الوقائع السبع في انقلاب الجنرال رأسا على عقب
صبحي حديدي
يتداول المعلّقون، ممّن تهمّهم كواليس العلاقات الأمريكية ـ الإسرائيلية، هذا السيناريو ـ الدالّ المعبّر، الطريف الظريف رغم انطوائه على كلّ ما هو قاتم وفاضح ومحزن في أيّ كوميديا سوداء ـ لأحدث الوقائع في تراث الروح الإنهزامية، وعقلية الرضوخ، أمام ضغوط اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة. وهذه المرّة لم يكن الراضخ الخانع الراكع سوى الجنرال دافيد بترايوس، قائد القوّات الأمريكية والأطلسية في أفغانستان، والقائد السابق للقيادة الوسطى CENTCOM، و’البطل الأمريكي الكبير’، حسب توصيف المرشّح الرئاسي الجمهوري السابق جون ماكين؛ و’ألمع رجال أمريكا في العراق وأفغانستان’، حسب بيل كريستول، الناطق غير المعيّن باسم المحافظين الجدد في أمريكا.
1 ـ يبدأ السيناريو من أواخر العام 2009، حين كلّف بترايوس فريقاً من الباحثين العسكريين بزيارة الشرق الأوسط، والاستماع إلى رأي عدد من الزعماء والمسؤولين العرب، حول الأسباب التي تجعل أمريكا مكروهة إلى هذه الدرجة في أنظار أبناء المنطقة… وكأنّ الجنرال، ومعه أفراد الفريق، كانوا يجهلون حقيقة تلك الأسباب! وفي 16 كانون الثاني (يناير)، هذا العام، أرسل بترايوس فريقه إلى وزارة الدفاع الأمريكية، لعرض نتائج الأبحاث على الأدميرال مايكل مولن، رئيس الأركان المشتركة، وقيل إنّ الأخير أُصيب بالذهول وهو يتابع عرض التقرير، الذي استغرق 45 دقيقة، مدعماً بالصور والشرائح والتسجيلات الصوتية والبيانات الإحصائية. والخلاصة، ببساطة، هي هذه: إنّ فشل أمريكا في كبح جماح إسرائيل يعرّض المصالح الأمريكية للخطر، ليس في بلدان الشرق الأوسط وحدها، ولكن في جنوب شرق آسيا أيضاً.
2 ـ في 18 من الشهر ذاته، ومن باب متابعة خلاصات التقرير، أرسل بترايوس إلى مولن اقتراحاً غير مسبوق، يوصي فيه بسحب الضفة الغربية وقطاع غزّة من اختصاص القيادة الأوروبية EUCOM، وضمّها إلى اختصاص القيادة الوسطى، وذلك لمنح العرب إشارة قوية، حتى إذا كانت رمزية، بأنّ الولايات المتحدة تضع النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي في صدارة اهتماماتها، وتعتبره القضية المركزية في المنطقة. وثمة مَن يرجّح (مثل غاري لويب، أستاذ التاريخ في جامعة تافتس، وأحد أبرز المساهمين في المؤلف الهام ‘حروب صليبية إمبريالية’) بأنّ البيت الأبيض، أكثر من الـ’بنتاغون’، كان المقصود بالتوصية تلك، والتي ذهبت أدراج الرياح، بالطبع.
3 ـ في 9 أذار (مارس) قام الأدميرال مولن بزيارة إسرائيل، فاجتمع مع غابي أشكنازي، رئيس أركان جيش الدولة العبرية، وتردد أنّ الأوّل أبلغ الأخير ضرورة أن تضع إسرائيل النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي في ‘سياق إقليمي أعرض’، له تأثير مباشر على وضع أمريكا في المنطقة. وفي اليوم إياه ـ يا لمحاسن الصدف وتصاريف الأقدار! ـ يكون جو بايدن، نائب الرئيس الأمريكي، في زيارة رسمية إلى الدولة العبرية، حيث سيتلقى الصفعة الشهيرة: أنّ حكومة بنيامين نتنياهو لا ترفض تجميد المستوطنات فحسب، ولكنها تستقبل بايدن بالعزم على بناء 1600 مستوطنة جديدة في القدس الشرقية. وقيل إنّ نائب الرئيس استشاط غضباً (خلال جلسة مع نتنياهو، خاصة ومغلقة بالطبع)، فأبلغ الأخير أنّ قرارات كهذه ‘بدأت تكتسي طابعاً خطيراً بالنسبة إلينا. وما تفعلونه هنا ينسف أمن قوّاتنا المقاتلة في العراق وأفغانستان والباكستان. هذا يُلحق الخطر بنا، وبالسلام في المنطقة’. والصحافي الإسرائيلي شيمون شيفر، في ‘يديعوت أحرونوت’، زوّد العالم بتفصيل حاسم أخر، جاء على لسان بايدن خلال تلك الجلسة: سوف يكون لمثل هذه القرارات ‘تأثير مباشر على السلامة الشخصية للقوّات الأمريكية التي تكافح الإرهاب الإسلامي’!
4 ـ في 16 آذار/مارس يمثل الجنرال بترايوس أمام لجنة القوّات المسلحة في الكونغرس (حيث سُيصاب بإغماء مؤقت، استدعى تأجيل الجلسة)، فيقدّم شهادة مكتوبة تقع في 56 صفحة، يقول في إحدى فقراتها: ‘المواجهات الدائمة بين إسرائيل وبعض جيرانها تطرح تحديات ملموسة على قدراتنا في رعاية مصالحنا. ويحدث غالباً أن تنقلب التوترات الفلسطينية ـ الإسرائيلية إلى عنف ومواجهات مسلحة واسعة النطاق. والنزاع يثير شعور العداء لأمريكا، بسبب إدراك تفضيل الولايات المتحدة لإسرائيل. والغضب العربي الناجم عن القضية الفلسطينية يحدّ من قوّة وعمق الشراكات الأمريكية مع الحكومات والشعوب في المنطقة، ويضعف شرعية الأنظمة المعتدلة في العالم العربي. وفي غضون هذا، تلجأ القاعدة ومنظمات أخرى متحزبة إلى استغلال هذا الغضب لحشد الدعم’.
5 ـ في اليوم ذاته، تسارع سارة بيلين، المرشحة الرئاسية السابقة عن الحزب الجمهوري، إلى كتابة مقال في صفحتها الشخصية على الـ’فيسبوك’، توجه فيه الملامة الشديدة للرئيس الأمريكي باراك أوباما، ونائبه بايدن، بسبب ‘اختلاق’ مشكلة مع إسرائيل حول المستوطنات، لن يستفيد منها سوى ‘إيران وحلفائها الإرهابيين’. وإذا كانت بيلين قد تعمّدت توفير الجنرال بترايوس، لأسباب جلية تخصّ موقعه العسكري وشعبيته الطاغية لدى أعضاء الحزب الجمهوري، فإنّ النقد المبطن كان يطاله أيضاً، وربما أكثر من أوباما وبايدن. وأمّا المغزى الأهمّ في مقالة بيلين، فقد كان قرع جرس الإنذار المبكر أمام الجنرال، الذي التقط الإشارة على الفور في الواقع، وابتدأ مسيرة الإنحناء!
6 ـ في 18 آذار/مارس يتلقى الجنرال بترايوس رسالة إلكترونية من أحد المستشارين في وزارة الخارجية الأمريكية، يحيل فيها رابطاً لمقالة تمتدح مواقف بترايوس من النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، وتشير إلى مقالة بيلين، وتضع الجنرال في مصافّ أعلى من الأخيرة في أيّ سباق قادم على بطاقة ترشيح الحزب الجمهوري للإنتخابات الرئاسية. والمستشار هذا أراد لفت أنظار الجنرال إلى أنّ اللعبة أخطر بكثير من الإدلاء بآراء لا ترضي اللوبي اليهودي، لأنها في نهاية المطاف يمكن أن تمسّ مستقبل الجنرال المدني… الرئاسي، في البيت الأبيض، ليس أقلّ!
7 ـ ويقرّر الجنرال إحالة الرسالة الإلكترونية إلى ماكس بوت، عضو ‘مجلس العلاقات الخارجية’ وأحد أشرس، وأغبى، أقلام المحافظين الجدد، فيستعطفه ضمناً: ‘أنت تعلم بأنني لم أنطق بهذا الكلام شخصياً، بل هو مدوّن في شهادة توثيقية فحسب’. ويردّ بوت: ‘لحسن الحظّ، يا أخي، هي محض مسائل في الصحافة ليست لها مصداقية، ولكن أظن أنّ عليّ كتابة مقال آخر قصير، أوضّح فيه للناس ما قلتَه أنت، على نقيض ما في التصريح الرسمي’. وبعد أن يردّ الجنرال شاكراً، يسأل: ‘هل يفيد التذكير بأنني استضفت إيلي فيزل وزوجته في مقرّ أركاننا الأحد الماضي؟ أو أنني سأكون الخطيب الرئيسي في الذكرى الـ 65 لتحرير معسكرات الإعتقال النازية؟’. ذروة المهزلة، السوداء دائماً، أنّ بوت ردّ بالقول: ‘لا أظنّ أنّ لهذا صلة بالموضوع، إذْ أنك لستَ متهماً بالعداء للسامية’!
