«حالة الاستثناء والمقاومة»: تحليلات ممتازة لكن البديل غائب
ياسين الحاج صالح
أول فائدة جزيلة لكتاب «حالة الاستثناء والمقاومة في الوطن العربي» أنه يدرج إسرائيل والدول العربية تحت مقولة واحدة هي «حالة الاستثناء». وفي ذلك يوفر الكتاب الذي حرره ساري حنفي وصدر عن «مركز دراسات الوحدة العربية» في بيروت قبل أسابيع أرضية مفهومية يمكن أن يُبنى عليها تصور نظام دولي فرعي، شرق أوسطي، قائم بنيوياً على الاستثناء. هذا شيء لم تُقدِم عليه فصول الكتاب التسعة التي كتبها مؤلفون مختلفون. كانت تلزم من أجل ذلك أبحاث في الأصول البنيوية والتاريخية لنظام الاستثناء الشرق أوسطي خلا منها الكتاب.
وتتمثل فائدة كبيرة ثانية للكتاب في خروجه منهجياً على المقاربات الأيديولوجية، القومية منها والليبرالية والماركسية، واعتماده أطراً مرجعية غير مألوفة كثيراً في التآليف السياسية العربية، تتمثل بصورة خاصة في جيورجيو أغامبن، المفكر الإيطالي المعاصر ومؤلف كتابين يرجع إليهما أكثر مؤلفي الكتاب (Homo Sacer: Sovereign Power and Bare Life; وState of Exception)، ومن أولهما تواتر تداول مفهوم الإنسان المستباح أو المكشوف، المجرد من أية حماية قانونية أو سياسية والمردود إلى «حياة نباتية».
لا ترتد حالة الاستثناء إلى صيغتها القانونية المعروفة في بلداننا بحالة الطوارئ، ولا هي تتقابل مع حالة سواء قد تُعرّف بحكم القانون مثلاً. إنها تبدو مرافقاً دائماً للسلطة السيادية التي يستند أغامبن إلى الفيلسوف السياسي الألماني كارل شميت في تعريفها بأنها الجهة صاحبة القرار في شأن الاستثناء. وفقاً لهذا التصور، الاستثناء هو صنو السلطة وأساسها، وليس شيئاً يطرأ عليها من الخارج أو يشكل شذوذاً في عملها.
في مقدمته، يميز محرر الكتاب بين أربعة أشكال لحالة الاستثناء. أولها «قانون الطوارئ» الذي يتيح أن «يعامل الناس بطرق مختلفة بحسب درجة ولائهم للنخبة الحاكمة»؛ وثانيها أن «تعفى الحكومة من بعض الالتزامات والواجبات»، وأن تقوم بإسقاط بعض «الحقوق عن الفئات غير المرغوب فيها؛ وثالثها إصدار قوانين تنطوي على قاعدة تبيح تعليقها من دون إناطة الإلغاء بسياق محدد؛ ورابعها حكم المجتمع «بواسطة الإدارة» أكثر مما «بواسطة اللوائح والقوانين». ليس الكلام واضحاً بالدرجة المأمولة. قد يعود ذلك إلى كون ستة من فصول الكتاب التسعة، فضلاً عن المقدمة ذاتها، مترجمة عن الانكليزية. الترجمة قلما كانت رشيقة أو مشرقة.
وإلى حالة الاستثناء وأغامبن هناك مفهوم أساسي آخر أحال إليه أكثر مؤلفي الكتاب، ويعود بأصوله إلى ميشيل فوكو: البيوسياسة (بيوبوليتكس). وهذه «تُعنى بالسكان باعتبارهم مشكلة سياسية وعلمية (إحصاءات علم الأوبئة…)، كمسألة بيولوجية تخص ممارسة الحكم» بحسب حنفي. مؤلفة الفصل الأخير، ندى غندور ديميري، توضح أكثر هذا الكلام. تقول إن البيوسياسة «شكل من أشكال السياسة يتعلق بإدارة الحياة»؛ هنا يجرى «فهم الشعب من منظور المعايير والنزعات الشائعة والمعدلات الوسطية». ومن المنظور البيوسياسي ليس الشعب مجموعة من الأفراد، بل هو «جسم اجتماعي (…) يمكن التصرف به من طريق سلسلة من التقنيات الرامية إلى الضبط والتأديب».
خصصت أكثر فصول الكتاب لحالة الاستثناء المفروضة على الفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي. وهي تعطي صورة مجسمة مريعة لتمزيق حياة الواقعين تحت الاحتلال، وللتخريب الدؤوب والممنهج لفضائهم المكاني ولفرصهم في التنقل والسفر. عدا ما نعرف من اعتداءات دموية تهتم بها وسائل الإعلام، ثمة صناعة إبادة منظمة للمجتمع الفلسطيني تتكفل بجعل حياته لا تطاق بسبل متنوعة، لكنها مثابرة وباردة ومجردة كلياً من أي حس إنساني. لا تقتضي هذه الإبادة قتل الفلسطينيين أنفسهم بالضرورة، بل جعل حياتهم بائدة وبلا قيمة. حياة عزلاء، يمكن التخلص منها أو التصرف بها من دون أن يعني ذلك ارتكاباً لأية جريمة أو حتى تقديماً لأي قربان كما شرح عبدالحي سيد مفهوم أغامبن للـBare Life.
وما يكسب أبحاث الكتاب المخصصة لأوضاع المجتمع الفلسطيني قيمة إضافية هو ما اتسم به وصف الحياة الفلسطينية المبددة من هدوء في النبرة يكاد يبلغ حد الوصف المخبري، وتجرد المؤلفين (أكثرهم فلسطينيون واثنان منهم غربيان)، من نوازع الفضح والتشهير والإدانة. أكثر البحوث استندت إلى متابعة ميدانية مباشرة وأدمجت الخبرة الشخصية المُتحصِّلة منها في متونها.
ولم تغب المقاومات المتنوعة للمجتمع الفلسطيني عن بحوث كتاب يشغل تصور فوكو للسلطة موقعاً مركزياً فيه. من المنظور الميكروفيزيائي للسلطة، ليست هذه شيئاً يمتلك أو يحتكر، إنها فعل مبثوث في كل زوايا الجسم الاجتماعي، ويواجه في كل منها بمقاومات متنوعة. من هذه تذكر نورهان أبو جدي مخادعة شبكات المراقبة الإسرائيلية وتلقي الدروس في الشوارع بعد تدمير المدارس والمثابرة على إصلاح ما يجرى تدميره. أما أشكال المقاومة العنفية فتقع بالكامل خارج اهتمام أبو جدي والمؤلفين جميعاً.
عدا فلسطين، ثمة بحثان مهمان عن كل من سورية ومصر. رصد عبدالحي سيد «حالة الاستثناء ومقاومتها» في سورية، عبر «مقاربة قانونية – اجتماعية». يميز القانوني والكاتب السوري بين استثناء منبثق من القانون، تعرف له بداية ونهاية، وبين استثناء سابق للقانون لا يعرف له أول من آخر. وهو لا يقف عند الجوانب «السياسية» و «الحقوقية» من حالة الاستثناء بل يركز أكثر على أوجه متنوعة من الحياة اليومية، تتصل بالسكن والخدمات. ويبرز سيد صيغ مقاومات، يستبعد منها أيضاً أشكال الاعتراض السياسي الظاهرة، منها اللامبالاة بالسياسة ومنها انتهاك القانون والالتفاف عليه، وكذلك استخدام المؤسسات الرسمية ذاتها لإضفاء الشرعية على انتهاك محظوراتها هي ذاتها، وكذلك إقامة فضاءات بديلة أكثر إنسانية.
واعتنت منى أباظة بظهور «حركات احتجاج غير مسيسة» في مصر، وما يشير إليه ذلك من انعطاف جديد في الثقافة العامة» المصرية. ومن مظاهر هذه «الناشطية» الجديدة اهتمت الكاتبة المصرية بالعمل السياسي الافتراضي (سايبربوليتكس)، المدونات وصفحات الفايسبوك ومواد اليوتيوب ومحطة راديو على الانترنت تسمى تيتراديو.
الواقع أن اهتمام المؤلفين بما سماها ساري حنفي «حركات الاحتجاج اللامؤسسية» من ثوابت الكتاب المنهجية. لم يهتم الكتاب في المقابل بالعناوين الكبيرة كالحركات السياسية المنظمة وأيديولوجياتها، وشغل نفسه باليومي والهامشي والمحجوب، وبالفاعلين الصغار وسردياتهم التي قلما تسمع عبر وسائل الإعلام. هذا ملمح ما بعد حداثي لكتاب «حالة الاستثناء والمقاومة…».
غاب أيضاً التناول التاريخي كما أشرنا في صدر هذا العرض الوجيز. هذا الغياب سمة بنيوية للتفكير ما بعد الحداثي. ومع التاريخ غابت السرديات الكبرى، التحرر الوطني والديموقراطية، التي يتوقع المرء ظهورها في كتاب يتناول أحوال فلسطين وبلدان عربية أخرى.
خاص – صفحات سورية –