عندما تصبح “ولاية الفقيه” دلالة على الإفلاس العربي
أُبيّ حسن
يشيع البعض على “حزب الله” اللبناني أخذه بمبدأ ولاية الفقيه على الصعيد الديني/المذهبي, وهذا الموضوع كان محط اهتمام الكثير من الموظفين من كتّاب البترودولار
(خاصة في صحيفتي الأمير خالد والأمير سلمان “نفعنا” الله بصحافتهما), تحديداً في السنتين الأخيرتين.
بداية ينبغي التأكيد على أنه من المعيب حقاً القول بأن حزب الله في لبنان عبارة عن حزب إيراني محض, ويعمل وفقاً للأجندة الإيرانية في المنطقة, إذ في هذا الكلام الكثير من الامتهان لضحايا لبنانيين, وتضحيات آخرين منهم في الوقت نفسه. وكأنه ليس للشيعة بشكل عام, ولحزب الله بشكل خاص, في جنوب لبنان أرضاً (كانت) محتلة طوال عقود من الزمن, وكأنهم لم يفقدوا أهلاً وأحبة, ولم تثكّل أمهات وترمل نساء, وييتم أبناء, جرّاء ذلك الاحتلال؟ كأن شعبهم في الجنوب كان يعيش حياة دعة وسعادة كتلك التي يعيشها البعض في “قريطم” وسواه من قصور يعربية؟!
صحيح أن حزب الله صديق حميم لإيران وهو يراعي مصالح أصدقائه الإيرانيين وحتى السوريين في لبنان, تماماً كما يراعي “تيار المستقبل” مصالح أصدقائه الإسرائيليين وأولياء أمره السعوديين والأمريكيين في لبنان ذاته.
وصحيح أن حزب الله يتبع عقائدياً لإيران, لكن لا أعرف حتى الآن أين الغضاضة بأن تكون عقيدته الدينية إسلامية شيعية ومرجعيتها إيرانية(على الأقل من وجهة نطر خصومه)! أو ليس الكاثوليك في العالم يتبعون إلى الفاتيكان عقائدياً؟ وهل تبعية الكاثوليك الدينية, على مستوى العالم, للفاتيكان تعني تبعيتهم له سياسياً أيضاً؟. وهل تبعية بعض المسلمين السنّة للأزهر تعني تبعيتهم سياسياً لمصر؟. لاشك إن للوضع اللبناني خصوصيته, انطلاقاً من إدراكي بتلك الخصوصية أعلم أن المقارنة سالفة الذكر تنطوي على بعض القسرية.
لا يخفي حزب الله صداقته لإيران ولا المساعدات التي يتلقاها منها, وهو قد أعلن ومنذ زمن طويل على لسان أمين عامه السيد حسن نصر الله انه ليس بصدد إقامة دولة إسلامية في لبنان, وهو بهذا المعنى أسقط الكثير من أدبياته التي كان قد انطلق منها ووفقاً لها!. لكن لتتحدث لنا دار الفتوى اللبنانية عن المساعدات التي تأتيها من السعودية وأين توظف تلك الأموال؟, وللعلم هي مساعدات مالية تفوق أضعاف ما يتلقاه حزب الله مالياً من إيران(وهذا ما أشار إليه صراحة الشيخ ماهر حمود في لقاء له مع غسان بن جدو على قناة الجزيرة في فترة الأحداث التي شهدها لبنان قبيل اتفاق الدوحة). في السياق ذاته, لماذا لا يذكر البعض القداس الذي يقيمه بعض موارنة لبنان لأجل فرنسا؟. وهذا يعني, وفقاً لمبدأ القياس الإسلامي, أن الموارنة يتبعون عقائدياً وبالتالي سياسياً لفرنسا!, كتبعية سنّة لبنان, أو بعضهم, للسعودية أو مصر, أيضاً انطلاقاً من مفهوم القياس!.
قبل الاسترسال بالموضوع لا بأس أن نعرج قليلاً إلى ولاية الفقيه التي تعريفها وفقاً للفقه الشيعي: “هي ولاية وحاكمية الفقيه الجامع للشرائط في عصر غيبة الإمام الحجة, حيث ينوب الولي الفقيه عن الإمام المنتظر في قيادة الأمة وإقامة حكم الله على الأرض”. طبعاً تستند تلك الولاية إلى العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية, ومن تلك الآيات “أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم” 59 سورة النساء, وثمة العديد من مشايخ الشيعة كتبوا حولها ونظّروا لها, منهم على سبيل المثال لا الحصر السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني الذي وضع كتاباً من أربع مجلدات بعنوان “ولاية الفقيه في حكومة الإسلام”, والشيخ عبد الله جوادي الآملي والشيخ محمد تقي مصباح اليزدي. قبالة ذلك هناك العديد من كبار مشايخ الشيعة كانوا ضد هذه الولاية التي أرسى دعائمها موسوي الخميني بعيد انتصار ثورته أواخر سبعينات القرن الماضي, منهم الشيخ أبو القاسم الخوئي الذي لم يكن يعتقد بها وهو المرجع الشيعي الأعلى في زمانه وقد عاصر الخميني قبل وبعد ثورته!. حتى أن الشيخ حسين الخميني(حفيد زعيم الثورة الإيرانية موسوي الخميني) هو أيضاً ضد تلك الولاية, ويذكر ما هو أبعد من ذلك, إذ يقول ما نصه حرفياً, إن بلاده “تعيش الآن تحت حكم استبدادي لرجال الدين الملالي الذين سيطروا على جميع مناحي الحياة”, مشيراً إلى انه إذا حكم إيران “سوف يجعل ارتداء الحجاب مسألة حرية شخصية للنساء ويقيم ديموقراطية حقيقية بعيدة عن ولاية الفقيه(هل يجرؤ “خادم” الحرمين على القول إنه سيجعل الحجاب أمراً شخصياً في مهلكته؟)”, معتقداً أن “الحكم الديني في إيران يقيد المرأة بعد أن فرض الحجاب بأبشع أنواعه, وهو اللباس الأسود مع انه يمكن أن يكون بألوان مختلفة, وتخرج الطالبات من المدارس والجامعات بسواد يثقل على القلب, وأنا بصورة عامة مع الحجاب ولكن ليس بهذه الصورة, والحجاب أمر شخصي إذا أرادته المرأة فلها ذلك وإذا رفضت فلها ذلك, وقريبات كثيرات لجدي الخميني كن غير محجبات” (“العربية نت”, 31/أيار/2006).
طبعاً قبل التعليق على ما سبق ذكره, ينبغي القول إن الدافع الرئيس للكثير من ملالي إيران للقناعة بولاية الفقيه والعمل بها هو القمع والاضطهاد الذي عانت منه المؤسسة الشيعية ممثلة بحوزاتها في عهد الشاه رضا خان بهلوي, فكان من الطبيعي أن تأتي ردة فعلهم مضاعفة إلى درجة مأسسة تلك الولاية حفاظاً على مكاسبهم السلطوية في الحد الأدنى, وكرد اعتبار لهم ولمؤسستهم على مالحقهم من ذل ومهانة في عهد الشاه رضا.
عطفاً على ما سبق, أن المتأمل في ولاية الفقيه كما أوردناها في التعريف, سيرى أنها موجودة في صلب الأدبيات الإسلامية السنّية المتشددة كأدبيات أبي الأعلى المودودي وأحكامه السلطانية وأدبيات سيد قطب وحسن البنا الخ… ممن نظّروا للدولة الإسلامية, فهل يعادي أو ينتقد خصوم ولاية الفقيه ما ورد في أدبيات بعض المنظرين السنّة لها؟.
من جانب آخر, إننا نعيش راهناً عربياً لا يختلف في جوهره عن ولاية الفقيه! فمن هو حاكم الدولة العربية والإسلامية-عدا لبنان- لا يعتقد أنه ظل الله على الأرض؟! صدقاً من هو؟, وبماذا يمكننا أن نفسر الترسيمة التي يفتتح بها جلاوزة العرب المعاصرين قممهم العربية؟ إذ تقول الترسيمة: “اجتمع أصحاب الجلالة والمعالي والسيادة والسمو” وكما هو ملاحظ كلها صفات إلهية(الذي لفت انتباهي إلى هذه الترسيمة هو الدكتور أحمد برقاوي في حوار أجريته معه لجريدة “النور” أواخر 2003)!. نقول هذا مع يقيننا أن أولئك الحكام هم نتاج الثقافة الإسلامية التي يتولّى الدفاع عنها, بالدرجة الأولى, الإسلاميون الذين يعادون حكّام بلادهم!.
وإني لاستغرب فعلاً كيف تثور ثائرة البعض(بدفع من السعودية طبعاً) ضد ولاية الفقيه في الوقت الذي يعتقد فيه البعض من المتدينين المسلمين السنّة(في طليعتهم السعودية) أن مجرمين وقتلة وزنادقة كخلفاء بني عثمان هم خلفاء لرسول الله! وقل الأمر نفسه في الكثير من الخلفاء المسلمين الذين قرأنا عنهم في كتب التاريخ! إذ هم في نظر ذلك الوعي الديني, الذي ينتقد ولاية الفقيه على الطريقة الإيرانية, خلفاء لرسول الله وطاعتهم واجبة في الوقت الذي قد لاتكون شهدت معها البشرية سلاطيناً يفوقونهم تجبراً وفسقاً وفجوراً!.
وبماذا تختلف ولاية الفقيه في مضمونها عن حركة الآنسات القبيسيات؟ أو عن حركة أي رجل دين في العالم الإسلامي, سواء أكان متشدداً أم معتدلاً, يدخل السرور قلبه وهو يرى النسبة المرتفعة لممسوخي العقول يتبعونه ويبايعونه؟ لماذا النظر إلى المسألة بمكيالين؟.
بالعودة إلى لبنان والتهم الظالمة التي توجه إلى حزب الله وأمينه العام بشخصه بهدف النيل منه, نرى انه لا يعيب حسن نصر الله أن يكون له حليف خارجي لاسيما في ظل تواطؤ عربي علني وسافر ضده. ونستطيع أن نضيف القول: إن لبنان ومن قبل أن يتشكل ككيان كانت ولاءات طوائفه دائماً لخارج ما, فولاء الدروز كان لبريطانيا وولاء الموارنة لفرنسا والأرثوذكس لروسيا والسنّة للسلطنة العثمانية. ويُلاحظ في هذه الحقبة غياب لشيعة لبنان وولائهم لخارج ما, والسبب ببساطة لأنهم كانوا مهمشين وبقوا كذلك إلى أن ظهر السيد موسى الصدر وأسس حركة إحياء محرومي لبنان (حركة أمل التي انشق عنها حزب الله في ثمانينات القرن الماضي), ومن الطبيعي أن يصبح للشيعة حليف خارجي شأنهم شأن ما تبقى من طوائف لبنانية حافظ معظمها على تحالفات خارجية, خاصة أن لبنان الوطن الجامع لكل أبنائه لم ير النور بعد ولن يراه على المدى المنظور.
لن نجد صعوبة كي ندرك أن السبب في الهجوم على حزب الله والتشهير به ناجم عن الإنجازات التي حققها في أرض المعركة ضد العدو, وهي إنجازات تغيظ, على ما يبدو, قبائل الاعتدال العربي التي ليس لديها ما تقدمه سوى المزيد من التبعية للخارج والمزيد من التآمر على “أشقائها“.
إن إكثار الحديث (والتشهير) بولاية الفقيه إن دلّ على شيء فإنه يدل على إفلاس العرب عن تقديم أية رؤية للمستقبل, وعن عجزهم عن مواجهة الواقع ومشاكله, طبعاً من بعد عجزهم عن “رمي” إسرائيل في البحر وفشلهم في السلام معها فيما بعد, فقد كان من الطبيعي أن يخترعوا “عدواً” وهمياً, وهذا الوهم إن دلّ على شيء فإنه يدل على حالة الخواء التي تنخرهم حتى النخاع.
وكلامنا هذا, وما سبقه من حديث في بداية المقال, لا ينفي مطلقاً أن لإيران, من وجهة نظرنا, مطامعها في المنطقة وهذا أمر بديهي, إذ هي دولة إقليمية عظمى(ناهيك عن أنها دولة- أمة) ومن حقها أن تبحث عن مصالحها الاستراتيجية حتى لو تطلب منها الأمر توظيف الدين في هذا الصدد. ومن ينتقد توظيف إيران للدين من خلال رعايتها لحركات التشيع في عدد من الدول العربية يتجاهل كلياً رعاية السعودية لنشر التسنن على الطريقة الوهابية وسواها من طرق في عدد من الدول العربية والغربية, وهذه مفارقة كثيرون منا يتجاهلونها متعمدين.
لا أخفي نفوري الشخصي من ملالي إيران ومشتقاتهم التي أراها في فضائيات كـ”العالم” و”المنار”, وتنتابني هواجس عدة إزاء مشروع أولئك الملالي. وقطعاً لست من أنصار ولاية الفقيه, ولست من أنصار حزب الله وإن كنت أحترم كفاحه وجهاده ودماء شهدائه. وأعتزّ كثيراً بالسيد حسن نصر الله, فعلى الأقل هو السياسي الوحيد الذي عاصرناه لا يكذب, ويشهد له خصومه قبل أصدقائه بالصدق, وهو الوحيد الذي يقرن قوله بالعمل ما أمكن. ونفوري من ملالي إيران لا يعادله شيء سوى الخوف الحقيقي, لا المفتعل, الذي ينتابني عند رؤيتي لرجال اللاهوت الوهابي وسواهم يغزون الفضاء بذقونهم الكثة, ومن خلال جملهم السجعية المنمقة وعيشهم في أوهام الماضي يدعون إلى الله, من بعد أن عجزوا(حالياً على الأقل) عن غزو العالم بسيوفهم
أُبيّ حسن: ( كلنا شركاء ) 9/6/2008 .