في تاريخية الإسلام المعاصر وحداثته
ياسين الحاج صالح
إلى روح نصر حامد أبو زيد)
الإسلام المعاصر منخرط في التاريخ، متفاعل معه، متشكل به، كما لا بد له من أن يكون، وخلافاً لما يفضل أن يعتقد عموم الإسلاميين وعقائديي الحداثة. ليس صحيحاً بحال أن هناك إسلاماً يشبه ذاته فحسب، يقف قبالة، وضد، حداثة منفصلة عنه ومختلفة عنه تماماً. هذا تصور يصلح لبناء المعسكرات الإيديولوجية وخوض المعارك الاجتماعية والسياسية، ولا يصف شيئاً من العمليات الواقعية. في واقع الأمر بين «الإسلام» و «الحداثة» علاقة تفاعلية مركبة. ثمة إسلام يتحدّث، وثمة حداثة عبر الإسلام. وإن كان يتعين أن نفكر في تحدّث الإسلام وفي اشتغال الحداثة (ومنها العلمانية) عبره، بلغة وصفية وليست معيارية.
الإسلام يتحدث بمعنى أنه يستجيب تحديات الحداثة، ينفعل بها ويجيب عنها. «الحاكمية الإلهية» للشيخ المودودي وسيد قطب استجابة إسلامية للحداثة، على رغم أنها تعي ذاتها كمبدأ متعال لكل سياسة إسلامية. الواقع أن الحاكمية نسخة إسلامية عن أصل حديث: الدولة السيدة، ذات الطابع «الشمولي» بخاصة. كان المودودي معجباً بالنظام الاشتراكي الوطني في بداياته، وسجن سيد قطب ثم أعدم في ظل النظام الناصري. وبالمثل، الحكم «الثيوقراطي الديموقراطي» للشيخ القرضاوي صيغة حديثة للحكم الإسلامي، على ما هو واضح من هذا التعبير الغريب والمتناقض ذاته. وكذلك معادلات مثل القرآن هو الدستور، والفقه هو القانون وأشباهها. ولا يبقى الإسلام هو نفسه حين تكون الشورى هي الديموقراطية، وفق تأويل حديث رائج. ومجرد النقاش عما إذا كانت الشورى ملزمة أم لا يشير إلى تغير كبير، حرضت عليه «معاشرة الأوروبيين والوقوف على حال الغربيين»، كما قال رشيد رضا قبل نحو قرن. معاشرة الأوروبيين وحال الغربيين عبارات عن خبرة محسوسة، تحيل إلى إلزامات التاريخ، أو ببساطة «الحداثة».
وإزاءها، يتشكل «الإسلام» في صور متغيرة ويظهر استعدادات مغايرة تفاعلاً مع طلبات لا تنبع منه تلقائياً، وتُلزِمُه أن يجيب عن أسئلة ويستجيب حاجات تشبه زمنها أكثر مما تشبهه. وإذا كان يتحول هكذا إلى «إيديولوجية سياسية» بحسب داريوش شايغان، فإن هذا التشكل الإيديولوجي هو أيضاً وسيلة لاكتساب قيم جديدة واستيعاب معان وتوجهات غير مسبوقة، وما كان ممكناً تصور انبثاقها من التعاليم الدينية بذاتها. هذا شيء مهم مبدئياً من حيث أنه يتجاوز الاندراج السلبي في التاريخية إلى الاكتساب والاستيعاب، ويتجاوز «التحدُّث» أو التشكل وفقاً للحداثة إلى التحول وتغير الذات.
يبقى واضحاً مع ذلك أن «الحداثة» هي الجهة السائلة والمبادرة، وأن الإسلام ينفعل بها ويجيب عن أسئلتها. هذا على رغم إصرار الإسلاميين، مثقفين وسياسيين، على الأصالة والخصوصية الإسلامية. والأمر جليٌّ جداً في عقيدة «الإعجاز العلمي». في الظاهر تؤكد هذه السيادة المعرفية للنص الإسلامي الأول، لكنها في الواقع تستتبع النص لتطور العلوم، التاريخي جداً والمقيم دوماً في أفق النسبية.
