صفحات مختارة

الله كدلالة لغوية: في تغيرات الفكرة وتحولاتها

null

روزا ياسين

سبق أن عملت حركة الوعي الإنساني على تعريف الله بأشكال غاية في التنوع والاختلاف، وحتى التباين، وربما بدا التقسيم الشائع لفكرة الله إلى مفهومين: مفهوم قديم يعتبر الله قوة خارجية رقابية تدخلية ، نشأت منذ أن بدأ يهوه يختصر تعدد الآلهة فيه ويفرض وحدانية الخالق، ومفهوم آخر أكثر حرية يعتبر الله قوة داخلية أحشائية ، أو بالأحرى قوة في الكائنات المخلوقة، تقسيماً مختصراً نسبياً على الرغم من أن كل ما هو داخلي بالنسبة إلى الفرد هو خارجي بالنسبة للآخرين، فالأنا، كما هو معروف، هي الآخر بالنسبة للغير. على هذا بدت فكرة الله دلالة متبدلة متغيرة منذ أن بدأت تنشأ فكرة التوحيد وقت تبلور الفكرة التوراتية وانتشارها والمحاولات اللاهوتية اللاحقة والصارمة لإقصاء العبادات الملونة للآلهة، ومن ثم المحاولات القانونية والسلطوية التي حظر فيها الإمبراطور البيزنطي تيودوسيوس في عام 389 عبادة الآلهة الوثنية، ودمر على إثر ذلك الكثير من المعابد تدميراً كاملاً على يد الغوط.

ربما كانت الصفة القدرية الباطشة هي الأكثر انتشاراً على مرّ التاريخ من صفات الله. تلك القوة الفوقية الساحقة المقررة والتي كانت عموما من سمات الديانات الرسمية أو ديانات السلطات الثيوقراطية. فإذا كان الله هو مقدّر الحياة والموت، فهو مقدّر لقدرتين متضادّتين تجتمعان في داخل كل كائن: الحياة باعتبارها حركية فاعلة، والموت بكونه ستاتيكاً منفعلاً، ففكرة الله هنا، وعلى الدوام، تتصارع في ذلك الداخل بين اعتباره قوة لتلك الحياة وبين اعتباره قوة لذلك الموت. ويبدو حضوره مقسماً بين ذَيْنِكَ المفهومين.

بالنسبة لنيتشه عنى الموت موت المفهوم القديم عن الله أو التصور القديم له، وموت المفهوم القديم يتطلب خلق مفهوم جديد. وربما هذا ما حدا بالفلسفات اللاهوتية للتأكيد على ارتباط فكرة الله بالفضيلة اللاهوتية أو بالأنظمة الاجتماعية التي تقررها السلطات الثيوقراطية الحاكمة، وتجيير إراداتها إلى إرادة الله، أو العكس، إن صحّ التعبير، أي تشكيل إرادة الله بما يتناسب مع رغباتها، وبالتالي ربط كل من يخالفها بمخالفة الإرادة الإلهية، بالكفر أو الإلحاد والارتداد، ثم صهر فكرة الشيطان بالرغبات الفردية الإنسانية الخارجة عن القطيعية المطلوبة. مما جعل من الله قوّة خارجية مسيطرة قامعة، بيدها مفتاح القدر الذي لا يردّ، ولا نستطيع، نحن البشر الأقزام، تغيير مجرياته المقررة ولا التفكير حتى بمناقشة الأوامر الإلهية. من هنا جاءت فكرة عبد الله القصيمي، في كتابه الجريء والمتميز: الكون يحاكم الإله، باعتبار أن الله يمثّل فكرة العقاب والثواب: (وحدك الذي يحكم بالجريمة والعقاب قبل أن يوجد المجرم المعاقب، ويقود إلى الإجرام لأنه قد فرض العقاب وأراده وسجّله. إنك يا إلهي تصنع الجريمة لأنك قررت العقاب).

