تأجيل المؤتمر القطري: مَنْ يكاتب حزب البعث السوري؟
صبحي حديدي
مرّت الذكرى العاشرة لرحيل حافظ الأسد (6 تشرين الأول/ أكتوبر 1930 ـ 10 حزيران/ يونيو 2000) دون كبير ضجيج وعجيج، كما كان المرء ينتظر من نظام وراثي ـ عائلي كان الأسد الأب مؤسسه، ويواصل الابن بشار الأسد إنتاج وإعادة إنتاج تقاليده ومؤسساته وأخلاقياته، المرتكزة إلى الإستبداد والقمع والفساد والإفساد، في السمات الأشدّ ديمومة. كان من المحال، مع ذلك، أن تغيب عن المناسبة تلك اللغة الاحتفائية الدعاوية، التي لم يعد تليق بها حتى صفات الخطاب الخشبي الديماغوجي الأجوف، كأن يخبرنا الدكتور فيصل المقداد، نائب وزير الخارجية، أنّ سجلّ السلطة في ميدان حقوق الإنسان لم يكن ‘ناصعاً’ فحسب، بل هو ‘من أنصع السجلات العالمية في هذا المجال’، و’هذه حقيقة يجب على العالم إدراكها’!
وبهذا فإنّ المستطرف في أخبار النظام، الداخلية تحديداً، لم يكن العام العاشر على رحيل الأسد الأب؛ ولا ‘الدعم’ الخلاق الذي محضه الأسد الابن للجارة تركيا، ردّاً على البربرية الإسرائيلية ضدّ ‘أسطول الحرّية’ في عرض المتوسط؛ أو انكشاف أمر ‘الحرد القسري’ الذي فُرض على السفير السوري في واشنطن، عماد مصطفى، ردّاً على رفض الكونغرس الأمريكي التصديق على تعيين سفير أمريكي جديد في دمشق؛ أو، بالرغم من هذا وذاك، استقبال الأسد صباح اثنين من أعضاء الكونغرس الأمريكي، بريان بارد ولنكن دافيز، لبحث ‘واقع العلاقات الثنائية’، و’عملية السلام المتوقفة’؛ أو، أخيراً، تصريح وزير الدفاع الأسبق العماد أوّل مصطفى طلاس بأنّ تهديدات إسرائيل العسكرية ضدّ سورية هي ‘علاك مصدّي’…
الخبر الأطرف، في ناظر كاتب هذه السطور بالطبع، كان تأجيل انعقاد المؤتمر القطري الحادي عشر لحزب البعث الحاكم، الذي كان مقرراً هذا الشهر، بعد أن بثّت أجهزة السلطة إشاعات بأنّ المؤتمر ـ على العكس ـ سوف ينعقد في أجل أبكر، أي في شهر أيار (مايو) المنصرم. ولقد سمعنا هيثم سطايحي، عضو القيادة القطرية للحزب ورئيس مكتب الثقافة والإعداد والإعلام والعلاقات الخارجية، يعلن تأجيل المؤتمر لـ’أشهر قليلة’، بهدف إنجاز ‘مزيد من الحوارات والخيارات أمام الجميع’، و’ضرورة إجراء حوارات سياسية على جميع المستويات من أجل بناء سورية المستقبل’. من جانبه أعلن سعيد بخيتان، الأمين القطري المساعد للحزب، تأخير انعقاد المؤتمر إلى ‘أجل غير مسمى’، لإتاحة الفرصة أمام ‘إعداد الدراسات والتحضيرات للوصول إلى نتائج إيجابية تلبي طموحات المواطنين وتعزز عملية التنمية’.
تلك، بدورها، لغة مضللة تنتمي إلى الخطاب الخشبي الأجوف ذاته، ومن العبث التنقيب عن سلسلة الأسباب التي دفعت إلى تأجيل انعقاد المؤتمر، لأنها ببساطة لا تخصّ قيادات حزب البعث أو قواعده، بل هي أسباب ذات صلة بأجندة الرئاسة على الصعيد السياسي الإقليمي بصفة خاصة، وأولويات أشغال مختلف الأجهزة على الصعيد الداخلي، وتراجع قِيَم الحزب في آلة السلطة إلى حضيض غير مسبوق، وسواها من حزمة الأسباب واحتمالاتها. من الواضح، في المقابل، أنّ هذا المؤتمر سيسهم، وإنْ على نحو غير متعمَّد البتة، في فضح ‘منجزات’ المؤتمر الذي سبقه، وكيف ظلت القرارات والتوصيات والتعهدات حبراً على ورق، أو تكاد.
ذلك لأنّ آخر المؤتمرات القطرية، وهو العاشر الذي انعقد أواسط سنة 2005، اُريد له أن يكون ‘القفزة الكبيرة في هذا البلد’، حسب تعبير الأسد نفسه، في خطابه أمام مجلس الشعب يوم 5 آذار (مارس) تلك السنة، ويتضح اليوم أنه لم يكن قفزة بأيّ معنى، حتى إلى وراء!
وكان المؤتمر ذاك قد شدّد، في الشؤون الداخلية وحدها، على ‘تنظيم علاقة الحزب بالسلطة’، ودوره في ‘رسم السياسات والتوجهات العامة للدولة والمجتمع’، و’تحديد احتياجات التنمية’. وفي مسائل ‘تطوير النظام السياسي وتوسيع دائرة العملية السياسية’، أوصى المندوبون بـ’مراجعة أحكام دستور الجمهورية العربية السورية بما يتناسب مع التوجهات والتوصيات الصادرة عن المؤتمر’؛ وأكدوا ‘أهمية دعم أجهزة السلطة القضائية واستقلاليتها’، و’تكليف الحكومة بوضع آليات ناجعة لمكافحة الفساد، والحدّ من ظاهرة الهدر في المال العام’. وفي جانب آخر، اعتُبر بيضة القبان في وعود الأسد الإصلاحية، أكد المؤتمر على ‘أهمية إصدار قانون أحزاب يضمن المشاركة الوطنية في الحياة السياسية وذلك على قاعدة تعزيز الوحدة الوطنية’؛ و’مراجعة قانون الإنتخاب لمجلس الشعب والإدارة المحلية’؛ و’تعزيز مبدأ سيادة القانون، وتطبيقه على الجميع’، و’اعتبار المواطنة هي الأساس في علاقة المواطن بالمجتمع والدولة’.
وفي توصيات أخرى، أوحت بنيّة قلب النظام رأساً على عقب، بالمعنى الإصلاحي الإيجابي، طالب المؤتمر بمراجعة قانون الطوارىء، وحصر أحكامه بالجرائم التي تمسّ أمن الدولة، وإلغاء المرسومين التشريعيين رقم 6 لعام 1965 المتعلق بمناهضة أهداف الثورة، ورقم 4 لعام 1965 المتعلق بعرقلة تنفيذ التشريعات الإشتراكية، وإلغاء القانون رقم 53 لعام 1979 المتعلق بأمن الحزب؛ وإعادة النظر في قانون المطبوعات، بما يتيح إصدار قانون جديد للإعلام بأنواعه كلها. ليس هذا فحسب، بل ذهب المؤتمر إلى حدّ التأكيد على ضرورة حل مشكلة إحصاء عام 1962 في محافظة الحسكة (الذي حرم قرابة 70 ألف مواطن كردي من الجنسية، أو صنّفهم في خانة الـ’مكتوم’)؛ وتطوير المنطقة الشرقية، وتنميتها.
وليس المرء بحاجة إلى سرد الأدلة على أنّ التوصيات لم تذهب أدراج الرياح فحسب، بل انحطّ اداء السلطة في هذه الملفات، وفي كثير سواها، إلى درك أسفل لم يكن يقبل المقارنة حتى بأسوأ أواليات القمع والفساد والنهب والتخريب طيلة عقود ‘الحركة التصحيحية’ الثلاثة. وثمة، بذلك، دلائل تشير إلى تعزز يقين الأسد الابن بما كان الأسد الأب قد انتهجه تجاه حزب البعث، بعد أشهر قليلة أعقبت استلامه السلطة في تشرين الأول (أكتوبر) 1970. وكان، حينذاك، قد دشّن سلسلة سياسات ‘تصحيحية’ (ومنها انبثقت تسمية انقلابه العسكري)، استهدفت تدعيم أركان حكمه ليس على نحو وقائي مرحلي كما خُيّل للبعض آنذاك، بل على نحو منهجي طويل أخذنا نلمس آثاره سنة بعد سنة، وعقداً بعد عقد. بعض تلك التصحيحات شمل إعادة بناء الأجهزة الأمنية، وتبديل بُنية الجيش السوري القيادية، وتأسيس وحدات عسكرية مستقلة أشبه بجيوش داخل الجيوش (سرايا الدفاع، الوحدات الخاصة، الحرس الجمهوري، سرايا الصراع…)؛ وبعضها الآخر شمل الحياة السياسية والاجتماعية والنقابية والتربوية، واصطناع منظمات تتكفل بخنق المبادرات التلقائية للمجتمع المدني؛ وبعضها الثالث دار حول موقع حزب البعث في السلطة، الأمنية أوّلاً ثمّ السياسية، وفي الدولة والمجتمع.
وأغلب الظنّ أنّ الأسد الأب توصل إلى قناعة تفيد بأنّ حزب البعث لم يكن جماهيرياً في أيّ يوم، ليس بمعنى افتقاره إلى التأييد الشعبي فحسب؛ بل بمعني بنيته النخبوية، ونظامه الداخلي الذي يجعل التنسيب والإنتساب عملية معقدة، أقرب إلى اختبار السَحَرة. وفي أيّام المجموعة القومية (ميشيل عفلق، وصلاح البيطار، وأمين الحافظ…)، كما في أيّام المجموعة القطرية (حركة 23 شباط/ فبراير 1966، وأنصار صلاح جديد بصفة خاصة)، ساد اليقين بأن التنسيب الواسع للأعضاء الجدد سوف يؤذي جسم الحزب، ويتسبب في تمييع خطه السياسي وتركيبه الطبقي. ولهذا كان التركيز شديداً على ما عُرف آنذاك بـ ‘المنبت الطبقي’ للمرشح، وجرى تفضيل أبناء الطبقات الكادحة على أبناء الأغنياء من الإقطاعيين والبرجوازيين.
‘تصحيح’ الأسد الأب تمثّل في فتح باب الحزب على مصراعيه أمام المنتسبين الجدد، أيّاً كان منبتهم الطبقي، بل وتحويل الإنتساب إلى الحزب إلى أمر شبه إلزامي لا غنى عنه من أجل ضمان دخول المعاهد والجامعات، والحصول على الوظيفة. وكان الغرض الضمني هو، بالضبط، ما سعى القوميون والقطريون إلى تفاديه: نقل الخطّ السياسي إلى اليمين ما أمكن، وتدجين غالبية القواعد في خدمة الأجهزة الامنية، وتمييع التركيب الطبقي. وبالفعل، لم يمضِ وقت طويل حتى انقلب الحزب إلى مؤسسة انتهازية نفعية، خاضعة للأجهزة الأمنية، وانخرط الأعضاء في تعامل مباشر أو غير مباشر مع تلك الأجهزة، وأخذوا يعتبرون كتابة التقارير الأمنية بمثابة واجب تنظيمي، ودانوا بالطاعة إلى رئيس فرع المخابرات أكثر بكثير من طاعتهم لأمناء الشعب والفروع والقيادة القطرية ذاتها.
‘التصحيح’ الثاني، المتمّم، تمثّل في تضخيم دور ما يُسمّى بـالمنظمات الشعبية’، ومنحها ميزانيات وصلاحيات وإطارات عمل كفيلة بضمان استقلالها عن الحزب الحاكم من جهة؛ وسهولة إخضاعها، وخضوعها تالياً، لتوجيه الأجهزة الأمنية والعسكرية، من جهة ثانية. وهذه المنظمات كانت تعمل في قطاع العمال والفلاحين والحرفيين والمعلمين والطلبة والشبيبة والرياضة، إلى جانب الإتحادات المهنية التي تضمّ المحامين والأطباء والمهندسين والأدباء والفنانين. وكان من الطبيعي تماماً أن تشرف الأجهزة الأمنية على انتخابات تلك المنظمات، وأن يكون التقييم الأمني هو المعيار الأساسي في اختيار المرشحين لقيادة العمل.
ولقد تمّت عمليات عسكرة مباشرة لبعضها، كما جرى في مطلع الثمانينيات حين تولّى رفعت الأسد ومفارز ‘سرايا الدفاع’ تدريب الشبيبة على القفز المظلي، مقابل إعفائهم من معدّل الدرجات المطلوب للإنتساب إلى كليات الطبّ والهندسة. كذلك تمّت عسكرة اتحاد الطلبة، عن طريق إلزام الطلاب الجامعيين بأداء التدريب العسكري المستمر، والخضوع لمعسكرات صيفية. ولعلّ ‘التصحيح’ الثالث كان الأكثر ذكاء، إذْ تمثّل في استحداث منظمة شعبية جديدة باسم ‘طلائع البعث’، تشرف على التربية السياسية للأطفال في سنّ 6 ـ 11 سنة. ولأنّ الإنتساب إلى المنظمة كان إجبارياً، وجزءاً لا يتجزأ من منهاج التعليم في المرحلة الإبتدائية، فقد شبّت أجيال كاملة على العبارة الكليشيه: ‘بالروح، بالدم، نفديك يا حافظ!’؛ وكان الأطفال يكبرون وهم يستدخلون مبدأ عبادة الفرد في لاوعيهم الجنينيّ وكأنه مبدأ وطني وتربوي طبيعي تماماً، ويتشرّبون مبدأ قيادة الأسد بوصفه الأب القائد والوحيد القادر على حكم الأهل والمجتمع والوطن. ولأنّ 49 بالمئة من سكان سورية كانوا في عمر يقلّ عن 15 سنة، فإنّ منظمة ‘طلائع البعث’ لعبت دوراً حاسماً في تنشئة الأجيال الجديدة على قائد واحد، وحزب واحد، ومنظمة واحدة، وسياسة واحدة؛ وزرعت في نفوس الصغار حسّ الطاعة العسكرية، والولاء الأعمي للقائد؛ وجهدت لكي تكون هذه التربية بمثابة لقاح مبكّر، يحول بينهم وبين ‘التقاط مرض السياسة’ حين ينتقلون من مرحلة إلى أخرى في الدراسة والعمر والوعي.
هذه هي حصيلة حصاد حزب البعث في عقود ‘الحركة التصحيحية’، بما في ذلك العقد الأوّل من حكم الوريث بعد رحيل المؤسس؛ وتلك كانت الحال ساعة انعقاد مؤتمرَيْ البعث، التاسع سنة 2000، والعاشر سنة 2005؛ ولا مؤشرات تدعو إلى انتظار حال أخرى ساعة ينعقد المؤتمر المؤجل. تصفيق وتهليل وعبادة فرد، وتقارير زائفة عن الأوضاع التنظيمية والسياسية والإقتصادية، وإعلان العزم على الإصلاح والتجديد وتقديم الدماء الشابة، ثمّ انتخاب قيادة جديدة ذات ‘دماء شابة’ بالفعل، ولكنها ذات عقول مكبلة طائعة مطيعة، وأيدٍ مغلولة إلى الأعناق، وحناجر لا تتقن سوى الهتاف بحياة القائد: القديم/ الجديد.
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –