مرحلة انتقال عربية: لماذا لا تسمع الأنظمة؟
ميشيل كيلو
من الواضح لجميع من يتابعون الوضع العربي الراهن أنه يمر في طور انتقال. ويجمع من يعرفون الأحوال على أنها لن تدوم، بسبب طابع المرحلة الانتقالي، وأن النظم العربية جميعها تجد نفسها في مواجهة الحاجة إلى إصلاح جدي، كثيرا ما قال المطالبون بتحقيقه إنه رهن بموافقة السلطة عليه، ما دام إجراؤه من دون موافقتها أو إرادتها ضرباً من المستحيل. بالمقابل، اعتقد كل من كان يتابع تطورات ويعرف وقائع العقد الأخير أن التنكر للإصلاح ليس حلا، وأنه لن يؤدي إلى خفوت المطالبة العامة به، بل سيزيد الهوة بين الحاكمين والمحكومين، وسيدخل النظم جميعها في نفق لا مخرج منه، وقد يدفع بالمحكومين إلى ممارسة العنف الفردي أو التمرد الجماعي، وهو ما وقع بالفعل، في كل مكان من أرض العرب، حيث تعاقب الشعوب منذ قرابة أربعة أشهر نظمها التي رفضت الإصلاح، أو هي تتحين الفرص للانقضاض عليها، خاصة منها تلك التي لا تزال سادرة في غيها، وتزعم أن أوضاع شعبها طبيعية وجيدة، وأنه يمكن تجاوز المطالبة بالإصلاح هذه المرة أيضاً، مثلما تجاوزتها بالأمس القريب، عن طريق الوعود المعسولة، وتخويف الناس من الأخطار الخارجية، وتزييف الوقائع، والأخذ بحلول جزئية وتخديرية، واستغلال وعي الشعب الوطني وحبه لبلاده من أجل صرف أنظاره عن مطالبه وتوجيهها نحو معارك وهمية مع «خارج» يريد فرض الإصلاح علينا، أو يضلل من يطلبونه من مواطنينا، فالامتناع عنه ليس، إذن، رفضا للإصلاح وإنما هو حماية لإرادتنا الوطنية واستقلالنا ـ أو بكلماتنا نحن العربية الواضحة: إدامة لبؤس شعوبنا! بسبب رفض الإصلاح، كان مراقبون كثيرون يعتقدون أن مرحلة الانتقال ستفضي إلى أحد خيارين: واحد راجح وقوي هو ذهاب بلداننا العربية إلى نظم دينية أو مذهبية الطابع، وآخر ضعيف لكنه إنقاذي هو قيام نظم تعيد إنتاج الدولة والسلطة والمجتمع في حاضنة المواطنة وحقوق الإنسان والمساواة والعدالة والدولة المدنية، التي تكفل حريات المواطنين بغض النظر عن دينهم أو انتمائهم الطبقي أو أصلهم، وتعاملهم كذوات قانونية حرة متساوية في الحقوق والواجبات، وفي فرص العمل والتعليم والتقدم. بما أن الخيار الأول كان هو الأرجح، فإن النظم وجدت في نفسها الجرأة على اتهام أنصار التيار الثاني، الديموقراطي، بزعزعة الأمر القائم، ومقاومة السلطة التي تحميهم، بالانحياز الفعلي وبلا وعي إلى الإسلاميين: الخصم المشترك، الذي يجب أن تتضافر الجهود لمقاتلته، دفاعاً عن الأمر القائم، بما أنه قادر وحده على مواجهة الخطر، بإبقاء الحال الراهنة على ما هي عليه، وإن بكثير من القمع، الذي يحول بنجاح دون البديل الإسلامي! هذا الحل عنى أولا: احتجاز الأمر القائم والواقع الراهن والدفاع عنهما ضد أي تغيير أو إصلاح، بحجة أن أي إصلاح يطاول النظام قد يفضي إلى انهياره، على غرار ما وقع في بلدان شرق ووسط أوروبا وروسيا. وبالنظر أن مطالبة الشعب بالإصلاح كانت تتصاعد، فإن احتجاز الأمر القائم وكبح طابعه الانتقالي كان مستحيلا من دون تشديد قبضة من يمسك بمفاصله: الأمن. وشيئاً فشيئاً، دخل النظام في طور فقد معه الرغبة في – والقدرة على – التحرك إلى الأمام، والانتقال إلى مسارات يمكن أن تخرجه وتخرج المجتمع من مآزق كثيرة ومشكلات مزمنة بقيت من دون حلول رغم تفاقمها المطرد والتذمر العام المتصاعد منها. وعنى ثانيا: تهافت شرعية نظام يحتاج بشدة إلى إصلاح عام يطالبه به مجتمعه أو قطاعاته الكبرى، لكنه يمتنع عن تحقيقه ويحكم بالمقابل قبضته على المواطنات والمواطنين ويغرق في فساد لا قاع له، بينما تغطي أجهزته القمعية الرقعة المجتمعية بحضورها الآني، فحضورها فيها استفزاز يومي ومباشر للمواطن، الذي وجد أيدي المنتمين إلى الأجهزة داخل جيبه، تشفط منه جزءا رئيسا من عوائد عمله وعرق جبينه ولقمة أحبائه. لم يتحقق ما كان يقال حول الإسلام السياسي كبديل وحيد للنظم العربية القائمة. ولم تكن واقعية أو