يمين ويسار، نهاية الاستعصاء
حسان خالد –
كانت الحياة السياسية في سورية حتى وقت قريب خامدة، ساكنة، مُكَبَّلة بقيود الاستعصاء الذي يُحكِم بقبضته على المجتمع والسياسة منذ عقود، أو منذ أَلغت المادة التاسعة وقريناتها من مواد دستور الجنرال أسد، الدولة والمجتمع على حد سواء. هذا الاستعصاء الذي يَحُول دون الانتقال إلى التغيير الديمقراطي،
طالما هو يسد المنافذ أمام القوى الوطنية الديمقراطية في مسعاها لبث الحركة في المجتمع وإنعاش الصراع والمعركة بين تكويناته السياسية. كما هو يَحجُز أيضا السياسةَ بعيدا عن المجتمع في الحجرات المظلمة للسلطة والمكاتب الحزبية. ويَحُول في نهاية الأمر دون نيل أي تغيير في السلطة والمجتمع على كافة البنى. إلا أن المجلس الوطني لإعلان دمشق، إذ هو يتمخض عن انقسام المعارضة إلى يمين يريد التستر على سياسة الأمبراطورية الليبرالية، ويسار يؤكد بأن الصراع ضد الأمبريالية الأمريكية وحلفائها يسير مع النضال من أجل الديمقراطية جنبا إلى جنب، فإن الحياة تعود لتدب في المعارضة التي كانت حتى وقت قريب ساكنة سكون الاستعصاء نفسه.
إن حل عقدة الاستعصاء التي كانت تُغلق على القوى الوطنية الديمقراطية في دوامةٍ من البحث عن مخرج نحو التغيير المجتمعي والسياسي دونما تقدم يُذكَر، قد بدأت تتبلور عندما احتلت، في شهر كانون الأول الماضي 2007، مسألة الصلة ما بين مقاومة العدوان الأمبريالي والانتقال الديمقراطي حيزا مركزيا في هيكل المجلس الوطني الأول لإعلان دمشق، أدائه وبيانه السياسي. الأمر الذي أدَّى بدوره إلى ظهور كسرٍ في هيكل إعلان دمشق ليشطر قواه إلى معسكرين اثنين، يميني ويساري. مِنه، من هذا الانقسام، هاهي الحلول تظهر الآن لفك عقدة الاستعصاء. فالصلة ما بين القضية القومية التحررية والانتقال الديمقراطي حسب ما يؤكد كلاً من حزب العمل الشيوعي والاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي تستحق حيِّزا خاصا بها من العناية مكافىء لما تحظى به مسألة الحريات. هذه مسألةٌ رئيسة وأساسٌ لكل عمل وأفكار سياسية في الحاضر والمستقبل من أجل إنجاز الانتقال الديمقراطي ومقاومة العدوان الأمبريالي. إذ إن التراجع عن هذه الصلة هو الذي سيَحْكُم على القوى الوطنية الديمقراطية بالبقاء، كما كان عليه الأمر خلال العقدين الأخيرين ونيفٍ، أسيرةً لاستعصائها الذاتي، وحبيسةَ أيضا للاستعصاء المفروض من قبل منشآت السلطات المستبدة وأجهزتها، ويترك في الوقت نفسه المجتمع حيث هو اليوم ضحيةً بين أيدي الاستبداد الكومبرادوي الطفيلي والعدوان الأمبريالي والصهيوني.
لقد كانت القوى الوطنية الديمقراطية حتى غاية انعقاد المؤتمر الأول تدور حول نفسها أسيرةً لمفاهيم السياسة البورجوازية في الجبهة الوطنية العريضة، والوحدة الوطنية، وذلك فيما كانت الليبرالية السورية ممثلة بالسادة سيف وحمصي وخدَّام وبيانوني ولبواني* تحتل رويداً رويداً مواقع أكثر وأوسع في إعلان دمشق والمنظمات الرديفة لها من جبهة الخلاص وعصابة الحمصي في بيروت، والتي لم يُكتب لها البقاء والانتشار إلا بفضل سكوت القيادة المركزية للإعلان عنها. وكانت أسطورة الوحدة الوطنية والجبهة العريضة الواسعة التي تشمل البورجوازية الليبرالية غير المتكوِّنة سياسيا بعد، وإن كانت هي آيلة إلى التكوُّن بالاعتماد على إعلان دمشق، بمثابة الصمَّام الذي يَضمن استمرار الانسداد والاستعصاء المُطبقين في سورية على تطور المجتمع والسلطات على حد سواء.
هي حالٌ من الاستعصاءِ يَحُول دون إنجاز أي تغيير في مجالي المجتمع والسياسية. وكان حتى وقت قريب هذا الحال مرشحا للاستمرار طالما استمرت القوى الوطنية الديمقراطية في إغفالها هذا للصراع الطبقي والسياسي داخل المجتمع السوري وتشكيلاته السياسية. إذ ما لم يقوَ هذا الجسم المعتلُّ باستعصائه على خوض المعركة والصراع داخل المجتمع نفسه وضد السلطة في وقت واحد، بحيث يتفتَّح المجتمع – من جهة – على تناقضاته، وعلى رأسها الطبقية، ويستعيد – من جهة ثانية – حسَّه وفعله السياسي والنظري لمناهضة السلطة، فإن نيل التغيير الديمقراطي لصالح الأكثرية السياسية الجائعة يبقى ضربا من المستحيل. ذلك أن القدرة على كسر الاستعصاء لإيجاد مخرج نحو الانتقال الديمقراطي واستلام السلطة لا سبيل إليه ما لم تَظهر في المجتمع تناقضاته السياسة وتتبلور فيه الصراعات الطبقية. الأمر الذي يجعل اليوم من المؤتمر الأول للمجلس الوطني لإعلان دمشق، وما انتهى إليه من فرز للقوى السياسية إلى يمين ويسار، بداية لانطلاق المجتمع وقد تحرَّر من استعصائه وما كان يشوبه من برامج سياسية قاصرة، كوثيقة إعلان دمشق التي تُسَجِّل لمحاولات الليبرالية التي كانت ترمي إلى تذويب اليسار في هجين خليط عجيب من المفاهيم الغامضة والواهية باسم الوحدة الوطنية والديمقراطية.
هذا الاستعصاء كما تراه الثقافة السياسية في سورية اليوم، هو وليد السلطة ومنشآتها ما تحت القانونية، وأجهزتها ما فوق كل قانون. فإذا سلَّمنا بصحة هذا التفسير الذي يتَّفق مع التحليل العقلاني لدور السلطة من حيث هي تَنْصُب العقبات أمام التحوُّلات التي تَلحق بالمجتمع تحت تأثير الأحداث السياسية والاقتصادية والثقافية، المحلية والعالمية، فإن مثل هذا التحليل يبقى قاصرا عن إدراك مضمون الاستعصاء ما لم يَلتفت، من جهة، إلى جذوره المجتمعية الضاربة في مكونات الأحزاب والحركة النقابية ونشاطات المنتديات والجمعيات، ويتذكَّر – من جهة ثانية – بأن الدولة، أيا كانت هذه الدولة، تبقى متأخرة دوما وراء مطالب المجتمع واحتياجات الشعب وقُوْتَه اليومي، ومطالب قواه العاملة، وعقبة أمام التقدِّم. فليس من الغرابة في شيء أن تكون السلطة وراء هذا الاستعصاء، وأن يكون التطور والتقدُّم وليد المجتمع. والمسألة بهذا المعنى لا تحمل أي جديد.
لكن الثقافة السياسية الراهنة في سورية تُروِّج لليبرالية وتُكرِّس للاستعصاء بعقلية مثالية تارة وتجريبية تارة أخرى عندما تتناسى أن الاستعصاء الذي ينهش في المجتمع ويُقْعِده عن الحركة، لا يأت، فقط ليس غير، إليه وعليه من فوق الرؤوس حيث الأجهزة والمنشآت والإدارات. فالدولة بمثابة رافعة ميكانيكية ضخمة تزيح العقبات التي تَعترض قوى اقتصادية طاغية، أي البورجوازية، وتَهبط بأخرى فوق رؤوس قوى مجتمعية ضعيفة، هي أصحاب الأجور المحدودة، لتطمس الطبقة العاملة وتسدَّ أمامها كل المنافذ للمطالبة بالسلطة. إنما الاستعصاء كان يَتَحكَّمُ أيضا وحتى وقت قريب بالمجتمع والسياسة من وراء المقعد المجتمعي للثقافة السياسية ومتنها عندما غَفِلَت هذه الأخيرة عن رؤية الحواجز والمعوِّقات التي تسلَّلت إليها عبر الثقافة الليبرالية التي تُلغي الصراع الطبقي ومناهضة الأمبريالية، إلى حد أن الثقافة السياسية في سورية لم تعد ترى المنافذ للخروج من علبة الاستبداد الكومبرادوري والضغط الأمبريالي الذي يُغلق عليها الرؤى ويكتم أنفاسها من شدة إفراطها في تعاطي المفاهيم البورجوازية للحرية والحقوق والمواطن والوحدة الوطنية. إن من ينسى أن الحرية رديف للاستلاب يذهب ضحية للاستلاب. أما اليوم، وقد بدأت ملامح اليمين واليسار تتبلور في سورية بعدما كانت ظهرت أول بوادرها مع تشكيل تجمع اليسار الماركسي (تيم)، فإن إغفال التكوين الطبقي والثقافي للتشكيلات السياسية وبرامجها من حيث هو جزء من الاستعصاء لم يعد مصاغاً، لاسيما وأن القوى الوطنية الديمقراطية التي كانت حتى وقت قريب وبصورة متناقضة، ضحية له يبتلعها في جوف الوحدة الوطنية، وحارسا له طالما هي كانت تُغفل المعركة الحقيقية ضد العدوان والاستبداد البورجوازي المتخفي وراء التشكيل الأسري للسلطة، أصبحت قادرة بانفصالها عن الليبرالية وسياساتها وعودتها إلى معركتها الطبقية، قادرة على فكِّ عقدته العصيَّة.
الاستعصاء في سورية ذو تاريخ. فهو لم يهبط من السماء، ولم يخرج فقط من أقبية الاستخبارات وأدوات التعذيب وأبواق الدعاية والإعلام. بل إن تاريخه هو نفسه تاريخ الكسوف الذي حَجب اليسار عن المجتمع السوري ليتركه نهبا لليبرالية. كسوف بدأ في السبعينات مع ظهور الطموحات الإقليمية للكومبرادور في سورية، واشتد مع قمع الطبقة البورجوازية الكومبرادورية لليسار السوري والحركة الوطنية الفلسطينية واللبنانية في السبعينات والثمانينات، لينتهي إلى نزع كل روح للمقاومة من المجتمع في الثمانينات والتسعينات. حتى إذا ما شارفت نهاية القرن، وبدأ معتقلو اليسار بالعودة إلى الحياة من سجون السلطة، وكان العالم في هذه الأثناء شهد نهاية العالم الاشتراكي، وأصبح تحت طغيان الرأسمالية كقوة أحادية في العالم، فإن المجتمع بثقافته السياسية في سورية تحوَّل بأنظار نفسه وتحت سيطرة البورجوازية الكومبرادورية والليبرالية إلى طيف سياسي، وذابت قواه الطبقية والسياسية من أحزاب وتيارات أيديولوجية، في مفهوم جديد اجتاح عالمهم، ألا وهو المجتمع المدني. فإذا عدنا بذاكرتنا إلى السنين القليلة الماضية لوجدنا أن الاستعصاء يسير جنبا إلى جنب مع تغلغل الليبرالية إلى الحركة الاجتماعية، وما رافقها من قفز ما فوق التناقضات بين الطبقات في المجتمع السوري، وذوبان لليسار في هذا الجسم الجديد الذي يسمَّى “الطيف السياسي” والمجتمع المدني، من أندية وجمعيات همها الوحيد وشاغلها الشاغل حقوق الإنسان.
