عن النموذج التركيّ وإمكانية الاحتذاء به عربيّاً
بقلم: عمر قدور
ممّا لا شكّ فيه أنّ النموذج التركيّ، الذي يقدّمه التعايش القسريّ بين حزب العدالة والجيش الآن، أصبح محطّ رهان للكثيرين ممّن يتطلعون إلى خاتمة “سعيدة” للتجاذب بين الطرفين، وعلى الأرجح فإنّ الخاتمة المأمولة تتجلّى في صيغة “لا غالب ولا مغلوب”. كما أنّ هذا التطلّع لا يقتصر على جهات إقليميّة، بل إنّ الخاتمة المُشار إليها مرغوب فيها من قوى دوليّة فاعلة، يُستثنى من ذلك فقط أولئك الذين يراهنون على انحراف حزب العدالة باتجاه أيديولوجيّة دينيّة، على الطريقة العربيّة، بعد تحقيق فوز ساحق على القوى العلمانيّة المناوئة له، وينظر مثل هؤلاء إلى براغماتيّة حزب العدالة على أنّها تكتيك اضطراريّ، وربّما نوع من التقيّة السياسيّة. سيكون من الضروري إذاً، فيما عدا الفئة الأخيرة، أن نرى المصالح الإقليميّة والدوليّة المتنوّعة التي تدفع، أو تضغط أحياناً، باتجاه نجاح التجربة، وربّما إعاقتها إذا اقتضت المصالح الكبرى ذلك، وهذا لا ينفي إطلاقاً الديناميكيّة الداخليّة التركيّة التي تبدو فعّالة حتّى الآن.
إنّ كاتب هذه السطور إذ يتفهّم التطلّعات الأيديولوجيّة التي تراهن على فهم معتدل للإسلام، يمثّله حزب العدالة، مقابل إسلام متطرّف يحيط بالتجربة التركيّة جغرافيّاً وفكريّاً، فإنّه في الوقت نفسه يرى المعيار الأيديولوجيّ قاصراً بمفرده عن الإجابة على “نجاح” النموذج التركيّ في غياب، أو تغييب، للممارسة السياسيّة التي أوصلت النموذج إلى ما هو عليه. وما يتعلّق بالسياسة وممارستها، ولنقلْ ما يتعلّق أساساً بإنشاء الدولة الحديثة، يبدو جوهريّاً في أيّ مقارنة نسوقها بين الإسلام التركيّ الحاكم والإسلام العربيّ، أو غير العربيّ، الذي يعتنق مبدأ الحاكميّة ويتوق إلى ممارسته. وعلى نحو أعمّ فإنّ غياب السياسة قد يدفع النخب العربيّة، إن جاز التعبير، إلى توسّل مقاربات تجد منطقها في الأيديولوجيا أكثر ممّا تجد مشروعيّتها في الواقع. وإذ تبدو فكرة توطين النموذج التركيّ عربيّاً مغرية إلا أن المخاطرة الفكريّة تبقى ماثلة من حيث افتراق مسارات هذه التجارب منذ مطلع القرن الماضي، حتّى مع الإقرار بـ”تقدّميّة” التجربة التركيّة قياساً إلى جوارها الإقليميّ. ولعلّ أوجه الافتراق والاختلاف هي ما يدلّنا على الممكنات المهدورة، حتى الآن، في التجارب السياسيّة العربية، وربّما في التجربة الإيرانيّة أيضاً.(1)
قد يكون من المصادرة البدء بالقول إنّ المؤسّسة العسكريّة التركيّة كانت نواة بناء تركيا الحديثة، لكنّ تفحّص دور هذه المؤسّسة منذ انهيار الإمبراطوريّة العثمانيّة يبدو ضروريّاً لفهم محوريّته وكونه العامل الحاسم في الإبقاء على الدولة التركيّة، أو لنقل الإبقاء على مسار الدولة كما عرفناه. إنّ محكّ هذا الكلام يتجلّى في أنّ المؤسّسة العسكريّة التركيّة كانت هي المؤسّسة الأحدث، أي بالضبط الأكثر حداثة، منذ نهاية الحكم العثمانيّ،(2) وهذه الحداثة اتّخذت طابعاً نهائيّاً وحاسماً مع انضمام تركيا إلى الجناح العسكريّ لحلف الناتو. ومن المعلوم أنّ انضمام أيّ قوّة عسكريّة إلى حلف الناتو يستلزم مقدرات تقنيّة وتكتيكيّة عالية، وهذه لا تتوافر إلا بوجود درجة عالية من المأسسة والانضباط، يُضاف إلى ذلك، وهذا هو الأهمّ، العقيدة القتاليّة التي يتمتّع بها الجيش في حال انضمامه إلى الحلف، وتأثيرات وجوده ضمن الحلف على مجمل أدائه ودوره. بتعبير آخر؛ كان الجيش التركيّ منذ البداية المؤسّسة الأكثر حداثة، وكان وجوده في حلف الناتو ضمانة لاستمراريّة حداثته من جهة، وضمانة لعدم انحراف الدولة التركيّة عن المسار التحديثيّ من جهة أخرى.