صحيحة نظرتها إلى المعارضة، التي رأت فيها شراذم وبقايا أحزاب صغيرة، متلاشية وعاجزة عن الحركة والفعل والخروج من الدوائر المغلقة التي رسمتها السلطة لها. لم يكن بديل النظم إسلاميا، بل كان ديموقراطيا في حالتي تونس ومصر، ويرجح أن يكون كذلك في حالة ليبيا أيضا، وكذلك اليمن والعراق والجزائر والمغرب وعمان والكويت والأردن: إنه بديل موجه ضد طابع نظام الاستبداد القمعي، وضد فساد قادته وأسرهم وزبانيتهم من رافضي الإصلاح ومنتسبي الأجهزة التي على تماس مباشر ويومي مع الشعب. أما المعارضة فهي لم تقتصر على بقايا أحزاب، اطمأنت النظم إلى إفلاسها وفوات وعيها، فاستخلصت من ذلك خطأ أنها صارت بمأمن من الخطر الداخلي، وأنها في أيد أجهزتها الأمنية الأمينة والضاربة. ولم يخطر ببالها أن الشعب بقضه وقضيضه هو المعارضة، وركنت إلى خداع الذات وتوهمت أن ما يعيشه الشباب من عزوف عن السياسة وانغماس في الاستهلاك، وما يعانيه المواطن من انكفاء على النفس وتقوقع على الذات، يوفران لها الاستقرار المديد، إلى أن هبت عاصفة تونس وتلاها إعصار مصر، ثم معركة ليبيا ذات الخصوصيات المحلية والدولية الفائقة الدلالة بالنسبة إلى واقع ومستقبل النظم العربية جميعها، وبدأ الزلزال العربي المخيف يهز أركان الأمر القائم، بل والنظام الدولي بأسره، ويفرض على الحكام رؤية أنفسهم بدلالته أساسا، ويجبرهم على إعادة إنتاج الأسس التي قامت عليها نظمهم منذ عقود، في حاضنة جديدة ليس فيها ما هو مناسب لهم أو في صالحهم؛ حاضنة تفرض عليهم خياراتها، وترغمهم على التخلي عن الحل الذي ابتدعوه لمقاومة الإصلاح: ألا وهو احتجاز حقلي السياسة والمجتمع بقوة الأمن والإفساد والتهويش الأيديولوجي، علما بأن هذا التخلي لم يعد مسألة كيفية يقررها الحاكم، بل غدا أمرا حتميا، إن كان يريد إنقاذ نظامه، وأنه لن يأخذ شكل نمط جديد من الاحتجاز، بل سيكون المدخل إما إلى إصلاح يشبه كثيرا ما طالب الناس بتحقيقه طيلة العقد المنصرم، أو إلى تمرد شعبي عارم، يفرض ما يريد شعب يثق اليوم بقدرته على إنزال الهزيمة بنظمه، مهما كانت قمعية، سبق أن تصدى بنجاح لثلاثة من أسوئها وأسقطها في فترات قياسية، ولم يتردد عن تقديم التضحيات التي تطلبها التخلص منها! إنها، إذن، مرحلة انتقال جديدة، لا تشبه إطلاقا المرحلة القديمة، لأن خيارات النظم فيها محدودة إن لم تكن معدومة، ولأنها لا تسمح بالالتفاف على مطلب التغيير، سواء بالإصلاح أم بالثورة، ولأن التغيير لن يتم بدلالة النظام وأمنه بل بدلالة الشعب وحريته، ولأن البديل سيكون بصورة تكاد تكون حتمية نظاما ديموقراطيا أو خطوات ملموسة نحوه، وأخيرا لأن المشكلة لم تعد مشكلة عدد محدود من المعارضين المطالبين بالإصلاح والتغيير، بل هي معركة مع شعب بلغ من اليأس حدا صار يفضل معه الموت على الحياة في ظل السوط والجوع والفساد، يدفعه الأمل بالخلاص إلى معركة تبدو مضمونة النتائج، هو فيها الفاعل المباشر وحامل مشروع حريته وكرامته، العائد إلى الواقع والتاريخ ليصحح ما اعوج على يد النظم منهما. كان ماركس يقول: إن من علامات سقوط طبقة عجزها عن فهم الواقع. هل هناك عجز عن فهم الواقع يفوق عجز الطبقة الحاكمة العربية عن رؤية شعبها وهو يخرج من نظمها، ويعد نفسه لمعركة ناجحة ضدها، من دون أن تشعر بشيء من هذا أو ترى أية علامة من علاماته، رغم رقابتها الأمنية اللحظية على مواطناتها ومواطنيها؟. وهل هناك إفلاس يفوق إفلاس أجهزة تسمع أية همسة اعتراض أو تحفظ يطلقها مواطن مسحوق في أقاصي البلاد، ولا تسمع هدير البركان الشعبي وهو يتكور على ذاته استعدادا لإطلاق حممه والإطاحة بقمة جبل سلطة، كان القابعون فوقها يظنون أنفسهم بمنأى عن أيدي شعبهم، فوجدوا أنفسهم خلال أيام قليلة تحت أقدامه؟ صار التخلي عن الأمر الراهن قدرا لا هرب منه، فماذا سيختار من يلاعبون الشعب ويتلاعبون بالعقل والواقع، ويتوهمون، في غفلتهم القاتلة، أن عجلة التاريخ لن تطوي راياتهم وتكسر عظامهم؟