ثم إن الانسداد حاجز منصوب من قِبَل الأجهزة الحاكمة أمام المجتمع ليَحُول دون المجتمع واستلام السلطة من قِبَل القوى المقهورة اقتصاديا وثقافيا. هذا هو حجر الزاوية في الانسداد السياسي والمجتمعي. سقوط النضال السياسي من أجل تسلم السلطة من البرنامج السياسي لإعلان دمشق من حيث هو عائق يقف وراء الانسداد. انظر إليهم. إنهم لا يطالبون بالسلطة ثم تراهم يصرخون بملء أفواههم: الانسداد،الانسداد،.السلطة مسؤولة عن الانسداد. فإعلان دمشق يطالب بانتقال تدريجي وسلمي إلى الديمقراطية. إنه، إذ يتخلى عن المطالبة بالسلطة، فإنه يكرَّس للاستعصاء الذي اشتد ودمَّر الثقافة السياسية حتى بات التخلي عن مطالبة الطبقات الشعبية بالسلطة إحدى حلقات الانسداد وليست منفذا منه نحو الانتقال الديمقراطي المنشود. فلقد حلّت على هذا النحو السياسة الإصلاحية محل السياسة الثورية، ما عزَّز بدوره في صلابة الانسداد السياسي.
هذه الإصلاحية المُحدَثة في قاموسنا السياسي الذي كان يخلو من عبارة الاستعصاء قبل أن تضاف إليه عبارة الإصلاحية ابتداءً من النصف الثاني للسبعينات، تُتَرجم عن رغبة الليبرالية ممثَّلة بالسادة سيف وحمصي وخدام وبيانوني واللبواني في الحصول على إجازة وتسهيلات لبناء المصانع واستثمار لأموالها في مشاريع في سورية تحت سلطة البورجوازية الكومبرادوية أو البورجوازية الديمقراطية. فالبورجوازية السورية التي تََحْكم إعلان دمشق منذ اليوم الأول لولادته تريد المشاركة في السلطة عبر توسيع هذه الأخيرة. إنها تمتنع عن المطالبة بالتغيير الجذري لأنها تريد ترميم الطاغوت البورجوازي وإصلاحه بفتح نوافذه إلى هواء الليبرالية القادم إلى سورية من الجهات الأربع في عهد العولمة الليبرالية، وليس التخلص من هذا الطاغوت من أجل تشيّيِد ديمقراطية تلبي احتياجات الأكثرية المحرومة اقتصاديا.
وللاستعصاء أيضا تاريخ يبدأ مع نجاح العقلية الإصلاحية البورجوازية في تنحية الفكر اليساري الثوري جانبا، لاسيما بعد سقوط حائط برلين. إذ إن ظهور الإصلاحية رافقه منذ العقدين الأخيرين ونيف من القرن الماضي انتشارٌ واسع لأدواتها المُلحقة بها، من طيف سياسي حلَّ محل الطبقات، ومجتمع مدني محلَّ المجتمع البورجوازي، واتفاقية أوسلو والدولتين محلَّ الدولة الديمقراطية العلمانية، ودرجة الصفر على حد قول السيد رياض الترك في توصيفه للوضع الديمقراطي في العراق في أعقاب الاحتلال الأمريكي بدل مناهضة الأمبريالية. أي إن تاريخ الاستعصاء هو نفسه تاريخ التخلي عن صراع الطبقات، والانصراف عن مناهضة الأمبريالية، ونبذ المطالبة بالديمقراطية من أجل القوى الاقتصادية المقهورة والتي تُشكِّل الأكثرية المجتمعية للشعب.
تقع على اليسار اليوم مهمة تحويل هذه الأكثرية المجتمعية وهي قوة اقتصادية، إلى أكثرية سياسية ثورية مؤهلة لاستلام السلطة وإنجاز الانتقال الديمقراطي. وعلى هذا المسار سيَنْجَح اليسار في شق منفذ يقود من الاستعصاء إلى التغيير، وذلك بانتظار موجة ثورية عارمة، كتلك التي أعقبت الكومونة وتأميم قناة السويس والوحدة بين مصر وسورية وحرب المخيمات والانتفاضات الفلسطينية.
حسان خالد – شباط/فبراير 2008
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* يُعرب صاحب هذا المقال عن تضامنه مع كافة المعتقلين السياسيين في سورية بما في ذلك السيدين رياض سيف وكمال لبواني، ويؤكّد أن حريتهم ليست موضع جدل طالما هي مُُصَادََرَةٌ بعنف من السلطة، ويشير إلى أن معركة اليسار الشيوعي ضد اليمين الليبرالي مهما بلغت حدَّتها، فإنها مناهضة للاستبداد في جميع أشكاله بقدر مناهضة الشيوعية للدولة البورجوازية. إن توسيع الحريات والسلطات السياسية للمجتمع مطلب شيوعي.
خاص – صفحات سورية –