بل إنّ ارتباط الجيش التركيّ بمنظومة فوق وطنيّة منحه استقلاليّة مهمّة لجهة دوره في التجاذبات السياسيّة الداخليّة، وحتّى في الأوقات التي تدخّل فيها الجيش كقوّة قمع داخليّة لم يكن أداة انقلابيّة لتغليب مصلحة فئة ما وتأبيدها؛ إنّه بالأحرى تدخّل أمانةً لعقيدته المتمثّلة بالحفاظ على الجمهوريّة التركيّة ولضوابط وجوده في منظومة دوليّة “حلف الناتو”، سواء اتفقنا مع العقيدة والضوابط أو لم نتّفق.(3) هنا ستبدو المقارنة مجحفة بحقّ الجيوش العربيّة، سواء تلك التي قادت انقلابات على نظم برلمانيّة حديثة العهد ثمّ استقرّت في السلطة أو تلك التي نشأت أصلاً على عقيدة حماية السلطة، فالجيوش العربيّة إمّا زاولت السلطة بشكل مباشر أو انحصرت مهمّتها الأساسيّة في حماية السلطة من خصومها في الداخل، أي أنّها لم تجرّب الاستقلاليّة، ولم يُقيّض لها أن تكون قوّة من قوى الضغط السياسيّ كما في النموذج التركيّ. بصياغة أخرى؛ لم تشتبك الجيوش العربيّة بمشروع الدولة الحديثة بقدر ما اشتبكت بمشروع السلطة، ولم تشتبك بمنظمة فوق وطنيّة تساعدها على الارتقاء فوق دورها السابق المحدود أو تمنحها عقيدة تتجاوز عقيدة المُلك.(4)
من ضمن عوامل متعدّدة يبرز دور الجيش التركيّ كضامن للتجربة السياسيّة وحامٍ للدستور، وبما أنّ الجيوش العربيّة غير مؤهّلة للعب هذا الدور فإنّ جزءاً من الاهتمام الفكريّ والقانونيّ ينبغي أن ينصرف إلى البحث في البدائل المحليّة الممكنة فيما لو انعقدت النيّة على الاهتداء بالنموذج التركيّ أو بنماذج أكثر تقدّماً للدولة الحديثة. فالبلدان العربيّة، في قسم لا يُستهان به على الأقلّ، تبدو مهدّدة في وجودها وكينونتها، وتطرح سلطات الأمر الواقع نفسها على أنّها الضمانة الوحيدة لوجود الكيان الوطنيّ برّمته، خاصّة مع بروز النزعات تحت الوطنيّة في أكثر من بلد. ففي الواقع لا نرى في أيّ بلد عربيّ مؤسّسة حداثيّة تكون بمثابة مهماز لتحديث الدولة، أو تكون بمثابة ضمانة لوجودها. أمّا الدساتير المكتوبة، القابلة للتعديل بمشيئة الحاكم أو غير المعمول بها أصلاً، فتفتقر إلى القوّة التي تجعلها سارية بغضّ النظر عن مصالح الفريق الممسك بالسلطة أو المُلك.(5) وعندما تفتقر القوانين إلى قوّة الإلزام فإن أقلّ ما يحدث هو الانحدار إلى العصبيّات، فتصبح القوّة هي الفاعل الذي يرفض الانصياع لأيّ قانون ما دامت القوّة الوسيلةَ الأقصر للسلطة والثروة.
يقرّ الكثيرون، ضمناً أو علناً، بأنّ البلدان العربيّة ما تزال تفتقد إلى حدّ كبير ديناميكيّةَ التحوّل إلى الدولة، وتفتقد تالياً، وعلى نحو خاصّ، المؤسّسة التي تضمن سلميّة هذا التحوّل وديمقراطيّته. وبدلاً من أن تكون الديمقراطيّة ضمانة لمشروع الدولة تمثُل الديمقراطيّة كخطر يهدّد بقاء الدولة؛ هذا على الأقلّ ما يصوّره، أو يتصوّره، البعض مستهدياً بالمحاولات الديمقراطيّة الفاشلة في أكثر من بلد عربيّ. أمّا الوجه الآخر فيتمثّل في أنّ غياب الدولة والديمقراطيّة يعزّز من روابط ما قبل الدولة ومن نزعات التطرّف الدينيّة وغير الدينيّة، فالاعتدال هو ابن الدولة أوّلاً وابن الممارسة الديمقراطيّة تالياً؛ حيث لا وجود لكائن معنويّ اسمه الدولة إن لم يدعّم بقوتَيْ الحياد والقسر القانونيّ، هذا إن تجنّبنا استخدام تعبير “الدولة العلمانيّة” المثير للجدل.(6)
من وجهة نظر شكلانيّة بحتة، وعلى سبيل التوضيح، تبدو الأنظمة الملكيّة العربيّة أكثر قابليّة للتحوّل إلى مشروع الدولة، فيما لو سلكت هذه الملكيّات سبيل الانتقال إلى ملكيّات دستوريّة. من المرجّح أن يصدم هذا الرأي حماس الجمهوريّين، على اعتبار الملكيّة نظاماً يرجع إلى حقبة حضاريّة منقضية، لذا أكرّر أنه مشروط بوجود مشروع الانتقال إلى الدولة، ومحكّ ذلك وجود هيئةٍ “النظام الملكيّ” تضمن استمراريّة الدولة، وتضمن سلميّة الانتقال وسلميّة تداول السلطة، وتستخدم قوّة الإلزام عند الضرورة لوقف الانحرافات التي قد تعترض أيّ تجربة من هذا القبيل. بتعبير آخر؛ تبدو المؤسّسات الملكيّة العربية، إن جاز التعبير، هي الوحيدة الموجودة في الواقع، والقادرة على القيام بالدور الذي قام به الجيش التركيّ، فيما لو اختارت هذه الملكيّات سبيل الانتقال الدستوري، وهذا مستبعد حتّى الآن بنسبة كبيرة.(7)
أمّا في النمط الهجين عربيّاً المسمّى جمهوريّة، والذي يجمع امتيازات الملكيّة مع أكبر صلاحيّات معروفة للنظام الرئاسيّ، فإنّ الفشل الذي يطالعنا في أكثر من بلد لا يقتصر على تعثّر إجرائيّ لمشاريع التحديث بل يتعدّاه إلى الإجهاز على فكرة المؤسّسة الحديثة عبر إنشائها شكلاً وإفسادها من حيث الجوهر. ولعلّ الأخطر من ذلك في أكثر من بلد هو ربط وجود الكيان ذاته بوجود السلطة، مع ملاحظة أنّ هذه السلطة لا تملك، على الصعيد النظري، مشروعيّة الديمومة. إنّ “القلق” المنهجيّ الذي تتسبّب به الأنظمة الجمهوريّة العربية يصل إلى حدّ التخوّف على وجود الكيان الوطنيّ نفسه، وينذر بحروب أهليّة دامية؛ أي أنّ التغيير الديمقراطيّ يتمّ تأويله على أنّه تهديد للاستقرار والسلم الأهليّين في غياب مؤسّسة وطنيّة ضامنة وحامية للتغيير. والحقّ أنّ وجود مؤسّسة وطنيّة قادرة تُناط بها حراسة التحوّل الديمقراطيّ قد يكون الحلّ للقلق المنهجيّ الذي يتخلّل النقاش حول الديمقراطيّة أيضاً؛ فمن جهة لا يمكن الوثوق بصناديق الاقتراع في غيابٍ للثقافة الديمقراطيّة، ومن جهة أخرى لا يمكن تصوّر انتشار للثقافة الديمقراطية دون ممارسة لها.(8)
وفق المعطيات السابقة أيمكن لنا توقّع ظهور إسلام سياسيّ عربيّ على غرار حزب العدالة التركيّ؟ أعتقد أنّ هذا رهن بقبول الإسلاميّين العرب لفكرة الدولة لا انتقائهم منها للديمقراطيّة فحسب، وإذا تمّ تخصيص الإسلاميّين فلأنّهم يطرحون، علناً أو مداورة، فكرة الحاكميّة، وهذا لا يعني بأيّ حال شيوع فكرة الدولة عند الأطراف الأخرى. وإذا كان من مؤشّر يدعو إلى قدر ضئيل من التفاؤل فهو انضمام بعض البلدان العربيّة إلى منظومات دوليّة، كما في مشاريع الشراكة الأوربيّة، إذ من المأمول أن يؤدّي ذلك إلى فرض معايير حداثيّة، ولو بالحدّ الأدنى، على هذه البلدان، ولعلّ هذا ما يفسّر انضمام بعض البلدان العربية إلى هذه المنظومات على مضض، أو مع إبداء تحفّظات على البنود التي تنال من رسوخ سلطاتها. وبالمقارنة نجد أنّ تركيا حسمت خياراتها مبكراً، بل إنّها أصبحت مشاركاً فعّالاً في إقامة منظومات دوليّة أو إقليميّة جديدة.
