خـطــــآن مـؤسفــــان !
ميشيل كيلو
عندما بدأت حركة «حماس» تبرز على المسرح الفلسطيني، قلت مع آخرين: ليس من حق حماس اقتراف أي خطأ جسيم، لاعتبارات منها أنها أول تجربة معاصرة يمارس الإسلام الإخواني فيها الحكم، بعد تعهده قبول النهج المدني والحكومة الدستورية والعمل القانوني، وأن سلوكها سيحسب على الحراك الإسلامي بأسره، وسيعتبر مقياسا لصـــدق تعهداته ولحقيقة مواقفه، ستكون له نتائج فائقة الأهمية على موقف العالم العربي من الإسلام السياسي عامة، وحركة الإخوان المسلمين خاصة.
قلت، ككثيرين غيري: أتمنى أن تلتزم حماس بما تقول، وأن لا تخضع مصالح فلسطين العليا لاعتبارات حزبية أو مذهبية، وتمنيت أن ترى نفسها بدلالة المصالح الفلسطينية العليا، وأن تبلور سياسات إجماع وطني عبر حوار يشارك فيه الجميع، تفيد فيه من درايتها السياسية وتجربتها النضالية وتضحياتها، وتقنع قطاعات شعبية واسعة بما تراه، وتكسب عطفها وتأييدها، فيضطر من يخالفونها الرأي في التنظيمات الأخرى، وخاصة منها حركة فتح، على خطب ودها والتعاون الميداني معها، كي لا يعزلوا أنفسهم عن الشارع الفلسطيني، ويتراجع تأثيرهم عليه، ويفقدوا حظوتهم عنده.
لم تفعل الحركة شيئا من هذا كله، بل بلورت موقفا أقام ازدواجية في العمل الوطني الفلسطيني، استندت إلى استراتيجيتين متنافستين، ارتبطتا بقاعدتين شعبيتين مختلفتين، وبعمقين عربيين متصارعين، وبعدين إقليميين متعاديين، يحاول كل منهما استخدام قضية فلسطين كورقة ضد الآخر، في عملية ليس لها أية علاقة بفلسطين، تستهدف تقوية مواقعه الخاصة، في الصراع ضد خصمه، وتمنحه القدرة على إلحاقه بمخططاته وأهدافه، ثم ما لبثت أن اعتمدت سياسة تخوين طاولت كل من لا يتفق معها في الرأي، وخاصة في حركة فتح. بهذا التطور المؤسف، وبردود الفعل عليه، انتقل التناقض العدائي بين فلسطين والعدو المحتل إلى داخل الصف الوطني الفلسطيني، ولحق ضرر فادح بالشعب وقضيته، بلغ حده الأقصى عندما شهد قطاع غزة حربا أهلية قصيرة وعنيفة جدا انتهت بطرد حركة فتح منه، وبانفراد حماس بالسلطة فيه. تجاهلت الحركة، في هذه الأثناء، أن الانقسام الفلسطيني هو مصلحة إسرائيلية عليا، وأن إسرائيل ستكون من «تحرير» غزة من فتح فصاعدا حريصة عليه، وستعمل على تغذيته وتعميقه، لتقويض الموقفين العسكري والتفاوضي الفلسطيني، ولإضعاف أعظم نضال وطني عرفه العالم في أي عصر ودفعه إلى التلاشي.
لكن الضرر لم يقتصر على فلسطين وقضيتها، بل تعداها إلى مصداقية الحراك السياسي الإسلامي في عموم المنطقة، حيث أثار سلوك حماس الاقتناع بأن ما قاله ممثلوه لم يكن صحيحا، بل اندرج في إطار خدع ومناورات تكتيكية، تمهد لاستيلاء الإسلاميين على السلطة ولإقامة نظام عسكري الطابع والممارسات، ليس في هياكله وسياساته أي جانب مدني أو توافقي. من غزة فصاعدا، فقد كثيرون ممن أيدوا الإصلاح المدني الإسلامي، وبشروا بجديته وتفاءلوا بنتائجه، ثقتهم بما قاله الإسلاميون، واقتنع من طالبوا بالانعطافة الإسلامية المدنية أنها فشلت، وأن عليهم مقاومة وقوع السلطة في يد الإسلاميين، الذين سيضيفون إلى الاستبداد العلماني استبدادا دينيا أعمى، يرضخ شعب غزة دون مبرر له، وهو الذي وضع ثقته الانتخابية في حماس، لكن هذه اضطهدته وجوعته وردته في مناح متنوعة من حياته إلى ظلمات العصر الوســـيط. كـــانت حماس أملا، فصارت جزءا من الخيبات التـــي قتلت روحنا، وأدخلت اليأس إلى قلوبنا.