يكشف هذا النهج حدود الحداثة أو التحدّث الإسلامي. هو تشكل وفقاً للحداثة، قد يتضمن اكتساباً لمعان جديدة، لكن إبداعيته محدودة وقدرته على إنتاج الحداثة محدودة أكثر. لماذا؟ لأن التحدث الإسلامي سلبي أساساً، المبادرة فيه للواقع التاريخي الحديث، وليس للإسلام كيفما فهمناه. يَخفى اتجاه الفاعلية هذا على الوعي الذاتي الإسلامي الذي يتصور استجاباته الحداثية وفاء منه لأصل ثابت وعودة إلى النبع الإسلامي الصافي. لكن هذا يجعل سلبية استجابته مضاعفة: فقدانا للمبادرة، ووعياً أيديولوجياً مقلوباً بالعمليات الواقعية. والمحصلة هي حداثة برانية منفصمة الشخصية، تتفكك كل حين إلى تاريخية لا تماسك لها (انجراف وغيرية محض) وإلى مبادئ جامدة منعزلة عن الحياة المتجددة. التركيبات المزدوجة، الحداثية الإسلامية، التي لمحنا إلى عينات منها («الثيوقراطية الديموقراطية» وشقيقاتها)، لا تتماسك أبداً لهذا السبب بالذات.
لكن أين يكمن السر في تناقض الوعي الذاتي للتحدث الإسلامي؟ في صميم ما للإسلام، أم في التاريخ ذاته؟
ربما في العلاقة بينهما.
اندرجنا في التاريخ الحديث بفعل صدمة، سماها هشام جعيط «الصدمة الغربية». جدلية الحداثة – الصدمة، أو الحضارة – السيطرة أثارت تفاعلاً إسلامياً ارتكاسياً. فمن أجل مقاومة السيطرة يجرى الاستناد إلى المفاهيم السائدة للإسلام، الأمر الذي يتعارض مع مقتضيات إدخال التعدد والتاريخية والعقلنة في المجمل الإسلامي. لكي يكون فهمنا للإسلام سنداً لصمودنا، ينبغي أن يكون هو ذاته واحداً صمداً. هنا أصل «صناعة فهم الإسلام» الحديثة، هذه التي تنتجه ككيان مصمت لا يأتيه التعدد. في المقابل، من أجل إصلاح هذا الفهم أو إعادة هيكلته لا مناص من النفاذ إليه وفتح نوافذ وأبواب فيه، «تحليله» و «تفكيكه»، الأمر الذي يتعارض مع مقتضيات مقاومة السيطرة.
هذه جدلية فاعلة في التاريخ العربي الحديث منذ أيام رفاعة الطهطاوي، وتجسدت يوماً في الثنائي جمال الدين الأفغاني الذي اهتم بالدفاع عن الإسلام في مواجهة الغرب، ومحمد عبده الذي ركز على الإصلاح الديني والتربوي. وهي حية اليوم، تبرز مفاعليها بوضوح تام في أوقات المواجهات مع قوى غربية أو مع الاستطالة الإسرائيلية التي كان لحروبها الدورية، حرب كل عقد، أكبر الأثر في دوام هذه الثنائية. يحصل أن يحسم بعضنا أمرهم لمصلحة «الحداثة»، لكن دوام مفاعيل ثنائية الحضارة – السيطرة يضعفهم اجتماعياً، ويحول حداثتهم إلى إيديولوجية لا تؤكد جانباً من الواقع إلا بالتكتم على جانب آخر منه، ولا تتماسك من دون استناد أوسع الى الغرب، أي من دون مزيد من التبعية الفكرية والنفسية، وليس مزيداً من الاستقلال والحرية على ما ينتظر من الحداثة. في المقابل، تناط بالإسلام مطالب تماسك واعتصام وتوحيد وتحصن وممانعة وجه تاريخ ممزِّق. لكن لا يسع مفهوم الدين أن يلبي هذه المطالب من دون أن يتكور على ذاته ويدير ظهره للعالم، مقصياً كذلك كل تعدد واختلاف من داخله. هذا وجه لإعادة هيكلة فهم الإسلام، أو صناعته الحديثة، أي لتاريخيته.
أننا نحتاج إلى التاريخ لفهم تصلب المفهوم الإسلامي المعاصر، وأن المفهوم المتصلب هو نتاج للحداثة.
والخلاصة أن التحدث الإسلامي محقق، أنه ليس هناك سؤال في خصوص تاريخية الإسلام المعاصر. لكن هناك أسئلة في شأن نوعية التفاعل الإسلامي والحداثة الإسلامية المتحصلة عنه. واضح أنها حداثة معاقة. ما يتشكل سلبياًَ بالتاريخ لا يسعه أن يشكل التاريخ إيجابياً. التحول نحو الإيجابية يقتضي تكرّساً أوسع للشغل على المجمل الإسلامي. لكن هذا ذاته لا يثمر من دون تحول في الظروف الواقعية. فإذا التقى عمل الثقافة والذكاء المحقق على فهم الإسلام مع تغيرات واقعية موجبة كانت فرص تجدد تاريخي اختراقي كبيرة.
خاص – صفحات سورية –