بعبارة أخيرة؛ أعتقد أنّ التنازع على فهم الإسلام واحتكاره، في جانب منه، هو تنازع على السلطة. وكما تحتكر الأنظمةُ السلطةَ والثروة العامّة فإنّ التنظيمات الإسلاميّة تسعى إلى احتكار الرأسمال الرمزيّ لشعوب المنطقة، وما لم تقتنع الأنظمة والتنظيمات بالتخلّي عن جزء من هيمنتها والانتقال إلى الدولة الحديثة فإنّ النموذج التركيّ الراهن، على علاته، سيبقى بعيد المنال.
الهوامش:
* هذا المقال نوع من المشاركة في النقاش الذي أثاره مقال الدكتور صادق جلال العظم بعنوان “الدولة العلمانية والمسألة الدينيّة- تركيا نموذجاً”، ومقال الأستاذ جاد الكريم الجباعي بعنوان “الدولة العلمانية والمسألة الدينيّة”، المنشورين في الأوان على التوالي بتاريخ 23/5/2010 وبتاريخ 29/5/2010.
(1) من المفيد التذكير بأنّ تجربة رضا بهلوي في إيران قد تزامنت تقريباً مع التجربة الكماليّة في تركيا، لكنّ إجهاض تجربة مصدّق كان بدوره إيذاناً بنكوص التجربة البهلويّة عن مسارها التحديثيّ وبصعود الملالي على أنقاضها.
(2) في أواخر العهد العثماني أرسل العديد من البعثات العسكريّة للدراسة في الغرب، وقد قامت البعثات العائدة بدور هامّ في إعادة هيكلة الجيش وتحويله إلى نواة مؤسّسة حديثة.
(3) لا يعني الحديث عن الدور التاريخيّ للمؤسّسة العسكريّة التركيّة عدم انتفاء هذا الدور حاليّاً أو مستقبلاً، أو حتّى أن تتحوّل هذه المؤسّسة بدورها الحاليّ إلى عبء على التجربة بعد أن تكون قد استنفذت أغراضها التاريخيّة.
(4) يمكن أن نضيف في الحالة العربيّة أجهزة المخابرات التي شكّلت مع الجيوش “الوطنيّة” الذراع الضاربة للسلطة في وجه القوى الداخليّة المناوئة لها، وعلى العموم اختصّ الجيش والمخابرات بأمن السلطة أكثر بكثير من اهتمامها بأمن الدولة.
(5) حتّى في الجمهوريّات العربيّة يبدو تعبير المُلك أكثر ملاءمة لواقع الحال، مع الأخذ بالحسبان تضاؤل الفوارق الفعليّة بين الملكيّات والجمهوريّات العربيّة.
(6) يعتقد كاتب هذه السطور أن علمانيّة الدولة متضمنة في حيادها والمقوّمات القانونيّة الإلزاميّة لاستمرار هذا الحياد.
(7) نشير هنا إلى الفقه الدستوريّ الذي أبقى على الملكيّة في بريطانيا، ويتلخّص في ضرورة وجود مؤسّسة تضمن استمراريّة الدولة والحكم في حال تعطّلت الحياة السياسيّة لأسباب قاهرة كأن يتعرّض البلد لاحتلال مثلاً.
(8) لا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ الحديث انصبّ على المؤسّسات الفوقيّة، بالتعبير الماركسيّ التقليديّ، بسبب غياب أو ضعف قوى الإنتاج الصاعدة عربيّاً، ويمكن الاستفادة في هذا الصدد مما أفرده الدكتور صادق جلال العظم في مقالته عن علاقة حزب العدالة بالرأسمالية التركيّة الصاعدة، ومقارنة ذلك بالنمط الريعيّ أو الخراجيّ المتسيّد عربيّاً، والذي يجعل من السلطة وسيلة للسيطرة على الثروات العامّة، مع التنويه بأنّ الرأسمالية بطبيعتها تضغط من أجل بيئة قانونيّة تسمح لها بالحريّة والمنافسة أكثر.
موقع الآوان