هناك قوة أخرى في منطقتنا كنت أتوقع وأتمنى، كغيري، أن لا ترتكب أي خطأ جدي بالنظر إلى رمزية أفعالها ودلالاتها بالنسبة إل المنطقة كلها. هذه القوة هي أكراد شمال العراق، الذين يحتلون موقعا شديد الحساسية، يجعل كل ما يفعلونه يحسب عليهم وعلى الأكراد عموما: في سوريا وإيران وتركيا، فإن كان صحيحا ونافعا أفاد منه عامة العراقيين، أكرادا وعربا، والأكراد خارج العراق، في هذه الحقبة، التي سقط العراق فيها تحت احتلال عسكري يمزق دولته ويثير تناقضات عدائية بين مكوناته، ويهدد استقلال دول الجوار، وينهك العالم العربي، الذي ترغب دول إقليمية عديدة في اختراقه وزيادته ضعفا على ضعف، بينما يتصاعد خطر إسرائيل، وتصميم الصهاينة على انتزاع حصة كبيرة من نظام إقليمي جديد، تعتبر نفسها ركيزته الأولى، وإيران ركيزته الثانية، أما الثالثة فتركيا. وللعلم، فإن تبلور هذا النظام دفع الصهاينة إلى بذل جهود تستهدف تهميش العرب كليا، وتعظيم وزنهم العسكري والتكشير عن أنيابهم، لزيادة ثقلهم ورعيتهم في عموم المنطقة وعند أميركا، والانخراط من موقع قوي في الصراعات المعلنة والمضمرة مع طرفيه الآخرين: إيران وتركيا، التي اقتحمت الساحة بقوة عاصفة، وتبنت موقفا متشددا من فلسطين، يجاري كلاميا الموقف الإيراني ويتفوق عليه ميدانيا. في هذه الفترة، المفعمة بالمخاطر، كان من المنطقي أن ينتهج قادة أكراد العراق سياسة تعزز مصالحهم ودورهم من خلال تعزيز مصالح وطنهم ودوره واستقلاله. لكن الأخ مسعود البرزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، قال لجريدة «نيويورك تايمز»: «إن الحديث عن عراق موحد هو أشبه بأحلام ورغبات العصافير»، ودعا إلى تقسيم بلاده وجعلها فيدرالية تضم ثلاثة أقــــاليم: «كـــردي في الشمال وسني في الوسط وشيــــعي في الجنوب». وهدد بأن بديل هذه الفيدراليـــة سيكون تقســيم العراق وفـــصل شماله عنه.
أثار استغرابي أن يطالب البرزاني بتقسيم العراق على أسس قومية ومذهبية، كأن تقسيمه بأي ثمن مطلبه الذي لا يتخلى أو يتنازل عنه، ربما لاعتقاده أن تقسيمه سيعزز وضع الأكراد، وسيـــزيد وزنهم وتأثيرهم، وسيمكنهم من تحقيق ما تعــــهد بتحقيقه: «وحدة أرض الأكراد التاريخية»، التي ستضـــم كركوك وأقساما من محافظة نينــوى تلتحق بإقليم كردستان العراق. يريد الأخ مسعود تقســـيماً يضعف العرب والتركمان، ويضعهما تحت رحمة الدولـــة الكردية الجديدة، التـــي تقوم منذ احتـــلال أميركا للعراق بسرعة وتدبير مبرمجين.
في هذه الحالة أيضا، لن يصدق أحد أن الأكراد خارج العراق لا يريدون الانفصال عن أوطانهم، أو فصل أجزاء منها وإقامة كيان سياسي مستقل عليها، إن توافرت لهم أجواء مناسبة يتيحها احتلال أجنبي أو ضعف عربي تجاوز كل حد وصار خطيرا على العالم العربي، لأنه يغري جميع جيرانه: من أضعفهم إلى أقواهم، بالتعدي عليه. بدل أن يعمل الأخ مسعود على بنـــاء كردســـتان وتقويتها سبيلا إلى بناء العراق واستـــقلالهم، لأن في هذه السياسة بالــذات مصلحة أكراد العراق والمنطقة، وطمـــأنة سوريا وإيران وتركيا إلى نوايا أكرادها، والحــــيلولة بين البلدان الثلاثة وبين محاصرة وخـــنق كردستان العراق ومواطنيها من الأكراد، تـــراه يبادر إلى ارتكاب أخطاء قاتلة ستـــضر كثيرا بالقضية الكـــردية العادلة، يمليها عليه اعتــقاده أن اللحظــة الراهنة سانحة لن تتكرر، أو لا تسمح بخيارات أحسن، كتحقيق أهداف الأكــراد بالتــــراضي، دون ابتـــزاز الآخرين ووضعهم أمام أمر واقع يرفضونه.
ثمة معادلة أتمنى على الأخ مسعود تأملها، أطرحها في صيغة سؤال: ماذا سيفعل، إن استعاد العراق قوته وبدأ يضايقه ويسد طريق البحر أمامه؟ إنه سيلجأ إما إلى سوريا أو إلى تركيا أو إلى إيران، وسيجد نفسه مجبراً على الخضوع لشروط هذه البلدان وحساباتهما، بينما يناصبه أبناء وطنه العداء ويعملون لتقليم أظافره! هل تغيب عن رجل أريب مثله هذه لحسبة البسيطة؟ وهل يصح أن ينتهج سياسات تقسم العراق مذهبيا، تستغل ضعفه للقضاء الناجز عليه كدولة وكبلد موحد؟ إن الأخ مسعود يغلط بحق الأكراد قبل العرب، عندما يعتبر «الحديث عن العراق الموحد أشبه بأحلام ورغبات العصافير»، كما قال للجريدة الأميركية.
لم يعد طريق العودة عن الخطأ متاحا أمام حماس، إلا بصعوبة فائقة. أرجو أن لا يكون طريق العودة عن الخطأ مغلقا أيضا أمام الأخ مسعود، ليس لأن نهجه يضر بالعرب أو بالعراق وحسب، بل قبل هذا وذاك بالأكراد، الذين تتركز عليهم أعين المنطقة من أفغانستان إلى مشارف أوروبا التركية، ومن المحيط الأطلسي في أقـــاصي المغرب العربي وموريــتانيا إلى أعمــاق أفريقيا في السودان.
أخيرا، ليس احتلال العراق نهاية التاريخ، وهو بالــــتأكيد ليس نهاية العرب. ومن يعلق مستقبله على لحــــظة عابرة من الحاضر، فسيتخطاها العرب ذات يـــوم، مثلما تخطوا غيرها في تاريخهم القديم والحديث، قد يندم كثيرا، ساعة لن يفيده ندم!
السفير