حمّام تركي في “باب الحارة”
سامر أبو هواش
… وسيّرت تظاهرتي الصغيرة الخاصة من الصالون، مروراً بالمطبخ، وصولاً إلى حجرات النوم، جاعلاً طفليّ وزوجتي يرددون ورائي: “توركيا (من أجل سلامة اللفظ… لا بدّ أنه تسلل إليّ من سفر برلك) توركيا، توركيا”، ثم دفعتني الحماسة إلى درجة أنني هدّدت ابني بأنني سأغيّر اسمه إلى أوغلو. جميل أليس كذلك؟ أوغلو أبو هواش. ومتناسب أيضاً. أما ابنتي فقلت لها إنني أفكر في تسميتها نيروز، وأعجبها الاسم نوعاً ما، لكن في هذه اللحظة وجدت الدموع تترقرق في عيني ابني، فكان عليَّ تعليق التظاهرة وخوض نقاش معه، أحاول إقناعه فيه أولاً أن أوغلو هو اسم حقاً، وأن لا علاقة بينه وبين أيٍّ من شخصيات “دراغون بول زد”، وأنني لا أفكر حقاً في تغيير اسمه. الأتراك أصدقاؤنا يا بابا، رحت أصرخ بالمسكين، فترقرقت الدموع في عينيه ثانية.
ولكن للصراحة، حين وقفت بعد ذلك أمام المرآة، لم تكن صورة “العقيد أبو شهاب”، أقصد الصديق رجب طيب أردوغان، التي رأيتها هناك. كان وجهي فحسب.
مهما عدت إلى “الجزيرة” وشاهدت الصور مرة بعد مرة، وشعرت بشيء ما في دمي، وعلى سطح جلدي، فإن وجهي ظلّ يأبى أن يتغيّر. حتى إنني تأملت جيداً عباس ناصر في دور بروس واين (مع فارق الوزن طبعاً) والنتيجة ذاتها طبعاً. وكانت “المنار” تعرض للمصادفة “باب الحارة” فحاولت أن أشحن نفسي ببعض الكرامة والعزة والكبرياء، عله يتغير شيء ما، ولكن لا فائدة.
غير أنني على الأقل رأيت في المسلسل، الحمّام التركي، ويا للروعة. علينا أن نعترف على الأقل بأنه ولو لم يبق لنا شيء من الإرث العثماني سوى الحمّام التركي، فإنه أكثر من كاف. إنه الوصفة المثالية ليس للنظافة فحسب، بل للراحة والاسترخاء ونسيان متاعب الحياة وهموم الدنيا. إنه بالضبط ما كنتُ، ما كنا، في حاجة إليه في هذه اللحظة التاريخية (يشعر المرء برغبة تلقائية لأن يضيف هنا: من عمر أمتنا المجيدة)، إنه الحمّام التركي، ولا بأس إن كان دموياً أيضاً، ما دمنا لا ندفع شيئاً من جيوبنا ولا من دمائنا ولا حتى من وقتنا. أعني يمكننا دوماً أن نبدّل بين المحطات. نرى آخر التطورات على “الجزيرة”:
– هل أعلن أردوغان قطع العلاقات؟
– ما كانت مقررات وزراء الخارجية العرب؟ (اللعنة، لا أجدهم على أيّ شاشة!)
– هل يعلن أردوغان قطع العلاقات؟
– هل دمروا السفينة الإيرلندية؟
– ما احتمالات أن يعلن أردوغان قطع العلاقات؟
– على أيّ محطة يعرضون اجتماع وزراء الخارجية العرب!!
– بالتأكيد سيقطع العلاقات… واضحة.
– لم يدمروا السفينة الإيرلندية.
– ماذا ينتظر… ماذا ينتظر حتى يقطع العلاقات؟
للتصحيح فقط فإن رجب طيب أردوغان لا يشبه تماماً العقيد أبو شهاب، ولا أبو عصام ولا حتى أبو العزّ (الأخير انفعالي أكثر من اللزوم، ربما نستطيع تشبيهه بأحمدي نجاد الذي لو سئل عن التسرّب النفطي في خليج المكسيك لقال إنه إيذان بنهاية إسرائيل).
نحن كعرب نرى أن رجب طيب، “الطيب”، أردوغان، بل تركيا برمتها، هو (هي): العقيد أبو النار. أجل. وجدناها. في لحظة الحقيقة صحا ضمير أبو النار، وأدرك أنه لا يستطيع الوقوف موقف المتفرّج مما يجري في باب الحارة، وأن عليه التدخل ولو بأضعف الأيمان، ولو من خلال مساعدة رجال الغوطة على نقل الأرزّ والطحين إلى الحارة المحاصرة.
كم جميل. والآن أصبح هناك “الأبعاد الثلاثية”. وأمامنا موسم رائع. المونديال الذي نستطيع مشاهدته أيضاً بالصورة الثلاثية البعد. يليه رمضان و”باب الحارة 5″ (علوّاه لو نشاهده بالأبعاد الثلاثية أيضاً)، تتخلله، والأفضل أن تليه حرب صغيرة هنا أو هناك (بصراحة أزمة نهر النيل لا تعد بالكثير من التشويق)، فضيحة كبيرة هنا أو هناك، أغنية ضاربة جديدة لهيفاء وهبي أو نانسي عجرم أو سواهما… ويكون قد انتهى العام. أشعر في هذه اللحظات أنني محلل سياسي أو كاتب أعمدة عربي!
ويا ليت، فقط يا ليت، كان التلفزيون الثلاثي البعد موجوداً عندما انسحب رجب طيب أردوغان خلال مؤتمر دافوس. عندئذ كنت سأراه متجسداً أمامي في الغرفة. ولأمكنني أن أقترب منه وأصافحه، وربما أن أعانقه، مثلما يرغب كل شعبوي مثلي أن يفعل. وبما أنني تمكنت من استعمال كلمة شعبوي هنا (أخيراً)، فيجب أن أقول أيضاً إنني حتى الآن لا أعرف تماماً معنى كلمة شعبوي.
يجب أن أقول أيضاً إنني – بوصفي مثالاً للعقلانية المدروسة المحسوبة – قد قاومت كثيراً نزعاتي الشعبوية، وانزعجت فعلاً من كل تجلياتها عندي (خصوصاً أنني لا وقت ولا رغبة عندي بالذهاب بها حتى النهاية) حتى سمعت وزيراً سابقاً على “العربية” (أفضل مكان للعثور على هؤلاء) يقول إن “سحب المبادرة العربية هو خدمة لإسرائيل”، ثم سمعت وزير خارجية مصر يقول إن سحب المبادرة العربية يحول دون قيام الدولة الفلسطينية. وما زلت أحاول أن أفهم هاتين المعادلتين طبعاً (وربما أستغرق وقتاً طويلاً في ذلك). في الأثناء شعرت بالحاجة مجدداً إلى حمّام تركي يريح أعصابي. ولم أستطع منع رياح الشعبوية من اجتياحي مجدداً، وإذا بي أهتف ثانية في الصالون: “توركيا… أبو النار… توركيا… أبو النار… توركيا…”
النهار الثقافي