الدلالة الأخرى من دلالات الله هي الله الأحشائي، ومن نافل القول التذكير بأن الدعوة المسيحية جاءت مناقضة تماماً لبطش يهوه اليهودي. كانت الفاتحة: “الله محبة ومن يثبت في المحبة يثبت في الله والله فيه” (من رسالة يوحنا الرسول الأولى). كان الله وقتها هو الحب ليس إلا، وسبق أن كتب نيكوس كازانتزاكس الكثير عن هذا الحب، أو عن طاقة الله الإيجابية التي تجعل الشجرة تزهر حين تذكر الله. لكن التدخلات التالية التي طالت الديانة المسيحية جعلتها تنحرف باتجاهات أبعدت الله عن تلك الفكرة العاشقة الحميمية الداخلية، ليأتي الصوفيون الإسلاميون الذين تنبني منظومتهم المعرفية على هدى الحديث الشهير: (كنت كنزاً مخفياً فأردت أن أعرف فخلقت الخلق فَبِي عرفوني). الله الذي يخصّ المتصوفة هو داخلي إحشائي، حيث الذات الإلهية تتجلى في كل مخلوقات الله، مما يجعل الشكل الوحيد الممكن في العلاقة الصوفية هو الحب. فالله باعتباره قوة الحياة يتجلى في كل شيء جميل، وأوّل ما يتجلّى يتجلّى في المحبوب: (إن الله يتجلّى في كلّ معشوق لعاشقه، إذ يستحيل علينا عبادة شخص لا نتمثّل الألوهية فيه). هذا ما قاله الشيخ ابن عربي. كما أنّ الله على ذلك سيتجلّى في دواخلنا، فكلّ إنسان يحمل الله في قلبه، يحمله ملفوفاً بطبقات الشحم واللحم. إذا لا حاجة بالمرء للبحث عنه، كل ما ينبغي فعله أن يمعن النظر في قلبه فحسب. سيغدو الله على هذا هو ضمير كل إنسان، قوة الحياة الفاعلة، طاقة العشق المانحة التي تغير خريطة الأرض، الله على هذا إبداع.

هذه الفكرة بالذات عبّر عنها الحلاج بأبياته:

لست بالتوحيد ألهو غير أني عنه أسهو

كيف أسهو كيف ألهو وصحيح أَنَني هو

مبدأ وحدة الوجود عند المتصوفة، والتي تقول بالتماثل بين الله ومخلوقاته لأنّ في كل منها تجلّيا للذات الإلهية الخالقة، عمّت الأرض فيما اصطلح على تسميته لاحقاً: الكتابة الإيكولوجية. حيث راحت الأصوات تتعالى بأن الأشياء جميعها واحد (روح واحدة تسري في العالم) كما يقول غوته. وذلك منذ أن راح الياباني باشو يكتبها في شعر الهايكو 1644- 1694 مروراً بطاغور ووالت ويتمان وغيرهم الكثير.

امتداداً لفكرة الله الصوفية يرى المنظّر الأكبر ابن عربي في أحد فصوص الحكم (التصدير) أنّ الحق واحد في جوهره، متكثّر في صفاته وأسمائه. على هذا فأفضل معرفة للذات الإلهية هي معرفة الإنسان ذاته وباقي مخلوقاته (المحدثات)، ذلك أن الإله هو الأكثر شبهاً بالمخلوق، أو المخلوق هو الأكثر شبهاً بخالقه. والفكرة لم تبدأ مع الصوفيّين بل هي أقدم بكثير منذ أن خلق الإله البابليّ مردوك الناس كآلهة صغار في أسطورة الخلق الإينوما إيليش حين جبل الطين بدم الربة الأم تعامة. فكرة الله ذي الصفات الإنسانية البشرية فكرة كتب عنها كثيراً، ويبدو الأمر شديد المباشرة في قصيدة الشاعر الألماني ريلكه البديعة: سفر الفقر والموت، التي كتبها في عام 1901، وهي أحد أقسام كتابه: سفر الأوقات. يقول ريلكه مخاطباً الله (في جزء من القصيدة التي ترجمها عبد الرحمن البدوي ونشرها في كتابه: الحور والنور):

(أنت الفقير المحروم من كل شيء، أنت الحجر الدائب الدوران دون أن يجد الراحة،

أنت الأبرص الكريه الطلعة الذي تنبو عن منظره الأحداق

والذي يحوم حول المدن حاملاً شخشاخة

مثلك مثل الريح لا مستقرّ لك ولا مكان

…)