سبع وقائع كانت كافية لكي ينقلب ضمير الجنرال رأساً على عقب، فلا يكتفي بالتنازل عن تصريحات جاءت مكتوبة باسمه، رسمياً، وأمام الكونغرس، فحسب؛ بل يسقط إلى درك استعطاف واحد من أسوأ كتّاب مجلة ‘كومنتري’، الصهيونية اليمينية المحافظة، لكي يحفظ له ماء الوجه أمام تماسيح اللوبي اليهودي، أو حتى في مواجهة مرشحة خائبة مثل بيلين. وفي المقابل، كيف للمرء أن لا ينتقل من أمثولة رضوخ جنرال هو اليوم الأكثر شعبية في الشارع الأمريكي، إلى أمثولة انحناء الرئيس الأمريكي أوباما، نفسه، أمام نتنياهو؟ وإذا كانت الذريعة، عند المدافعين عن الرئيس، تأخذ بعين الاعتبار انتخابات الكونغرس التكميلية في تشرين الثاني (نوفمبر) القادم، وحاجة الحزب الديمقراطي إلى كلّ صوت يهودي؛ فمتى كان ضغط اللوبي اليهودي بحاجة إلى ذرائع، أصلاً؟
ولقد حدث مراراً أنّ نتنياهو استعاد، ليس دون تفاخر مشروع في الواقع، ذلك الحوار الشخصي الحميم الذي جمعه مع أوباما، حين كان الأخير مجرّد مرشّح للرئاسة، وجاء يزور إسرائيل طالباً البركة والسند، صيف سنة 2008. آنذاك، انتحى أوباما جانباً بزعيم الليكود، بعيداً عن العدسات واللواقط، فهمس له قائلاً: ‘أنت وأنا نشترك في الكثير. لقد بدأتُ على اليسار وانتقلتُ إلى الوسط. وأنت بدأتَ على اليمين وانتقلتَ إلى الوسط. كلانا براغماتي يرغب في إنجاز الأمور’. والحال أنّ سياقات سرد نتنياهو لهذه الواقعة تبدّلت، في كلّ حين تقريباً، ولكنها كانت على الدوام تمزج بين اعتبارات ثلاثة: أنّ نتنياهو لن يستطيع احتلال موقع الوسط، حتى إذا شاء (والدليل ماثل اليوم في حاله مع الاحزاب التي تشكل ائتلاف حكومته)؛ وأنّ أوباما مكره، لا بطل، على الإنتقال من اليسار إلى الوسط، وربما يمين الوسط، بعد أن يقسم اليمين الدستورية؛ وأنّ العلاقات الوثيقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل أعلى، وأرفع، من أن تتأثر بتقلبات أوباما أو نتنياهو، أو أيّ رئيس أمريكي، وأي رئيس حكومة إسرائيلي.
وليس على نتنياهو إلا أن يعيد إنتاج مواقفه السابقة، حين تولى رئاسة الحكومة بعد أن ألحق هزينة نكراء بحزب العمل وشمعون بيريس شخصياً، فضلاً عن تراث إسحق رابين حول صيغ التفاوض مع السلطة الفلسطينية. ففي مسألة القدس كان نتنياهو يسأل، دون أن تغيب عن وجهه تكشيرة خاصة تمزج مَسْكَنة الضحية بغطرسة مجرم الحرب: هل يحقّ لرجل مثل نتنياهو أن يقول لرجل مثل كلينتون إنّ عاصمة الولايات المتحدة هي بوسطن، وليس واشنطن؟ وعن الإستيطان، ثمة سؤال آخر جاهز في جعبة نتنياهو: كيف يمكن لأحد أن يسمح لنفسه بالتفكير، مجرّد تفكير، في مناطق خالية من اليهود Jew-Free Zones في بطاح أرض الميعاد؟ وكيف يمكن لحكومة ائتلاف أن تسنّ سياسة في الإستيطان أقلّ صهيونية من حكومة ائتلاف لحزب العمل، أيام رابين نفسه؟
وفي العلاقة مع البيت الأبيض، والإدارات الديمقراطية عموماً، من الخير العودة إلى المعلّق الإسرائيلي عكيفا إلدار، لاستذكار مقدار النفور الذي حظي به نتنياهو، سنوات 1996 ـ 1999، لدى رجالات إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون، من الرئيس نفسه (الذي استخدم تعبير ‘براز الدجاج’، في إحدى ثورات غضبه على نتنياهو)؛ مروراً بالسيدة الأولى هيلاري كلنتون، وزيرة الخارجية الراهنة؛ وانتهاء بأمثال دنيس روس، أرون دافيد ميللر، وجو لوكهارت (الناطق الأسبق باسم البيت الأبيض، الذي قال التالي في وصف نتنياهو: ‘إنه بين الأشخاص الأشد إثارة للنفور. كاذب وغشاش. حين يفتح فمه، لا تثقْ في أنّ أي شيء يقوله يمكن أن يكون صادقاً’.
ولكن… ما همّ! ألا يستقبله أوباما، اليوم، على رؤوس الأشهاد، ماسحاً سلسلة الإهانات التي ألحقها نتنياهو برجالات الرئيس، وبالرئيس نفسه، في ملفات رفض تجميد الإستيطان، وإرباك العلاقات الأمريكية مع تركيا، وإفراغ انفتاح أوباما على العالم المسلم من آخر مضامين الصدق والمصداقية، وإلقاء سياسة أوباما الشرق ـ أوسطية في مهبّ رياح تتناهبها من كلّ حدب وصوب؟ ومَنْ، حقاً، يلوم الجنرال بترايوس، إذا كان ربّ البيت الأبيض ضارباً بطبل أردأ؟
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس