“امرأة من دمشق” للمخرجة ديانا الجيرودي
عن المدينة وتحوّلاتها من خلال لعبة بلاستيكية
بشار إبراهيم
يقوم فيلم “امرأة من دمشق”، للمخرجة ديانا الجيرودي (عام 2008، وثائقي مدته 53 دقيقة)، على مجموعة من الخطوط الدرامية، التي تتشابك فيما بينها لتعطي الصورة البانورامية التي شاءت، والقراءة التي تنوي.فعلى مستوى أول سنمضي وقتاً مع المرأة الدمشقية الشابة “منال”. وعلى مستوى آخر يطل علينا البحث المتخصص بشؤون اللعبة “فلة”. وعلى مستوى ثالث تأتينا اللعبة البلاستيكية “فلة” ذاتها، تارة عبر شاشة التلفزيون، وأخرى في الواقع، في الأسواق والمكتبات والبيوت.
تختار المخرجة ديانا الجيرودي نموذجها بإمعان، إذ نحن أمام “منال”؛ امرأة دمشقية، شابة، متعلمة، مثقفة، ذات مهارات عملية، وخبرات مهنية، من خلال عملها الإداري في مكتب إحدى الصحف، وتعاملها مع الوسائل الحديثة للعمل. كما أنها تتمتع بحياة أسرية مستقرة، بين زوج شاب، يبدو متفهماً ومتعاوناً، وطفلتين ساحرتي الجمال واللطافة والبراءة. دون أن نغفل عن التآلف الأسري العام، ما بين أهلها، وأهل زوجها.
هذه المرأة الشابة، بانتمائها لأسرة ميسورة الحال، ومن خلال تمازج العصري الحداثي بالتقليدي المحافظ، تكاد تكون نموذجاً للمرأة الدمشقية الشابة، عند مطالع القرن الواحد والعشرين، حيث تتلكأ دمشق في المسافة ما بين زمنين واتجاهين وثقافتين وخيارين، أحدهما يشدها نحو الدخول في عالم الحداثة والعصرنة والعلمنة والانفتاح على المستقبل.. وآخر يتمسك بالسلف والتقليد والاتباع، والمحافظة على مستوى الشكل والمضمون.
تبدو المرأة الشابة، على مستوى المضمون ونمط التفكير، منتمية إلى العصرنة ببعض ما فيها، من حيث إيمانها بضرورة عمل المرأة، وأهمية امتلاكها المعارف والعلوم والمهارات المناسبة للفعل، والقدرة على التعامل مع أحدث نتاجات العصر.. ومن حيث إدراكها لأهمية العمل وما يخلقه من آثار إيجابية على نفسية المرأة، وتفكيرها واهتماماتها، فينجو بها من ذاك الكائن “المتعطل، الثرثار، المنشغل بتوافه الأمور”، ليجعل منها كائناً أهلاً للاحترام والتقدير، من قبل ذاته، وممن حوله، على السواء.
أما على صعيد الشكل، فمن الملاحظ أن المرأة الشابة ستظهر منتمية إلى السلف، إذ سنراها في الفيلم مرتدية الحجاب، دائماً وأبداً، ليس في الشارع، أو مكتب العمل، فقط. وليس في غرفة الاستقبال، والصالون. بل كذلك في المطبخ، وغرف نوم الأطفال، وحتى في الأوقات الخاصة التي تمضيها مع طفلتيها وزوجها، وفي مختلف تفاصيل حياتها اليومية.
تبدو الكاميرا ضيفة على المرأة الشابة، فتظهر هذه أمامها دائماً بزيّها الكامل، دون أي تبسّط. وربما أقصى ما يمكن أن تفعله للكاميرا هو السماح لها بتصويرها، بالتلصص عليها في المطبخ، والدخول معها إلى غرفة نومها، حيث تضع قدراً لطيفاً من مساحيق التجميل على وجهها، وعندما تلون شفتيها. ومن حسن الحظ، أو ربما هو تدبير مقصود، فإن مديرة التصوير والإضاءة، هي امرأة مثلها: جود كوراني!.. وهنا، أذكر في غير فيلم وثائقي من الطراز نفسه، أن النساء موضوع الفيلم كن يتباسطن أمام الكاميرا، ويخلعن الحجاب، ويظهرون باللباس المعتاد لبسه في البيت. ولكن هنا، وفي الوقت الذي يحاول الفيلم أن يقدم رؤية مغايرة، فإنه يخضع لسلطة نموذجه، ويقبله كامل قيافته، في كل حال، وكل وقت.
السؤال الأهم، الذي ينوي الفيلم التعامل معه، واقتراح مشاريع إجابات عليه، هو كيف يمكن لهذا النموذج الجديد للمرأة الدمشقية، أن ينشأ؟ ما العوامل والدوافع الفكرية والتربوية والاجتماعية، وربما الدينية، التي ساهمت في نشأة هذا النموذج الدمشقي؟
الإجابة تكمن في الخطين الدراميين الموازيين، اللذين يقدمهما الفيلم، وإن بدا أحدهما مستقلاً بشكل كامل، إلى درجة يمكن الاستغناء عنه، دون أن يتخلخل الفيلم أبداً، وهو حضور الباحث الاجتماعي، وربما هو صاحب علاقة ما مع مشروع إنتاج اللعبة “فلة”، وهو ما لم يبينه الفيلم!
المهم أن الفيلم سيُعنى بتقديم مداخلات وافية للرجل، بين الحين والآخر، يتحدث من خلالها عن فكرة مشروع اللعبة البلاستيكية “فلة”، وصناعتها، ودلالاتها ومعانيها وأهميتها لدى الشعب العربي، بما تمثله شكلاً ومضموناً، اعتقاداً منه أنها تشبه بناتنا. تحب والديها. مجتهدة. صادقة. مؤدبة.. وهذا ما يجعلها تمثل نموذجاً تربوياً، تعليمياً، وترفيهياً أيضاً..
تماماً كما يتحدث عن التغييرات التي جرّت على هذه اللعبة “فلة”، نزولاً عند رغبة الجمهور!.. وهي في الحقيقة، وإن كانت تتبدى شكلياً على أنها تغييرات طالت اللعبة “فلة”، فهي في الجوهر والمضمون التعبير العميق عن التغييرات التي جرت في عمق المجتمع الدمشقي، والسوري، والعربي عامة. هذه التغييرات التي بدأت تعبر عن ذاتها في العقود الأخيرة، ممثلة بظهور الحجاب، وانتشاره، بأشكال وألوان وهيئات مختلفة.
تنتبه المخرجة ديانا الجيرودي لهذا الأمر. وربما هي صنعت فيلمها أصلاً من أجل قول ذلك. إذ أنها، ومنذ المشهد الأول في الفيلم، اعتمدت التعليق الصوتي (بصوتها)، لتتحدث عن دمشق التي باتت مجتمعاً خليطاً، إلى درجة أنها باتت متحفاً للثقافات والأزياء والأشكال والهيئات.. مما يصعب تصور تواجده وتجاوره، في آن. وتجد تعبيرها الصريح بالحديث عن ظهور حجاب من نوع جديد، لا يشبه ذاك الحجاب الذي كانت تضعه الأمهات والجدات.
لا حاجة بالمرء للتفكير بمدى التنوع المذهل في الأزياء الذي نشاهده في شوارع دمشق: من الحجاب التقليدي، للسيدات المتقدمات في السن، إلى الحجاب الجديد المنتشر بين الفتيات، وانتهاء بالسفور، وبناطيل الجينز الضيقة، والتنورة القصيرة.. فقد بات هذا مما تألفه العين، وتتآلف معه، إلى درجة عدم إثارة سؤال: من أين أتى هذا؟.. هل من الدين الإسلامي؟.. هل من السلفية التقليدية المحافظة؟.. أم من التدين العصري؟.. أم من مناهج تربوية وتعليمية؟.. أم من وسائل الإعلام وما تقدمه من ثقافات وافدة؟..
مع الخط الدرامي الثالث في الفيلم، يمكننا الانتباه إلى أهمية اللعبة البلاستيكية “فلة”، وما يمثله حضورها من خلاصة مكثفة ذات دلالة، على التشابه المتبادل بينهما، أي بين اللعبة “فلة”، والفتاة الدمشقية. هذا التشابه الذي يجعل من العسير الإجابة عن سؤال: من خلق من؟.. هل الفتاة الدمشقية، هي التي خلقت اللعبة “فلة”، على شاكلتها، وجعلتها ترتدي مثلها؟.. أم أن اللعبة “فلة” هي التي خلقت الفتاة الدمشقية، على شاكلتها، وجعلتها ترتدي مثلها؟..
سؤال صعب فعلاً، ولكن لا بد من البحث فيه، ومحاولة الوقوع على إجابة له. والفيلم من خلال تركيزه على حضور شاشة التلفزيون، التي لا تتوقف عن ضخ الصور المختلفة للعبة “فلة”، بأشكال وهيئات وممارسات متعددة. والفيلم أيضاً من خلال حضور الطفلتين (يارا، نايا) اللتين تتلقيان هذا السيل، الذي لا ينقطع، من التلقين الإعلامي.. الفيلم، من خلال ذلك، يقدم اقتراحاً مدهشاً في شأن هذه العلاقة، وهذه الدوامة!..
ما بين المرأة الشابة، والباحث الاجتماعي، واللعبة “فلة”، سيبدو لنا للوهلة الأولى، أن المجتمع بتحولاته هو من أعاد إنتاج اللعبة “فلة” على الهيئة التي يريد!.. وهكذا، تدريجياً تمّ إلباس اللعبة “فلة” زياً إسلامياً عنوانه الحجاب، وفق الشكل الجديد له، ومن ثم زياً خليجياً سمته العباءة السوداء الطويلة، وباتت اللعبة “فلة” معنية بأداء الصلاة، وتنفيذ تعاليم الدين، والالتزام بالسلوك الإسلامي..
ولكن، قليلاً من التفكير، سيقودنا للانتباه إلى حقيقة أن اللعبة “فلة”، بما صارت عليه، باتت هي من تنتج بنات الأجيال القادمة، وتحدد لهّن الملامح العامة لما ينبغي عليهن ارتداؤه، وما يجب ممارسته، أو الامتناع عنه!.. ولم يعد الأمر حكراً على التلقين الاجتماعي لمفاهيم العيب والحرام، بل أضحت اللعبة “فلة”، مدعومة بجهاز التلفزيون، العامل الأقوى في مجال التلقين هذا، الذي يتجاوز العامل الاجتماعي ذاته. ونكتشف قدرة التلفزيون في التأثير على الطفل، مثلاً، عندما تُظهر شاشة التلفزيون اللعبة البلاستيكية “فلة” تصلي، فتقوم الطفلة ذات السنتين، من فورها، بأداء بالصلاة، متتبعة الهيئات، مقلدة الحركات!
والفيلم، في كل حال، سيهتم بعرض هذين النوعين من التلقين، المباشر وغير المباشر، اللذين يتبديان من خلال التفضيلات الاجتماعية، كما حين يرى أهل المرأة الشابة أن “دورة خياطة”، هي أفضل من “دورة الكومبيوتر”، باعتبار أن تعلم الخياطة ينفع المرأة في بيت زوجها!..
بملامسات نبيهة، يبدو فيلم “امرأة من دمشق”، محاولة لقراءة سوسيولوجية لمجتمع محدد، في فترة زمنية أبرز سماتها التحولات الكبرى، على مختلف الصعد. والفيلم إذ حاذر الخطابية والوعظ والإنشاء.. وإذ ترك شخصيته الأساسية تتحرك بحرية كاملة أمام الكاميرا، تمارس حياتها الاعتيادية، بتعاون واضح من أسرتها الصغيرة، خاصة زوجها، وأسرتها الكبيرة؛ أهلها وأهل زوجها.. فإن الفيلم لم يتخل عن منطق الحوار مع الشخصية الأساسية “منال”، ومع الباحث الاجتماعي، من خلف الكاميرا! وهذا ما أضعف الفيلم.
على المستوى الفني والتقني، في الفيلم لقطات جميلة ومعبرة. جيدة الالتقاط. والكاميرا نشطة، وموجودة حيث يجب. وهذا يُحسب لمديرة التصوير المحترفة (جود كوراني). فيما بدت مهمة بناء الفيلم مونتاجياً على قدر من الصعوبة، خاصة وأن الفيلم يقوم على خطوط درامية متوازية، لا بد من القيام بجدلها، مع بعضها البعض، وتحقيق سمة التشابك والتداخل، والتناغم والانسجام، لتمنح الفيلم بنية عضوية متماسكة، وقادرة على الوصول والإقناع.
يقع المونتاج، الذي نفذته المخرجة ديانا الجيرودي، بشيء من الأخطاء، سواء ذات العلاقة بفلسفة المونتاج، من ناحية القطع والاستمرار والتواصل، في مشهد أو اثنين.. أو تلك التي تتعلق ببنية الفيلم، من حيث ضرورة التمكن من تشبيك خط الباحث الاجتماعي بشكل أكثر، أو ملاحقة استطرادات، لم تزد الفيلم غنى، أو قوة.. وكان يمكن التخلص منها، دون أن تؤثر على الفيلم، إلا ربما بزيادة رشاقته.
المستقبل