حيث استدانة ايقاع الاناشيد. يكتب روساليس: “آه يا لهذا العجب الخالي من اي بصمات!” ويستلهم الضوء الدائم الى شذرات من الذهول حين يذكر مواجهة “السماء وسنبلة القمح والعشب”. تضعنا هذه الإلماحات غير المبيّتة من جديد عند عتبة دخول مناخ جنّوي. ثمة ميزة لهذا النوع من الشعر المنزّه، ذلك اننا نجد في كنفه توترا مزدوجا، انسانيا والهيا في آن واحد. يقاوم روساليس عند حافة الهاوية، الميل صوب الخروج من الجنّة تحديدا، بيد انه يحاول بعيدا من تطهّر الشعراء السابقين، أن يملأها بنبات غير ضارّ ونزعة نحو المطلق. يحرّك قلمه الساكن الى حد تبعثر حكايات لا تلبث ان تتدحرج الى القعر والفوضى. تظهر قصيدة روساليس ترياقا للناس ازاء الانحطاط، في فعل يتخطّى المصادفة البحتة.
تجلب سنة 2010 روزنامة مكتظّة بالمناسبات الحذرة المعدّة لتذكّر روساليس بحنان وتأثر وعجب. توزّع في غمرة الاحتفالية انطولوجيا للشاعر في المكتبات الاندلسية، فضلاً عن أقراص مدمجة حيث يلقي روساليس ثلّة من قصائده الأكثر شهرة. اما في الثالث والعشرين من نيسان المنصرم فانطلقت مواعيد مئوية ولادة الشاعر في غرناطة، المدينة الجاثمة في روح قصائده حيث افتتح معرض بارز يتكوّر على اثر لويس روساليس وصورته، لتتم الاضاءة على لقطات فوتوغرافية ونصوص وبعض المواد غير المعروفة. يتخذ المعرض هوية “رسول الهواء” كانعكاس وفيّ لنسق حميمي تتسم به المئوية. والحال ان روساليس كان انجز في “يوميات انبعاث” احد ابياته الأكثر استقطابا للرصد الجواني معلناً: “سقطت مرات عدة الى درجة ان الهواء صار معلمي”. بعدما تحول روساليس رسولا للهواء، خفّف من سقطاته الأدبية وصار شريكا كاملا بأثيرية القول الشعري. تلتقي في قصائد روساليس الحيوية، فضلا عن وعي الألم والعزلة، وتلك موضوعات تعكّز على عقوبات تنطوي عليها الحياة البشرية.
في خواتيم الأربعينات من القرن العشرين، اصدر روساليس عنوانا مفتاحا في انتاجه الشعري سمّاه “البيت الملتهب”. تم تنسيق العمل كقصيدة مديدة حيث استُقدم تجديد مباغت على صلة بروابط الشاعر الماضية. كان الصوت الذي عبّر عنه الى ذلك الحين على شاكلة نبرة منتشية ازاء الطبيعة والمرأة المحبوبة والاغراض المألوفة التي تحوطه، في حين صار ينمّ راهنا عن نفس بالغ العمق يضمّ مقاربة سردية. انتصر في “البيت الملتهب” وضوح الشعر الحر وإن صار اقل ارتباطا بـ”الشعر النقي”.
تطوّرت اعمال روساليس التي تغطّي الاعوام اللاحقة للحرب الاهلية، من الكلاسيكية الخاصة الى الريادية السوريالية. يمكن في هذا السياق تمييز مرحلتين في اثره، احداهما مشغولة بالمسائل الجمالية وقريبة من كلاسيكية مواطنه شاعر النهضة غارثيلاسو دي لا فيغا، والاخرى ممسوسة بالتجريب الريادي. تنصهر المرحلتان في “البيت الملتهب” حيث لا تفترض الجمالية قلقا وانما تصير ممارسة للتقنيات السائدة. اما في ما يخص المضمون فيمكن الحديث عن شعر روساليس اليومي مثل الخبز اليومي. يتجلّى الحب في مجمل اعماله على نحو ساكن يخلو من اي استعراض وضجيج، تماما كما يحدث في متاهات الذاكرة والذكرى، ليسم الشعور الديني مرحلة ما بعد الحرب الاهلية.
في مطلع الخمسينات من القرن المنصرم اصدر شاعر غرناطة “القوافي” (1951) ليحوز “جائزة الشعر الوطنية”. في كنف هذا العمل ارتفع بالعمق الى مستوى جاراه في “البيت الملتهب”. اكدت المجموعة التحاق روساليس بقافلة الأصوات الغنائيّة الأشد بروزا في منتصف القرن العشرين. وفيما وسمت العاطفة الحميمة أبيات الشاعر منذ بدء مساره الأدبي، بلغت قدرتها هنا مستويات عصيت على كثيرين، في حين لم يشكّل التأثير الأندلسي عقبة من اجل ان تنتصر اللياقة والدماثة للقصائد الاخرى من المجموعة. يحدّد تكرار بعض الثيمات كالضوء والذاكرة في المجموعة على نحو مثالي، الدروب التي يسلكها صوت الشاعر. يكتب في قصيدة “موضوع يتعذر تذكّره”: “ينظرون الينا من الداخل/ يُسكتاننا نحن الاثنين. كانت عيناكِ/ كسرب هادىء/ يستجمع ارتجافه تحت فيء شجرة نخيل/… بان الصمت/ اكثر قدرة من الجهد. سيمكث الغروب/ في السماء الى الابد/ لن نستطيع ان نتذكّره من الان وصاعدا/ كان النسيم في البحر كطفل ضرير”.
بعد أعوام عدة من الصمت النشري اعاد لويس روساليس التموضع في الصف الأمامي للحدث الثقافي الإسباني من خلال اصدار “مضمون القلب” في نهاية الستينات من القرن العشرين، الذي نصّه على نحو سردي على الرغم من سمته الشعرية. كان روساليس تخلّى عن العمل في لحظة كتابته الأولى، اي في الاربعينات من القرن المنصرم، ليستعيده ويصحّحه ويزيد عليه ويكتشف فيه مصادر خطر مهّدت في موعد مبكر، لأفضل مكامن انتاجه المقبل. مدّد الانصهار بين الصوت الغنائي والتوجّه السردي المنتصر والرحب في “المنزل المشتعل” جذوره ليشمل “مضمون القلب”، حيث تصير صورة الوالدة الميتة احد مداخل الموضوعات المحورية بل البنيوية في شعر لويس روساليس، فضلاً عن حضور الذاكرة الهاجس.
في “حوارات مع الثقافة”، حدّد روساليس دواعي انتقائه الكتابة. افصح انه مارسها في سياق التزام اخلاقي تجاه نفسه وزمنه والله. اعتبر الله “الأنتَ” المطلقة والأفق الدائم، في عرف اكثر الشعراء تجديفا حتى، يتراءى شاعرا يكتب طمعا بإنقاذ تكوّنه الداخلي. اصطحب في جعبته عند وفاته في مدريد في عام 1993 امتيازات ساطعة في عالم الآداب، بعدما خصص له احد مقاعد الاكاديمية الاسبانية الملكية في عام 1962 وتم الاقرار بفساحة صوته الشعري من طريق منحه “جائزة ثرفانتس” الاكثر رفعة في دنيا الآداب الاسبانية والاسبانوية في عام 1982. اصيب بنزيف دماغي خطير في سنواته الاخيرة تسبب بكبح نشاطه الابتكاري والفكري وافقده النطق وترك ندوبا في الذاكرة. غير ان السبعيني تمسك بالوعي الذهني المتقد ليعيد كطفل يحبو، تعلّم ابجدية الكتابة والقراءة ويجدّد اصدار الأبحاث والمقالات الصحافية.
كان روساليس في الخاص والعام مرادفا لعتق الإدراك من كل نير. انتفض مناصر كتائب فرنكو الفذّ على الرقابة التي فرضها النظام الديكتاتوري واصدر كتابا مهماً بعنوان “ثرفانتس والحريّة” ليبيّن بأكثر الأساليب نبلاً بوصلة ولاءته، مؤيدا حرية الكلمة وبانياً يوتوبيات ومرآة لحقبة موحشة ومتهما خرج اخيرا من مطهره.
رلى راشد
لويس روساليس متحدثاً الى خوسيه لويس كاستييو بوتشي
يهمّني تحديد نفسي ضمن مجتمعي وعيش الحياة فعلاً لا قولاً
جمع حوار صحافي الشاعر لويس روساليس الى خوسيه لويس كاستييو بوتشي وتم نشره في احد اعداد صحيفة “بلانكو اي نيغرو” اي “الأبيض والأسود” الإسبانية الناطقة بالقشتالية في الاول من تشرين الثاني من عام 1975. افصح روساليس في المقابلة عن رجل متروك في وسط الطريق، يفكّر ويعيد التفكير ويتذكّر ثم يبتكر ويعيد الابتكار. ظهّر روساليس شخصا يعيش ويواظب على العيش، انسانا مكتملا كشجرة صنوبر يلقّننا معنى الارتباط بالجذور، بل لنقل ساحرا يتحوّل احيانا ملاكاً، ناهيك بمثقف تقليدي حيّ يجدد الشعر والنثر في آن واحد، من طريق اصداء غامضة. ننقل ها هنا من القشتالية الى العربية جزءا من اللقاء الذي خرج الى النور في فترة مفصلية من تاريخ اسبانيا قبل عشرين يوما على رحيل الجنرال فرنكو:
• ما اكثر ما يثير اهتمامك في الواقع حيث تعيش كشاعر ورجل على السواء؟
– اهتم للواقع بتفاصليه شتى. بيد ان ثمة امرين يهمانني خصوصا، هما اولا محاولة تحديد نفسي ضمن مجتمعي، اما ثانيا فعيش الحياة فعلا وليس قولا فحسب. لا ينبغي لي في سن الخامسة والسبعين ان اكوّن حياتي فقط، وانما ان اوكّدها ايضا. من الملحّ ان تنجز اسبانيا تحولا شبه كامل، وسأتطوع لأصير أول رسول لتغيير مماثل بلا ريب. في الواقع اجد نفسي في طليعة اشخاص ينبغي لهم تشكيل ذواتهم، ذلك اني لم اكمل تكوّني الى الان. يدفعني ما ورثته من حقبة الشباب الى تشكيل نفسي عن طيب خاطر، في حين يحثّني ما كوّنته في مرحلة الشيخوخة على تأكيد انجازاتي.
• اطلعنا على رأيك ازاء الفن والمستقبل من موقعك كشخص راء؟
– لا اعتبر الفن مهددا بالإندثار، على الاقل الى حين تبسط الشيوعية سلطتها على العالم برمته. غير ان الشيوعية ستتبدل من حيث الفحوى، في اعقاب اجتياحها للعالم، في حال حصول ذلك فعلا. ذلك انها لن تتلبس ايا من اشكالها الاستبدادية ومن المحتمل ان تلجأ الى احد اشكالها المقنّعة. في وسعي ان اجزم ان مستقبل الفن في ذاته غير مهدد ولن تسطو عليه اي مقاربة سياسية.
• حدّثنا عن علاقة الجيل الشاب بالشعر.
– يبدو لي ان الشعر وصل الان الى لحظة يسعنا ان نسمّيها لحظة الثورة الرومنطيقية، او على نحو ابسط: لحظة الثورة الجنسية، إذا اخذنا في الحسبان ميل الاجيال الشابة الى نبذ الفن في صيغته الراهنة. من اللافت ان نلاحظ ان الاغاني مثلا صارت تتطرق الى مسائل عدة ذات اهمية، وان الجيل الشاب بات مهتما لكتابة الشعر. غدت الاجيال الشابة على مستوى العالم بأسره تكتب شعرا يتمحور على الرومنطيقية الجنسية، وامست وسيلة نشر للرأسمالية يتعاظم دورها رويدا. اغلب الظن اننا نجهل تماما اي مستقبل ينتظرنا.
غير انه لا يمكننا ان نتغاضى عن اننا بتنا جميعا كشباب وشيوخ ننظم الشعر، او لنقل صرنا جميعا نرغب في ايجاد قوة جديدة في الشعر. يجعلني هذا الواقع اصاب بحال من الذهول. لم يحدث يوما ان افاد الشعر من نفوذ مماثل. صار الفن منتشرا في الشوارع بعدما خرج من ابواب الجامعات والاكاديميات والمتاحف. غدا مقيما عندنا وعند تقاطع طرق الحياة على سجيتها، وهي حياة ليست قبيحة او بهية في المطلق. لهذا السبب على الارجح، ابتعد الشعر عن الجمال بوصفه ماهية مكوّنة للظاهرة الفنية. لم نعد اليوم على ما يتراءى، نستطيع تحديد الامور التي نحبها، في حين لا نزال نعي ان كل شيء تبدل، وندرك تماما ما هي الامور التي لم يعد يهتم لها الناس البتة. ينبغي للشعراء ان يستخدموا قاموسا غامضا وبديعا خلال كتابة قصيدة بإسم الحب. في حين يضطرون الى اللجوء الى مفردات حيّة كمستشفى وكلوروفورم وقيح خلال كتابة قصيدة بإسم الحياة. تبدو تلك الكلمات مؤتمنة على حيوية اكبر من تلك التي تتضمنها اللغة الشعرية الشاحبة والأثيرية.
• لنتحدث في السياسة قليلا.
– لا يسعني قول الكثير في الشأن السياسي. ان السياسة شرّ يعتبره البعض ضروريا والبعض الآخر ملائما، في حين يظنه الآخرون شأنا مذهلا او بابا للإفادة الشخصية. ان السلطة مفسدة، من دون شك. لم اتعرف في حياتي سوى الى شخص وحيد حظي بالسلطة السياسية ونأى بنفسه عن الفساد.
• أيمكنك الافصاح عن هويته؟ هل يسعك اطلاعنا على اسمه؟
– لا اعتقد من الضروري ان اكشف عن اسمه، ذلك انه حاضر في اذهان الجميع، بلا ريب. صدرت مئات المقالات التي تتمحور عليه في الآونة الاخيرة.
• هل تظن ساعة انتقال السلطة حانت؟
– حان الوقت لحدوث تبدّل في السلطة من دون شك. اعتبر ان الملكية نظام يلائم عصرنا. تسود في جميع بلدان العالم انظمة ملكيّة شرعيّة او مقنعة خلا في اربع او خمس دول. اميل الى تأييد اصحاب البزّات الرسمية اكثر من تأييدي واضعي الأقنعة.
• هل تظنّ الشعب يوافق على قيام نظام ملكي من دون الاعتراض؟
– لا يمكن بلورة اتفاق سياسي مسبق والجزم بقابليته للاستمرار االبتة، ذلك ان مهارات السلطة الحاكمة هي التي تحدد نجاح النظام القائم، في حين قد تؤدي الاخطاء الى التسبب في انهياره.
• ماذا عن أفضل اشكال الملكيّة في عرفك؟
– اظن النظام الساهر على مصلحة جميع المواطنين الاسبان، اي القائم على نظام ديموقراطي حيث تطبّق الاشتراكية في المجال الاقتصادي والليبيرالية في المجال السياسي، هو افضل اشكال الانظمة الملكية.
• كيف تحدّد التزامك ككاتب؟
– لطالما دافعتُ عن فن نقيّ في حين اصدرت اعمالاً ذات نزعة حيوية واجتماعية وملتزمة لا تنحصر بحياتي الشخصية فحسب وانما تتعداها الى حيوات الآخرين ايضا. اظن الحياة هي جلّ ما املك ولا يسعني فصلها عن مفهومي للفنون. انخرط خوان رامون خيمينيث وبابلو نيرودا في نقاش تمحور على الجمال من جهة وعلى الفن النقي من جهة ثانية، في حين اميل صوب شعر الحياة والمعاناة والعمل. انتسبت منذ بلغت الثانية والعشرين الى شعر الحياة حيث تلعب الغبطة والألم والنشوة الأدوار الرئيسية. إذا اعتقد الاخرون ان ثمة ابعادا مختلفة اكثر اهمية، فليتفضّلوا بالافصاح عنها. لا اتحدّث في هذا السياق عن الحياة في بعدها السياسي وانما عن الحياة كما تتظّهر في عصرنا الراهن، اي الحياة الاساسية التي عشتها ولا ازال. في كل حال، اعجز عن الكتابة عن نمط حياة مختلف.
• هل تعدّ نفسك وارث اسماء ادبية محددة؟
– ثمة ثلاثة مؤلّفات اثّرت فيّ واعتبرها امثلة اكثر منها نماذج. هناك “شاعر في نيويورك” لفيديركو غارثيا لوركا فضلا عن “تريلسي” لسيزار باييخو و”مقام في الارض” لبابلو نيرودا. صرت ما انا عليه بفضل هذه المؤلفات. في وسعي ان اضيف الى القائمة ايضا “نشيد” لخورخي غيين، وهو مَدّني بالحرفة الفنية، فضلا عن خوان لاريا الذي لعب دورا محوريا في تشكيل البعد التخييلي في شعري. هذه جذوري الأدبية وصرت في هذه السن في طور البحث عن البراهين عليها. عندما نمرّ بطريق حيث وصل التأكل الى مستوى التراب، لا نجد سوى جذور شجرة صنوبر مثلا للتدليل على وجودها السابق. يحدث الأمر عينه عند تأكل الروح. حانت ساعة قول الحقيقة والاعتراف بأن فيديريكو (غارثيا لوركا) وبابلو (نيرودا) هما المسؤولان عن تكوين شخصيتي الأدبية، وبأن خواكين اميغو دلّني الى المثال الانساني، وهو كان في كل حال نموذجا خارجا على المألوف.
• اطلعنا على موقفك من المشهد الثقافي العام؟
– اعتبر ان اسبانيا بلادي ولغتي في آن واحد. لا يمكنني تاليا ان اوافق على التسليم بوجود اختلاف بالمطلق بين مواطن اسباني ومواطن سواه يتحدر من اميركا اللاتينية.

ترجمة ر. ر.
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى