“المشروع النهضوي”… وشرعية الدولة القُطرية!
د.خالد الحروب
يعطي نص “المشروع النهضوي العربي” فكرة “الوحدة العربية”، كما هو متوقع اهتماماً مركزيّاً. وبرغم وقفة سابقة حول هذا الموضوع -ضمن سلسلة هذه المقالات- ركزت على المقاربة الوحدوية في النص “النهضوي”، إلا أن فكرة الوحدة كما وردت في سياق المشروع تحتاج إلى تأملات إضافية. وهذه السطور تناقش على وجه التحديد ما ورد من معالجة لإشكالية العلاقة بين القومي والوطني (القُطري)، وعلاقة الأطراف الخارجية بـ”الوحدة” وموقفها النظري والعملي منها، وكذلك علاقة الوحدة بالأقليات غير العربية في بلدان المنطقة.
حول الأمر الأول، يتوقف نص الوحدة في المشروع النهضوي العربي عند معضلة “العلاقة بين القومي والقُطري”، مؤكداً في البداية على ترسخ “الدولة القُطرية”، ويتشبث باستخدام لفظة “القُطري” التي تتضمن حمولة إدانة فائقة وتاريخية للدولة العربية الحديثة، وقليلا ما يستخدم النص لفظة “الدولة الوطنية” التي هي الترجمة العربية الأقرب للمصطلح الإنجليزي الأصلي nation-state. والإحجام الواضح عن استخدام اللفظة الثانية هو عمليّاً إعلان موقف سياسي وأيديولوجي ضدها، يعيد تكرار ما نعرفه من موقف كلاسيكيات الأدبيات القومية من “الدولة القُطرية” واعتبرتها طارئة في مسيرة التوحد العربي المُفترضة ماضيّاً ومستقبلًا. ولكن هذا الموقف الذي يعلنه تبني مصطلح وتخلٍّ عن آخر لا يتعدى التشبث الأيديولوجي بشعار وممارسة آفلة، سرعان ما تتناقض مع التحليل السياسي والتاريخي الذي يورده النص نفسه، والذي يقول إن الدولة “القُطرية”… “لا يمكن أن تزول من الوجود لمجرد أن معظمها نشأ نشأة غير شرعية كحصيلة لفعل التجزئة، ولا لمجرد وجود إرادة وحدوية في زوالها. ذلك أن هذه الدولة نجحت -عبر أجيال ثلاثة- في بناء بعض من شرعيتها (شرعية الأمر الواقع) التي تمدها بأسباب البقاء”. وما يقره النص هنا هو حقيقة صلبة كبرى من حقائق الحالة العربية الراهنة، وليس تفصيلا طارئاً على هامشها، وهذه الحقيقة تقول إن “الدولة القطرية” الطارئة، على رغم ضعفها، وهشاشتها، وعدم شرعيتها من منظور القوميين، وتحالفاتها وولاءاتها الخارجية، وعدم شعبيتها المُفترضة، إلا أنها هي، وليست مشروع الوحدة، ما تمكن من الاستمرار والنجاح. وفي ما خص شرعية هذه الدولة على وجه التحديد لا يقول لنا النص، المتسرع هنا، ما هي الشرعيات الأخرى التي تقوم عليها الدول غير شرعية الأمر الواقع؟ فسواء كانت دولا نشأت في أعقاب تجزئة أو أعقاب توحد فإن الشرعية الوحيدة التي عبرها تستمر هذه الدولة أو تلك هي عمليّاً شرعية الأمر الواقع (باستثناء الدولة القائمة على الغصب واحتلال الآخر)، ولا ينفي هذا الواقع الرفض اللفظي لها.
لكن على رغم ذلك يُسجل لنص “المشروع النهضوي العربي” محاولته المهمة في صوغ نوع من المصالحة بين “القومي والقطري”، وذلك على قاعدة اعتبار أن تقدم وتنمية وقوة “الدولة القطرية” تصب في نهاية المطاف لصالح مشروع الوحدة، وبالتالي يقطع مع بعض المقاربات القومية المتطرفة التي كانت ترى في نجاح “الدولة القطرية” إمعاناً في البعد عن الوحدة وتأكيداً على عدم الحاجة إليها. وهنا يقول النص “كلما أحرزت الدولة القطرية تقدماً في توحيد كيانها الوطني، وفي تحقيق التنمية الاقتصادية والعلمية، وفي توزيع الثروة توزيعاً عادلاً، وفي بناء أسس حياة ديمقراطية، وفي حفظ أمنها الوطني وتنمية قدراتها الدفاعية من أجل ذلك، توافرت لمشروع الوحدة العربية مقدماته التحتية الضرورية”. وترسم هذه المصالحة النظرية خطّاً فاصلا مع أية تصورات قد تشترط إضعاف أو تدمير “الدولة القُطرية” كشرط لقيام دولة الوحدة، وكأن الثانية لابد أن تقوم على أنقاض الأولى. وسواء في الحالة العربية أو في الحالات الأخرى فإن التجربة التاريخية تشير إلى أن ترسخ الثقة المحلية، والسيادة “القطرية”، وارتفاع مستويات التنمية والاقتصاد، وخفوت المخاوف من الدول المجاورة يدفع بالمزاج السياسي والشعبي نحو قبول أشكال وصيغ تعاون إقليمية أوسع تقوم على قاعدة تعظيم المصالح المشتركة للدول المنخرطة في الصيغة الإقليمية المعنية. ولكن يتردد النص ويحجم عن اعتبار المصالح المشتركة هي جوهر ومحرك أي صيغة من صيغ التعاون الإقليمي، ونلمح هنا التوتر بين ما هو مؤدلج سابقاً، وما هو مثبت واقعاً بالسياسة والتاريخ المعاصرين. ذلك أن الآلية الحقيقية والناجعة للعمل المشترك هي من أسفل إلى أعلى وبالتدريج ووفقاً لتناغم مصالح كل الأطراف والوحدات المشاركة في صيغة التعاون الإقليمي.
والأمر الثاني الذي يستحق وقفة خاصة به هو استسهال النص إحالة جزء من مسؤولية إعاقة “الوحدة العربية” على الخارج والمؤامرات الخارجية، مُعيداً إنتاج أحد المناظير الإبستمولوجية التي تعزز الشلل الذاتي في التفكير العربي. ففي أكثر من موقع يشير إلى الأطراف الخارجية والمشروعات الإقليمية، الشرق أوسطية والمتوسطية، أو مناطق واتفاقيات التجارة الحرة، التي تهدف “إلى فك الرابطة القومية والإقليمية بين البلدان العربية، وإعادة ربط هذه بمراكز إقليمية أو خارجية وتزوير هويتها”… كما “تنشط قوى الهيمنة العالمية إلى تمزيق النظام العربي أو إلحاقه بأطر أوسع غير عربية”. وهناك تعميم وتعويم في التحليل هنا، فمن ناحية أولى ليس هناك مشروع وحدة عربية يستحق أن تنتفض قوى “الهيمنة العالمية” ضده وتتآمر عليه. ومن ناحية ثانية، وخاصة في المشروعات المتوسطية واتفاقيات التجارة الحرة، حاول كثير من الجهات ضمن “قوى الهيمنة العالمية”، وخاصة في أوروبا، الضغط على الدول العربية كي توحد موقفها (لا أن تمزقه!) إزاء كثير من الاتفاقيات لكي تأتي بـ”موقف عربي كتلوي” حيث يسهل ذلك على أوروبا التعامل مع العرب ككتلة واحدة. وهذا ما كان مأمولا من الحوار العربي- الأوروبي الذي استمر سنوات طويلة ثم توقف لأن العرب فشلوا في الوصول إلى مواقف محددة ومشتركة إزاء كثير من القضايا. والقفز عن حقيقة العجز الذاتي وإحالتها إلى “نظرية المؤامرة” هو إبقاء على وثوقيات وهواجس الغرب الذي يتحكم في كل تفاصيل حياتنا، وهي وثوقيات مُحبطة للإرادة وللفعل الإيجابي. ولا يعني هذا تبرئة الغرب ولا قوى الهيمنة العالمية من البطش والحروب والتآمر في المنطقة لتحقيق مصالحها، ولكن هذا ديدن السياسة في التاريخ، والكرة تكون دوماً في ملعب من يسمح بحدوث ذلك كله في ملعبه ولا يقاومه، واللوم الأكبر يقع عليه.
والأمر الثالث الذي يلفت الانتباه في “المقاربة الوحدوية” في النص النهضوي هو تقديمه لنظرية بالغة الحسم، وضعيفة الأساس الموضوعي والعلمي والعملي، تجاه علاقة الوحدة بالأقليات غير العربية. فهنا ينزلق التنظير في حماسة غير موضوعية تنقله من واقعية التأكيد على الشرط الديمقراطي واعتباره بوابة “الوحدة”، بمعنى ضرورة أن تسعى الشعوب العربية نحوها وتعبر للوصول إلى استنتاج مفتعل يقول فيه إن النظام الديمقراطي (في سياق أطروحة الوحدة) “يؤمن إمكانية حل قومي لمسائل الاندماج لدى الجماعات الإثنية في الوطن العربي داخل دولة الوحدة”. فهناك أولا ميكانيكية ساذجة يفترضها النص بأن الديمقراطية توفر الاندماج لهذه الأقليات، التي تدحضها التجربة التاريخية المعاصرة حيث يقود الخيار الديمقراطي والاستفتاء في بعض الأحيان، إلى التجزئة والمطالبة بحق تقرير المصير (عربيّاً مثل جنوب السودان، وأوروبيّاً مثل دول البلقان، واحتمال انقسام بلجيكا ديمقراطيّاً، وربما في المستقبل المتوسط أسكتلندا عن بريطانيا، وكاتالونيا عن إسبانيا). وهناك ثانيّاً السؤال الذي لا يعالجه النص وهو: لماذا تريد جماعة إثنية معينة غير عربية عرقيّاً أن تندمج وتذوب في إطار عربي أوسع من إطار “الدولة القطرية” الذي تعيش فيه، وما هو “الحل القومي” الذي يوفره لها مثل ذلك الاندماج، في حين أن “القطري” على “قطريته” مجحف بحقوقها؟ لماذا، مثلا، نفترض أن يتحمس أكراد العراق، أو أمازيغ الجزائر، أو “فولان” موريتانيا لوحدة عربية ستزيد من تذويبهم وتهديد قومياتهم وهوياتهم الإثنية التي يصارعون للحفاظ عليها ضد ما يرونه سيطرة عربية حتى في بلدانهم القُطرية؟
الاتحاد