في تفسير البدوي للقصيدة يرى بأن الله هو الشعور الذي يغمر قلوب المؤمنين، والإيمان الحق ما هو إلا إيمان المحرومين والأشقياء والمعذبين من كل الأنواع، فالله الحقّ هو ذلك المتمثل في مشاعرهم، وبالتالي لن يتمثل هؤلاء الله إلا من أشباههم. الله الذي يعرفونه يشبههم بل يماثلهم. أما فرنر كنتر فيرى في كتابه: ملكوت الباطن، أن تفسير قصيدة ريلكه تكمن في ترميزه الفنان بالخالق لآثاره الفنية، كما أنه في كلّ أحاديثه عن الله إنما يريد أن يتّخذ رموزاً تدل كلها على الفنان نفسه وهو بسبيل الخلق الفني.

الله إذاً هو كل فنّان خالق. ومن هنا كانت فاتحة الأناجيل: في البدء كانت الكلمة. ومن هنا كان الله الكلمة، الخالق ومخلوقه واحد، ولأن الكتابة خلق، فالكاتب خالق. ذلك أنّ الروح المطلقة، كما يرى هيغل في كتابه: تاريخ الفلاسفة، كانت تتجسّد في التاريخ من خلال كبار الفلاسفة، وبالتالي تجسّدت حسب رأيه في سقراط وأفلاطون وأرسطو، مثلما تجسدت في ديكارت وكانط، ففي كل عصر (نبيّ) يجسّد العقلانية الفلسفية، وهو، أي هيغل، مقتنع أنّها تجسّدت فيه.

سيغدو الله بناء على ذلك دلالة قوة عقلانية كذلك، وربما أشبه بمشرف أو قائد، فالتاريخ، والرأي لهيغل أيضاً، ليس عبارة عن فوضى مجانية أو أحداث تتطاحن وتتعاقب بدون هدف أو غاية، وإنما هو عقلاني له سبب ونتيجة والله، أو العناية الإلهية، هو الذي يقود التاريخ ويوجهه ويشرف عليه.

لكن الله ليس فكرة صرفة كما أوجزت، وليس دلالة واحدة مكثّفة في مكان واحد، أي أن تلك الصفات المختلفة من البطش والأحشائية والبشرية والعقلية وغيرها متغيّرة متبدّلة. أذكر جملة كتبتها رضوى عاشور في روايتها الجميلة: غرناطة، الصادرة سنة 1994، تقول فيها إحدى الشخصيات، وهي شخصية رجل، لزوجته: (سأموت عارياً ووحيداً لأن الله ليس له وجود.. ومات).

الله، في كثير من الأحيان وعند كثير من البشر، دلالة مشجب، علّاقة حاضرة نعلّق عليها أخطاءنا وآمالنا، مآل مرجعي نلجأ إليه حين نحشر في إحدى زوايا الحياة، أو حين نيأس أو نخاف أو.. وهو القوة التي نصب عليها جام غضبنا إن وصلنا إلى طرق مسدودة أو فشلنا. إنه الطاقة الإيجابية السلبية في آن، فكرة تساعدنا على تحمّل عبثية الحياة ولا منطقيتها.

نهاية لن يكون من السهل الإحاطة بفكرة الله عبر آلاف السنين من عمر الحضارة الفكرية للبشر، الله العاطفة أم الضمير أم العقل أم المعشوق أم المسيطر أو الباطش… ولن يكفّ البشر عن اجتراح تعريفات وآراء وتجليات جديدة عن تلك الفكرة الأساسية، ولن يكون ثمة دلالات منجزة لها يوماً، لأن الله ربما يكون تلك الطاقة التي تحرك الحياة والموت، تحرّك عجلة التفكير، توقد نار الذهن والقلب، ربما كان كذلك أياً كانت التمظهرات والتفسيرات والرؤى والتحليلات، طاقة دفّاقة دونها سيدخل العالم كله في العدم، إن لم يكن العدم أيضاً طاقة بشكل مّا.

موقع الآوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى