الممنوعون من السفر
مها حسن
أجمل ما في الحياة، أن تكون شابا، تحمل حقيبة ظهرك، وتغادر. قرأت هذه الجملة، التي أتصرف بها بسبب الذاكرة التعيسة، في مكان ما، منذ سنوات بعيدة، ورغم نسياني لصاحب الفكرة، إلا أنها ظلت ترافقني، كلما حملت حقيبة سفري، سواء تلك التي أعلّقها على ظهري في سفراتي القصيرة، أو تلك التي أسحبها جواري، حين أغادر لفترة أطول.
في اللحظة التي أجدني فيها، وسط زحمة المسافرين، الذين يرطنون بلغات مختلفة، من ألمان وانكليز وأفارقة وعرب… في محطات القطارات، متسلقة السلالم، باحثة عن قطاري … أشعر بخفة كبيرة، كأني أتخفف من حمل العالم الجاثم فوق ظهري وكتفي.
العلاقة بين حقيبة السفر والحرية متناسبة طردا … كلما جهزت حقيبتي، وخرجت بها من المدينة، شعرت بحجم الحرية التي أتمتع بها.
يصيبني اكتئاب ما، بسبب كثافة المكان ذاته، أتضايق من شدة تواجدي في المكان، وأصاب بما يشبه الغثيان والملل من المشهد ذاته، أدرك أنها حاجتي إلى المكان الجديد.
من هنا، من هذه النقطة، الرغبة في الانطلاق إلى مكان جديد، تأخذ فكرة الرحلة أو العطلة الصيفية أو الإجازة أهميتها المفصلية بالنسبة للغربيين. فكأن البقاء في المكان، لسنة كاملة، دون إجازة سفر، تكاد تشبه نوعا من العقوبة.
الحاجة إلى الرحيل، الخروج من المكان، سواء بسبب السياحة أو لأسباب أخرى، اللقاء بأصدقاء في بلد آخر، المشاركة في نشاطات ثقافية أو سياسية أو مدنية … مهما كان السبب، فإن السفر حاجة إنسانية أراها ملحاحة.
السفر ليس حالة رفاهية، كما قد يعتبرها البعض، وإن لم يكن هذا عيبا، ولكنه حاجة، إنه الحاجة إلى التواصل مع الآخر، الاحتكاك بعالم آخر، اكتساب ومعرفة جديدة بالآخر، تجدد، تعلّم، خروج من دوائر صغيرة، نحو عوالم أخرى، وإطلاع على معارف وسبل عيش مختلفة، إنه احتمال مختلف للعيش.
أجمل امتحانات الحرية، حين يجد أحدنا نفسه، أمام جهاز الحاسوب، منقبا عن تواريخ الرحلات، وإن أقلقنا أحيانا سعر الرحلة … إلا أننا، حين نختار رحلة تناسب إمكانياتنا، فنتابع الحجز عبر الانترنت … وندفع قيمة بطاقة السفر من أرقام بطاقاتنا المصرفية … أف، نتنفس هواء الحرية بقوة … لا مرجعية لقرار السفر، سوى ملائمة التاريخ لجدول أعمالنا الخاص، وثمن تذكرة السفر.
قد تعيقنا أسباب أخرى، نعدها طارئة، كأحوال المناخ، أو مرض مفاجئ يصيب أحدنا أو أحد أفراد أسرته … وهذه تدخل ضمن لائحة الاستثناءات النادرة . أما أن يكون المانع، ثابتا، ودائما، ويسمى استثناءا فهذا ما لا أفهمه .
صديق لي، ممنوع من السفر، دخت معه، وأنا أتصل به يوميا، للاستفسار عن مراحل هذا المنع، الرجل ممنوع من السفر منذ سنوات … أيعد هذا منعا استثنائيا؟
ناشطة في حقوق الإنسان، هي السيدة رزان زيتونة، ممنوعة من السفر … يا للمنطق ؟ تحصل على جائزة بسبب نشاطها الحقوقي والمدني، خارج بلدها، ويمنعها بلدها من السفر؟ أية عقوبة وأية مكافأة، أي وطن، وأي قانون استثنائي.
مواطن سوري، يعيش في بيروت، لأسباب أمنية أيضا، ومواطنة سورية تعيش في دمشق، لأسباب مواطنيّة … لا هو يستطيع المجيء إلى دمشق، عاصمة بلده، لأسباب أمنية، ولا هي تستطيع الذهاب إلى بيروت، لأسباب استثنائية : ممنوعة من السفر.
حين كنت أقيم في منزل أبوي، وكمثل الكثير من الفتيات المشرقيات، لم يكن السفر متاحا لي. لم أكن ممنوعة من السفر لأسباب أمنية، بل لأسباب تاريخية، اجتماعية، فكرية … لأن ثقافة عائلتي لا تؤمن بحرية المرأة وحقها في السفر دون مرافقة أحد من أعضاء العائلة.
كان مجرد خروجي من البيت، لسبب خارج الجامعة إلى العمل، يحتاج إلى ” إذن مغادرة”، وإجراءات أمنية عائلية، ليتأكد للعائلة العظيمة حُسن نوايا المغادرة.
لا أجد أن السلطات السياسية في بلادنا، تختلف عن عقلية آباءنا المتحجرة العتيقة، كونها تجد في نفسها السلطة المطلقة لتأذن أو تمنع الأذن، لتوافق أو ترفض.
من تجربتي الصغيرة في الحرية، أرى أن أكبر عقوبة إنسانية، هي المنع من السفر. هي ممارسة وصاية على أشخاص بسبب نشاطاتهم الفكرية، وليس لأنهم يشكلون خطرا على مجتمعاتهم .
إن صديقي الذي لا يريد أن أذكر اسمه، رزان زيتونة، وأحمد الطيار، وسهير الأتاسي، والكثيرين من السوريين المعاقبين بالمنع من مغادرة سوريا، أو بالعودة الآمنة إليها، هم من المواطنين الشرفاء المشهود لهم بالانهمام في قضايا الوطن، لتغيير صورته القبيحة، ولتحسين وضعه … فهل يشكل هؤلاء خطرا على الوطن، حتى يحكم عليهم بإقامات جبرية، داخل وطن، يتحول إلى معتقل يوما إثر الآخر.
حين، وبضغطة على حقل البيانات في الانترنت، أتابع إجراءات السفر، وأحضّر حقيبتي، للمغادرة من مطار لآخر، ومن حدود بلد لآخر، متمتعة باستقلاليتي، وتخلّصي من الوصاية العائلية أو السياسية، التي تتعامل معنا كأطفال قصّر، نحتاج للتربية والعقاب، للمنع والزجر، ولا تؤمن بأننا كائنات عاقلة تعرف ما تفعل، وتتحمل مسؤولية فعلها، بل وتفعل أفضل بكثير مما تقوم به السلطات الوصائية من قمع لشخصياتنا، آملة أن نكون مواطنين أوفياء، على ألا نصل أبدا إلى سن الرشد والاستقلال، بل نرفع رايات الاستسلام لعقليات متحجرة …. حين أحجز بطاقة السفر، ولا أحتاج إلى ” فيزا”، ولا موافقة أمنية، ولا تقبيل أيادي العائلة حتى لا تقف في طريقي، أدرك أن أعظم حرية، هي حرية المغادرة والرحيل، حرية الانتقال، حرية العودة أيضا حين نريد … إن الحرية هذه أثمن بكثير من كل رفاهيات العيش، حتى ولو كانت حرية النوم في الطرقات، والتسكع في طرق المواصلات، بدلا من قصور تعامل ساكنيها على أنهم جواري وغلمان ومواطنين فاقدي الأهلية لاتخذا قرار ما بالتفكير والاختلاف.
هل يستطيع أحد أن يفسر لي، بعد كل هذه الممنوعات، كيف تصل هذه العقليات إلى مراتب عالية لتحكم البلاد، وهي المنتمية فكريا إلى عصور الظلام ؟
عائلاتنا تحكما بفعل الدم والانتماء العرقي الذي لا نختاره، ولكن لماذا يحكما الساسة الذين لا نمت إليهم بأي صلة ؟ ومن المسؤول عن العقوبات الجماعية التي نحياها … ليمنعوننا من السفر، من العودة، من التفكير، من الحرية، حرية أن نكون ما نريد أن نكون عليه؟
ـ باريس
خاص – صفحات سورية –
على قولة زياد الرحباني
“أنا مش كافر.. أنا مقبور في بيتي ومش آدر هاجر.. معمم عالدول الغربية ومبلغ كل المخافر”
كم يقف الممنوع من السفر محبطاً من الإنسانية حين يمنع عبر المعبر الحدودي من المغادرة ويراقب ما هب ودب ممن لا يبالون في وطن أو كرامة يدخلون ويخرجون من غير سلطان
لماذا وما جريمتي في ذلك؟ لمجرد أنني إنسان ويفكر؟
إذا كنت لا تفكر فأنت أقل عرضة لمنعك من السفر والدليل أن الحيوانات تسافر حيث وأنى يحلو لها
مع أن حق المغادرة منصوص عليه في مبادئ حقوق الإنسان، إلا أن الحيوان ينعم به من غير نصوص.. وحري بالممنوع من مغادرة بلده أن يحسد الطير في تحليقه واختياره وجهته، مثلما المحروم من ممارسة الحب يحسد الذبابة على رقصها الحر في الهواء مع عشيرها