حوارات أوكتافيو باث: المنظرون طردوا المبدعين.. لنُعد للمتخيل مهمته
اسكندر حبش
«الوحدة هي العمق الأخير للشرط الإنساني. الإنسان، هو الكائن الوحيد الذي يشعر بالوحدة والذي يبحث عن الآخر»، هذا ما يكتبه الشاعر المكسيكي أوكتافيو باث في كتابه الموسوم «متاهة الوحدة»، وهو المولود عام 1914 في مكسيكو، والذي يُعد واحدا من كبار شعراء أميركا اللاتينية، مثلما يُعد أحد المفكرين المميزين في الأدب.
عمل باث طويلا، كسفير لبلاده في الهند، وهناك، لم يتوقف أبدا عن محاولة مواجهة المفهوم الغربي للإبداع مع المفهوم الشرقي. حاول أن يضع ذلك كله، في قالب واحد، هو مجلته «فويلتا» التي اعتبرت من أهم المجلات الأدبية في أميركا اللاتينية قاطبة، كما أعطى الكثير من المحاضرات في مختلف جامعات العالم. حاز العديد من الجوائز الأدبية (ثربانتس 1981، نوبل للآداب 1990…) وتوفي عام 1998 في مكسيكو. ومع غيابه، يقول ماريو فارغاس يوسا: «أعتقد أنه مع أوكتافيو باث يختفي أحد الوجوه الكبرى للثقافة المعاصرة. بصفته كاتبا ومفكرا وباحثا وضميرا مدنيا، ترك وراءه أثرا عميقا عند كل من المعجبين به كما عند خصومه، الذين تأثروا بأفكاره، بصوره الاستيتيكية، وبالقيم التي دافع عنها بذكاء وشغف…».
نعود لنتذكر أوكتافيو باث، هذه القمة الوارفة، بمناسبة صدور كتاب «أصوات حيّة ـ حوارات» (1955 ـ 1996)، في سلسلة «أركاد» عن منشورات «غاليمار» في باريس، حيث تعيد الدار الباريسية العريقة، جمع 27 حوارا، كانت أجريت مع الشاعر الراحل، وهي تظهر مختلف جوانب أفكاره الشعرية والاجتماعية وحتى السياسية.
الملاحظة الأولى التي تطالعنا عند قراءة هذه الحوارات، هي هذه الدهشة التي تصيبنا أمام غنى وثقافة وإنسانية وعمق هذا الرجل، الذي يقف على درجة كبيرة من العمق والمعرفة. من هنا، لا بدّ من أن نسأل أنفسنا حقا عمّا نعرفه عن الشعر، حين نقع على هذه الأسماء التي يذكرها باث في كتابه، إذ لا بدّ من أن يدفعنا ذلك إلى الإعجاب بهذه المعرفة التي كان يملكها، هذه المعرفة العميقة، غير السطحية بتاتا، المرتكزة على «روحانية» لا يعرفها إلا من هم بطينة باث. لا بدّ من أن يشكل ذلك كله، أمرا رهيفا ومطمئنا وكبيرا، يجعلنا نعيد حساباتنا. لقد اقترب باث في كتاباته المتنوعة، المهمة بدون أدنى تردد، من النقد الأدبي والسيرة، والدراسة الانتروبولوجية والبحث التاريخي والنقد الفني، والدراسة الاجتماعية والمسرح والسياسية وبالتأكيد من الشعر بكل تفاصيله الممكنة.
الندوب الداخلية
في حواراته الـ 27 هذه، يقترب باث من الإنسان تحت مختلف «ندوبه» الداخلية، كما تحت مختلف ثقافاته المتعددة. ثمة بالتأكيد ما يثير فعلا فضول القارئ. أي أننا نقرأ «مجموع كائنات» في فرد واحد، وبخاصة أن الحوارات تعود إلى الوراء، إلى ما يقارب الخمسين سنة (بدءا من العام 1955 وصولا إلى العام 1996) كما أنها تتضمن العديد من الموضوعات، ولا تختصر بفضاء واحد. من هذه الفضاءات، يعود باث ليتحدث عن الفن الشعري، عن الشعور بالنقص عند الإنسان، عن أوهام التقدم التي دمرت كلّ شيء، كذلك لا يتوقف في حواراته هذه عن إظهار كيف أن الحب والصداقة يمكنهما أن يقطعا أنانية الكائن المعاصر. هذا الحب، على قلته الطبيعية والإنسانية، لا بدّ من أن ينتج المتخيل الاجتماعي، أي أنه «اختراق للجنسانية الحيوانية» لتدفع الكائن نحو «مجتمعية ما». يقول أيضا: «الحب هو علاقة الشغف ما بين شخصين وليست أبدا بين جسدين». هكذا تأتي هذه الجملة ببساطة شديدة كي تجعلنا نعيد التفكير بالكثير من الأشياء.
يربط أوكتافيو باث، في حواراته، فكرة الشعر بفكرة المعرفة، إذ انهما بالنسبة إليه، أمران لا يفترقان وإلا فسيسقط كل شيء في عدم المعنى والتفاهة. هو أيضا معرفة الآخر، إذ ان هذا الآخر هو الذي يشكلنا في العمق (كما في الحب). من هنا، نجد على مرّ التاريخ أن هذا الآخر كان غير محتمل، غير متسامح، لأن الإنسان يحب أن «يكمل نفسه بالتأسس» في حين أن الإنسان، في الواقع، هو هذا الكائن غير المكتمل، الكائن الوحيد الذي هو بحاجة إلى الآخر. فالإنسان الحديث لا يعرف مطلقا كيف يعيش وحده، مثلما يجد باث (تماما كما باسكال، المفكر الفرنسي في عصره) الذي يقول: «إن الذي يعرف حقا كيف يحيا وحده هو الذي يعرف فعلا كيف يعيش برفقة الآخرين» (ص 260). ربما، من دون شك، هو هذا الحذر الذي أبعد أوكتافيو باث عن كلّ الحركات السياسية كما عن الالتزامات الحزبية. فعلى مرور السنين الطويلة، أظهر الشاعر وجهه «المفترس» إزاء كل فكرة «تقدمية»، يقول: «من غير المفيد أن نبرهن أن فكرة التقدم ليست سوى تطير معاصر: يكفي أن نشير فقط إلى وجود القنبلة الذرية» (ص 39)، ناهيك بنقده العنيف تجاه كل الالتزامات السياسية: «الثورة هي التمرد الذي تحول إلى نظرية وإلى نسق» (ص 151).
الأمر الأساسي، بالنسبة إلى أوكتافيو باث، هو أن نفهم بحميمية معنى الأشياء. فحين يحلل بدقة الالتزام السياسي ـ الذي دفع ثمنه قطع علاقته مع صديقه بابلو نيرودا ـ نجده يلتقط هذه الظاهرة كي يفند ويرفض هذا «العمى» الذي يسيّر الغالبية: «الجديد في الغرب، فكرة الثورة. ولدت الفكرة، في حيزها المعاصر، في القرن السابع عشر. لقد جمعت ما بين تقليدين مختلفين. الأول ذو أصول ثقافية وهو تقليد أقلوي: الطوباوية. أما الثاني فهو شعبوي وغريب عن التأملات الفلسفية، على الرغم من مصاهرته العديد من الأفكار والتيارات الدينية: الثورة. لقد حقنت الفلسفة المعاصرة في التمرد القديم هندسة الطوباوية العقلانية، وهي بذلك قد حولتها إلى نظام ايديولوجي. إن المتمرد، هو قبل أي شيء آخر، شخص منظر، رجل نسق، وفي الوقت عينه، نجده مخلصا للتقليد الديني للتمرد، أي انه شخص مؤمن. إن ذوبان الإيمان والنسق ينتج المناضل، محارب الفكرة. ثمة وجهان يجتمعان في المناضل: الكاهن والجندي. النموذج الثوري مزدوج: الكنيسة والجيش» (ص 152 ـ 153).
الشعر
ثمة أمر يرافق دوما التأمل النقدي عند أوكتافيو باث، وهو هذا الدفاع عن الثقافة وعن الشعر، اللذين يشكلان برهانين عن الفكرة الأسمى التي يكونها عن الإنسان. حول هذه النقطة، نجد في الكتاب صفحات رائعة يخصصها باث للدفاع عن الشعر كما لمديحه، لنكتشف عبرها عددا هائلا من أسماء الشعراء، المعروفين أو المجهولين من قبلنا: هناك ماتشادة، ألبرتي، بورخيس، إليوت، نيرودا، وهناك أيضا ماريانو أزويلا، مارتن لويس غوزمان، رولفو، غارسيا بونس، سابينس، سيغوفيا، بونبفاس نونو، مونتس دو أوكا، وتطول اللائحة. لا بد لنا هنا من أن نتوقف عند ثقافة باث الشعرية المدهشة، «المدوخة» (المسببة للدوار) إذ يعرف كيف يصل الكلمات بالجسد، الأدب بتعقيدات الوجود وسحره.
لكن، من دون شك، وعلى مرّ السنين، شعر أوكتافيو باث بالخيبة المريرة إزاء الاستدارات التي اتخذتها المجتمعات المعاصرة، هذه المجتمعات «الباردة، التقنية، الفاقدة للروح»، كما «هذه الطريقة التقنية التي جُعلت مساوية للفن»، يقول الشاعر المكسيكي: «حين عدت إلى فرنسا بعد العام 1950، حدث تبدل ثقافي، لا في فرنسا وحدها، بل في العالم بأسره: جاء الأساتذة وسموا النقاد ليستولوا على سلطة المبدعين. لقد نجح المنظرون في طرد الشعراء والروائيين. أعتقد أن الثورة الثقافية التي تحدثتم عنها في البداية لا يمكن لها أن تكتمل ـ ناهيك بالتصحيح الإيديولوجي ـ إلا إذا عدنا إلى المتخيل. علينا أن نعيد للمتخيل مهمة الأساتذة والمنظرين التي سرقوها» (ص 221).
كتاب الحوارات هذا، لا بدّ من أن يجعلنا نعيد الاعتبار لهذا «التمرين الأدبي» إذ يشكل ساحة حقيقية لتصارع الأفكار، يمكن أن نطل من خلالها على مكنونات نفس واحد من أكبر إنسانيي القرن العشرين.. وربما القرون اللاحقة.
السفير